سؤال: فحوى فيلم “السلام”[1] أنَّ المسلمين استقرّ بهم المقام في بلاد دخلوها بالسلام، أمّا البلاد التي دخلوها تحت ظلال السيوف فلم يبق لهم فيها أثر يُذكَر مهما طال مقامهم بها، فعلامَ يدلُّ الدخول بالسلام، وما مدلول روح السلام؟

الجواب: الأصل في الإسلام هو السلام، أما الحرب فهي أمرٌ عارض طارئ، ولا يُشرَع القتال في الإسلام إلا للدفاع عن القيم التي لا بدّ من مراعاتها وهي الضروريات الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإن زحف عليكم مَن يقصد السوء والشرّ، ودَاهَمَكم وهدَّدَ وجودَكم، فلا يمكنكم أن تستقبلوهم بالزهور، بل إنه لَيتعيَّن القيامُ بحملةِ تعبئةٍ شعبيةٍ شاملةٍ وإعداد كلّ ما تقتضيه المعركة.

ومن الأسباب المشروعة للحرب نصرةُ المظلومين ورفعُ الظلم أينما كان وعلى أيّ شخص وقع، والحيلولةُ دون من يريد أن يقف حجرَ عثرة في مسار حرية الفكر.

الهدف هو الردع فحسب

أسّس القرآن الكريم مبدأ الردع لإرساء الأمن والسلام، فقال: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ (سورة الأَنْفَالِ: 8/60)، يأمرنا القرآن الكريم أن نتخذ شتى أنواع الإعداد لمواجهة أي خطر محتمل، ولنكون قوة رادعة تزرع الخوف في قلوب الأعداء وتحول دون وقوع الحرب ابتداءً.

وعلى مدى تاريخ الإسلام كلما سوّغت الظروف الحربَ لجأت القلوب المؤمنة -مضطرةً- إلى استخدام السيف أحيانًا؛ وغالبًا ما كان الهدف من استخدام هذا الحق كبْحَ جماح القوى المعتدية، ومعاقبةَ المستبدّين الذين يخلّون بالأمن والتوازن العام في العالم، والحيلولةَ دون انتشار الفوضى في الأرض، وإقامةَ الحق والعدل فيها.

ولعلّ سائلًا يسأل: هل رُوعيت هذه الأهداف والمقاصد بتمامها على مدى تاريخ الإسلام؟

المشهد العام يقول: إن المسلمين قد راعوا الاستقامة في هذا الأمر، غير أن هناك فترات وعهودًا معينة وقع فيها البعض في خطإ اجتهاديّ، بتعبير آخر لما رُجِّحت العدالة النسبية على العدالة المحضة في بعض الفترات لم يُراعَ هذا الأساس بحذق ودقة عالية وإن كان ذلك في سبيل إحقاق الحق، فمثلًا بعض المعضلات لم يراع هذا الأساس فيها مراعاة كاملة إذ كان يمكن حلُّها بالسيف الألماسيّ للقرآن والسنة الصحيحة أي دساتيرهما المحكمة، ولا حاجة حينئذ إلى السيف الماديّ، وأرى أن هذا الضرب من الخطإ في الاجتهاد كان من أسبابِ قِصَرِ عُمرِنا في بعض البلدان خلال فترات مختلفة عبر التاريخ.

السلام قيمة إنسانية عالمية

بين الماضي واليوم اختلاف كبير في الظروف، فقد تكوّن في العالم كله اليوم قدرٌ ما من الثقافة الديموقراطية، وازدادت أهمية العلم والبيان أكثر مما مضى، وأصبحت للدساتير الألماسية للقرآن والسنة أهميةٌ متميزة وتأثيرٌ خاصّ في الدفاع عن الحق والحقيقة وتشريبِها للقلوب في جوٍّ كهذا لا تتأتى فيه الغلبة على المدنيين المثقفين إلا بالإقناع؛ فمن الأهمية بمكان استثمار العلم والبيان والفن في التعبير عن القيم الإنسانية العالمية مثل التضحية والتفاني ونذر العمر في سبيل الآخرين؛ تلك القيم التي ولّدتها وعَمَرَتها القلوب المؤمنة في أعماق أرواحها.

أصبحت للدساتير الألماسية للقرآن والسنة أهميةٌ متميزة وتأثيرٌ خاصّ في الدفاع عن الحق والحقيقة وتشريبِها للقلوب في جوٍّ كهذا لا تتأتى فيه الغلبة على المدنيين المثقفين إلا بالإقناع

إنَّ فيلم “السلام” انطلق مِن هذا المبدإ أعني انفتاح الأرواح الفدائيّة على العالم، ولما عَرَضوا لي أجزاءً منه قبل عرضه لأبدي وجهة نظري حاولت أن أقيّمه إجمالًا في حدود معرفتي رغم أني لا علم لي بالأفلام والسيناريو والإنتاج؛ والفيلم عمومًا فيه جوانب إيجابية حرية بالتقدير؛ لأنه يعرض مسألة الفكر والمبدإ والتضحية والإخلاص بما يتوافق ويليق كثيرًا بإنساننا، ومسألةَ انفتاحهم على أقاليم كثيرة على مستوى العالم من إفريقيا والشرق الأقصى حتى البلقان.

أجل، كان من المهم جدًّا أن يُعنَى المعلِّمون بمَن يعيش في مثل هذه البلدان ويَنْشَأ على ثقافات ومبادئ مختلفة، وأن يغتمّوا لأمرهم وينذروا حياتهم في سبيلهم، ويليّنوا قلوبهم بالحب والقيم الإنسانية، ويسموا بهم إلى مستوى نضج معين؛ وهذا الذي حاول الفيلم أن يشير إليه.

وتعلمون أن فطرة الإنسان تكمن فيها ردة فعل تجاه الأجنبي، وتكون ردود الفعل أشدَّ وأصعب لدى من سَامَه الآخرون الصهر والسَّحقَ والنفي من قبل، إذ يتعسر عليهم قبول الآخرين، ورغم كل هذه العوارض السلبيّة فإن ما قام به المتطوعون التربويون المهاجرون إلى الدول المختلفة، ونفوذَهم إلى قلوب الشعوب في هذه البلاد، وتأسيسَهم جسورًا من الحب والحوار والسلام بين الثقفات والمجتمعات المختلفة لهَو أمرٌ جديرٌ بالاحترام والتقدير.

معلِّمون تُقبَّل أقدامُهم

إن إنساننا لما اتَّخذ مبادئ القرآن والسنة الماسية مُرشدةً له غدا رحبَ الصدرِ رحابةً تتيح لكلّ من يدخله أن يتربّع فيه، حتى لكأنه رسالة تدوّي في أرجاء الدنيا كلِّها تنشد الحبّ والعالم الجديد.

ومِن مشاهد الفيلم: معلِّمٌ رأى طالبين على جسر تاريخيّ يتشاجران، وفجأةً سقطا في النهر، فألقى بنفسه على إثرهما لينقذهما، ففداهما بروحه وغرقَ، فلما رأى الخصمان موقف المعلم الفدائي تعانقا وراحا يبكيان؛ لم أملك عينيّ أمام هذا المشهد، وربما كان هذا حال أكثر المشاهدين، ولا تختلف المشاهد التي مُثِّلت في إفريقيا وأفغانسان عن هذا، وأهمّ ما في هذه المشاهد أنها واقعية، بل إنّ الممثلين للفيلم ذكروا أنّهم سُحِروا بهذه اللوحة الواقعية من تضحيات المعلمين في الأماكن التي ذهبوا يصورون فيها.

هؤلاء المعلمون الفدائيّون وجدوا أنفسهم أحيانًا وسط حرب وما برحوا مدارسَهم وطلابهم حتى أثناء حصار المدن التي أقاموا بها؛ وكان لمشاعر الوفاء الفياضة هذه أثرها في الحفاظ على الطلاب؛ ولما لم يعبأ هؤلاء المعلمون بالموت ومضوا في أداء رسالتهم انفتحت لهم أبواب القلوب.

 المعلمون الفدائيّون وجدوا أنفسهم أحيانًا وسط حرب وما برحوا مدارسَهم وطلابهم حتى أثناء حصار المدن التي أقاموا بها؛ وكان لمشاعر الوفاء الفياضة هذه أثرها في الحفاظ على الطلاب

ونظّم هؤلاء الفتية المهاجرون في سبيل الغاية المثلى رِحلات إلى أرجاء العالم كافة؛ منهم من ترك عروسه بفستان العرس وسافر، ومنهم من ارتحل وقد خطب حديثًا، ومنهم من قبّل أيدي والديه الباكيين مستودعًا اللهَ إياهما وانطلق في طريقه، وبعد هذه التضحيات أليس جديرًا بهم أن تُقبَّل أقدامهم لا جباههم فحسب؟

لا نستطيع القول إن كل واحد منهم يفقه فلسفة النهج الذي يسير فيه بكل أبعاده، إلا أنه لما قيل لهم: “سيروا على بركة الله” امتثلوا متمسكين بشعور التسليم في قلوبهم متوكلين راضين دون أدنى تذمر، يسوقهم الله فينساقون انسياقًا مباركًا، ولم أجد ولم يبلغني -وإن وقع- أنَّ أحدًا من هؤلاء المهاجرين تبرم وتقهقر؛ آلاف الشباب النوابغ تخرجوا في أرقى الجامعات، وما إن صدرت شهاداتهم حتى انطلقوا بشوقٍ عارمٍ وعشقٍ بالغٍ، ولم يفكِّروا إلا في غاياتهم المثالية رغم تطلعات آبائهم وأمهاتهم ومَنْ حولهم، ومضوا في طريقهم عن طيب خاطر وحاديهم:

أَبِالنَّفْس يُفتَنُ مَن هو بالحِبِّ مُغرَمُ

أبالحِبّ يُفتَن من هو بالنفس مُتيَّمُ

سلكنا طريق العشق وإننا لمجانينُ هُيَّمُ

أيا قلبِ مَهْ، فما غايتنا السمعة والمجد

صَبَغُوا القلوب بالسلام

انطلق إخوتُنا هؤلاء ينشرون السلام حيث حلّوا، وغدت الكتب والمجلات وبرامج التلفزة المختلفة مرآة لما فعلوا، فَصَبَغُوا القلوب بالسلام كما نقشوه بالأقلام[2]، وعلّموا طلابهم معنى السلام، فإذا مروا باللغو مروا كرامًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا.

هكذا، فإن سِرتم على هذا النحو فستُخلّدون حيثما حللتم، وتحظى رسالة السلام التي تحملونها بمكانها في النفوس، وتظل تدوّي في الأفئدة والصدور؛ فالحق تعالى لا يُضِيع هذه الخُطى سدًى؛ فكما ورد في الحديث إن تقربتم إليه شبرًا تقرب إليكم ذراعًا، وإن تقربتم إليه ذراعًا تقرب إليكم باعًا، وإن أتيتموه تمشون أتاكم هرولةً، فكان سمعكم الذي تسمعون به، وبصركم الذي تبصرون به، ويدكم التي تبطشون بها… فكيف لا تُؤثّرون في النفوس إن منّ عليكم الحق تعالى بهذا اللطف الواسع؟

وحمادى القول أن السلام هو رأسمالنا الوحيد اليومَ، يومَ أن أُغمدت السيوف المادية، ومقتضى السلام أن تكون بلا يد إزاء من ضربك، وبلا لسان تجاه من سبّك، وبلا قلب يغضب أمام من آذاك، فعلينا ونحن ماضون في طريقنا ألا نعبأ باللوم، وأن نثبُتَ على موقفنا ونقاوم ما حَيينا، وأن نقول: “هذه دارُ تحمُّل، لا دار تضجُّر”، وأن نبتغي الحركةَ الإيجابيَّةَ دائمًا، وأن نعكُف على واجبنا فحسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]  فيلم “السلام” (2013م – باللغة التركية) يتحدث عن معلمين فدائيين ذهبوا إلى أنحاء العالم لينشروا فيها روح السلام التي يحملونها وتضحياتهم ومعاناتهم، وكل محتواه واقعي لا خيال فيه.

[2]  مشهد من الفيلم: يكتب المعلم كلمة “السلام” على السبورة ويشرح معناها للطلاب.

المصدر: الجرّة المشروخة، إشراقات الأمل، روح السلام

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.