• القاهرة

قابلتُه في مقر دار النيل بالقاهرة، شابٌ عربىٌّ مثقف واسع الاطِّلاع لديه من الخبرات المعرفية والحياتية مايتضح جليًّا أنها أكبر من سنِّه، فهو يتقن عدة لغات ويعمل بالصحافة والترجمة والعمل الأكاديمي، حاصلٌ على عدة شهادات من كليات مختلفة وصل في بعضها إلى درجتي الماجستير والدكتوراه

أضِفْ إلى ما سبق تواضعه الجمّ، وحديثه العذب، يبهرك حين يحدِّثك –دون أدنى حرج– عن بداياته المتواضعة، وظروف أسرته التي اضطُّر معها أن يترك الدراسة حينًا ليعمل أعمالاً شاقَّة ذات عائد بسيط ليكفل نفسه وأهله، لكن يظل حلم استكمال الدراسة يراوده، وصاحب الهمّة العالية لا يقف دون همته شيء، فيحاول الجمع بين الدراسة والعمل على صعوبته، حتى قدَّر الله له أن يعمل كحارسٍ ليليٍّ لمدرسةٍ تحت الإنشاء كانت إحدى مدارس الخدمة في بلده، وهناك وجد الفتى ضالَّته، وهيَّأت له الأقدار أن يلتقيه بطلٌ فريدٌ من أبطال الخدمة، يلمح في عيني الفتى الناشئ النبوغ، وفي مقلتيه عشق العلم، فيهيئ له السبل، ويفتح له الطريق، وينتقل به في دروب العلم طورًا بعد طور، ويتدرج معه في سلم المعرفة درجة بعد أخرى.

كنتُ مشغولاً عن تفاصيل الحكاية بهذا الأثر الذي تركه بطلُ الخدمة هذا في حياة الشاب النابه، فهذا النوع من الأبطال الذين يصنعون المعجزات ثم يتوارون عن الأنظار كأنهم ما صنعوا شيئًا يُبهرني ويأسرُني.

لستُ أذكر القصة بتفاصيلها، لكن ما لستُ أنساه حقًّا هو بريق عيني محدثي صاحب القصة وهو يذكر بطله هذا، ويسأل عنه إخوانه: أين هو الآن؟ أوليس بخير؟ أبلغوه سلامى!!

نعم، كنتُ مشغولاً عن تفاصيل الحكاية بهذا الأثر الذي تركه بطلُ الخدمة هذا في حياة الشاب النابه، فهذا النوع من الأبطال الذين يصنعون المعجزات ثم يتوارون عن الأنظار كأنهم ما صنعوا شيئًا يُبهرني ويأسرُني.

إي والله، تلك البطولات التي تتعلق بصناعة الإنسان وإعادة صياغته من جديد، أعظم أثرًا في حياة الأمم والشعوب من الصناعات الثقيلة، وأوسع مدى من الفتوحات العسكرية، ألا ما أعظمها من صناعة وما أدقَّها من صياغة.

(2) نيجيريا

شاءت إرادة الله أن أكون على موعد لحضور مؤتمر في نيجيريا عن سيرة النبى صلى الله عليه وسلم بعنوان “التربية المحمّدية وتنشئة الأجيال” بولاية كاتسينا، ليكون لي شرف مشاهدة الخدمة عن قرب، ومعايشتها في ميدان من ميادين جهادها الأبيض، وقد كانت لي في تلك الرحلة مشاهداتٌ وملاحظات شتَّى، كلها جديرة بالتسجيل والتأمل واستخلاص الدروس.

لكن في الحقيقة لم تكن مدارس الخدمة على انتشارها وجودتها، ولا المستشفى النظامية على روعتها وفخامتها، ولا جامعة النيل على سعتها وتعدُّد مجالاتها، هي أكثر هذه المشاهدات تأثيرًا في نفسي وانطباعًا في مشاعري ووجداني.

أجل، لم تبهرني مؤسسات الخدمة على مافيها من عناصر الإبهار بقدر ما أبهرني ذلكم العنصر البشرى الذي أوجد هذه المؤسسات من الأساس، وبثَّ فيها من روحه، وعمَّرها بِنَفَسه الإيمانيّ، إنسان الخدمة وبطل التضحية ومهندس الروح ونموذج الفداء هو الذي أسَرَني.

لستُ أنسى –ما حييتُ-ذلكم الرجل الكريم الذي كان رفيق رحلتنا ومرشدها وموجِّهنا فيها منذ أن وطئت أقدامُنا أرض نيجيريا إلى أن غادرناها إلى بلادنا، كان أكبرنا سنًّا، لكنه كان أعلانا همَّة وأقوانا عزيمةً وأكثرنا حيويَّةً وانطلاقًا، فنفخ فينا من روح عزيمته، وجدَّد فينا النشاط بهمته، وأحيا فينا الأمل بحيويته، فانبعثت في النفوس همَّةٌ كانت راقدة، ونشطت من عِقالها حيويةٌ كانت راكدة، فإذا بنا نُنجِز في يومٍ واحد مالا يُتصوَّر أن يُنجَز في أيام متواليات.

أحيانا ينعقد لسانُك، ويجفُّ مداد قلمك، حين يكون جَيَشَانُ مشاعرك أكبر من كل تعبير، وأعمق من كل تفسير، لقد كان أخونا الفاضل هذا – بالنسبة لى – أصدق بيانٍ للخدمة، وأعمق تفسير لها.

إن نسيتُ فلا أنسى أنه -وهو الغريب في هذه الأرض، القادمُ إليها من بلادٍ نائية– استطاع بهمته العالية، وفعاليته الفائقة وخفَّة ظله المعهودة أن يجمع حول فكرة الخدمة (خدمة الإسلام والإنسانية) هذا العدد من الباحثين المتميزين والأكاديميين البارزين، والشباب الواعدين من الإخوة النيجيرين ومن غيرهم من أهل إفريقيا، ناهيك عن التواصل مع قادة الفكر والرأي الرسميين وغير الرسميين.

صحيحٌ أن الفكرة التي تُقدِّمها الخدمة للإنسانية فكرةٌ معقولةٌ، والأفكار المعقولة بطبيعتها جديرة بالبقاء حريَّةٌ بالانتشار، بيد أن الأفكار الجيدة تحتاج إلى رجالٍ يُحسنون حملها، ويتفنَّنون في عرضها ويجمعون الناس عليها، وهذا ما رأيتُه في هذا الأستاذ في تواضعٍ جمّ وأدبٍ راقٍ وتفانٍ في الخدمة ونكرانٍ للذات.

لم تبهرني مؤسسات الخدمة على ما فيها من عناصر الإبهار بقدر ما أبهرني ذلكم العنصر البشرى الذي أوجد هذه المؤسسات من الأساس، وبثَّ فيها من روحه، وعمَّرها بِنَفَسه الإيمانيّ.

فليأت خبراء التنمية البشرية لينظرُوا –إن كانوا جادّين– إلى نموذجٍ فريد يحمل في لفتةٍ واحدة كلَّ أدوات التواصل الفعّال، ولْيأتِ محترفو الإدارة لينظروا إلى نموذج إدراىٍّ رائع يجمع في حملةٍ واحدة بين تحقيق الأهداف على أعلى مستوى وشرف الوسيلة ونبلها.

أخذَنا الرجلُ في جولات وزيارات تنوعَّتْ في طبيعتها وفي مدلولاتها كذلك –ولابدَّ لى من الكتابة عنها وعن غيرها من المشاهدات إن شاء الله– فالرجل الذي اصطحَبَنا لزيارة واحدٍ من أحد أهم رجالات الدين في نيجيريا، لم يفُتْهُ أن يصطحبَنا جميعا لزيارة أخينا الذي كان مسئولاً عن إعداد الطعام لنا طوال الرحلة، زُرناه في بيته البسيط الأنيق، وواسيناه في أقاربه أو أقارب زوجته المُعتقلين في سجون النظام التركي.

لك أن تتخيّل أن رجلاً كهذا قد حيل بينه وبين زوجته وأولاده، فهو في بلدٍ غريب ناءٍ، وهم في بلدهم ووطنهم كأنهم غرباء، ورغم ذلك لا تكاد البسمة تفارق محيَّاه، اللهمَّ إلا من أجل دمعاتٍ يذرفها إذا مدحه أحدٌ أو أثنى عليه تصريحًا أو تلميحًا.

أحدثكم –يا سادة– عن رجلٍ يخاطب مثلى بقوله: أستاذي! وأنا الذي لا أصلح –والله– أن أكون تلميذًا بين يديه، نعم درستُ في الأزهر أصول الدين علمًا، وتعلَّمتُ من صاحبنا ومن إخوانه وأقرانه أصول الدين تطبيقا وعملا.

لكم الله يارجال الخدمة ويا تلاميذ الأستاذ فتح الله كُولن، لكأنَّما جيء بكم في زماننا هذا لتقيموا الحجَّة علينا، وبلساننا نزل القرآن.

(3) القاهرة

كان حضور المؤتمر وزيارة مؤسسات الخدمة في نيجيريا مُلهِمًا بالنسبة لي، هيَّجتْ فيَّ هذه الزيارة كوامن الأشجان، وبعثت فيَّ بوارق الأمل، وعُدتُ من هناك كهذا الذي شرب من شراب العشق حتى أثمله الشراب فأخذ ينوح ويبوح ويغنى، ويقول:

سقوني وقالوا لا تُغَنِّ ولو سقوا           جبال سُلَيمى ماسُقِيتُ لغنَّتِ

فأخذتُ أحدِّث كلَّ من لقيتُ –ممن يعرفون الخدمة وممن لا يعرفونها، المحبين لها أو المتحاملين عليها– أحدِّثهم هذه المرَّة بما رأيت لا بما سمعت “وما راءٍ كمن سمع”.

جمعنى لقاءٌ بالإخوة الأكارم في مقر مجلة حراء بالقاهرة، ودار حديثٌ حول الزيارة ومشاهداتنا حولها، وتطرَّق الحديث إلى ذلكم الأستاذ الحبيب الذي تشرَّفنا بالتعرف عليه أثناء الزيارة وكان مرافقنا فيها.

الفكرة التي تُقدِّمها الخدمة للإنسانية فكرةٌ معقولةٌ، والأفكار المعقولة بطبيعتها جديرة بالبقاء حريَّةٌ بالانتشار، بيد أن الأفكار الجيدة تحتاج إلى رجالٍ يُحسنون حملها، ويتفنَّنون في عرضها ويجمعون الناس عليها، وهذا ما رأيتُه في هذا الأستاذ في تواضعٍ جمّ وأدبٍ راقٍ وتفانٍ في الخدمة ونكرانٍ للذات.

وإذا بالأخ الكريم الذي يدير اللقاء يفاجئنا ويقول: تعرفون الدكتور فلان –يقصد الشاب العربى الذي تحدَّثتُ عنه في بداية كلامي– قلنا: نعم، قال: هذا الأستاذ الذي لقيتموه في نيجيريا كان هو بطل قصته!!

كم كان الأمر مفاجئًا لي ومدهشًا في الوقت ذاته، ما هذا؟ أهوَ هوَ؟ أي نوعٍ من البشر أمثال هذا الرجل؟ ذاكم الذي يحمل حقيبة سفره على كاهليه، مهاجرًا إلى ربه، شعاره: “وعجلتُ إليك ربِّ لترضَى”، ويحمل عصاه في يده مرتحلاً بين البلاد، غارسًا في كل بلدٍ ينزل فيه بذرةً طيبة ونبتةً مباركة، حتى إذا ما آتت الثمرة أُكُلها، وأينعت ثمارها واستوت على عودها، ارتحل إلى أرضٍ أخرى قاحلة، ليغرس فيها بذورًا جديدة، ويستنبت فسائل الخير، وينشر الزهور والرياحين في كل مكان، يفعل هذا والشوق يكوي قلبه، والعشق يملأ جوانحه، ولسان حاله:

يقولون لي ما أنت في كلِّ بلدةٍ          وما تبتغى ما أبتغى جَلَّ أن يُسمَى

أستغفر الله من أن أقصد بكلامى هذا مدحًا من ذلك النوع الذي يقصم ظهور الرجال، فما إلى المديح قصدتُ ولا إليه توجَّهتُ، ولستُ من محبِّيه ولا الراغبين فيه، وإنما هذا ما رصدَتْه عيناي، وما عايشته مشاعري، وما اعتمل به فكري، فلستُ أملك إلا البوح به والتعبير عنه وفق ماتسعفنى به قريحتي، وما أعجزها عن التعبير وما أضيقها عن الإحاطة والشمول!

هذا البطل المقدام الذي يتقدَّم إلى كل مهمة بجسارة وإقدام، ثم بعد أن يحرز النصر المظفَّر يتوارى عن الأنظار في تجرد ونكران للذات وكأنه ما مرَّ من هنا، تماما كالضمير المستتر، لاتنطق به الألسن ولاتكتبه الأيدى لكنه هو الفاعل على الحقيقة.

ليست القضية في شخص بعينه وإنما في نموذج إنساني يخدم البشرية من منطلق إسلامي وإنساني، نموذج يزاوج في إبداعٍ بين الفكر والحركة، وفي عمقٍ بين التصوف والسلوك، وفي بساطةٍ بين الجمال الفني والمعنى الرِّسالي.

أوليس دور الباحث أن يُقدَّم نماذج قابلة للتعميم ليستفيد الناس منها، وينسجوا على منوالها؟ وعلى حد قول الدكتور عبد الوهاب المسيري –رحمه الله-: “فكلُّ باحث يجتهد في تفسير ظاهرة، يقدم تفسيره ويقول في تواضع: هذا هو اجتهادى وأرجو أن تختبروا صحة ما توصَّلتُ إليه”.

About The Author

محمد ياسين عبد الحميد أحمد من مواليد الجيزة -مصر، بكالوريوس الهندسة المدنية، جامعة الأزهر 2004م، وليسانس أصول الدين والدعوة، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، جامعة الأزهر 2008م. وماجستير في الدعوة الإسلامية عام 2017م عن أطروحة بعنوان "تجربة الشيخ فتح الله كولن الدعوية دراسة نموذج لنهضة المجتمع والأمة من خلال العمل الدعوى". خطيبٌ ومحاضرٌ حرٌّ في مجال الفكر الإسلامي، ومدرب حر في مجال التطوير والتنمية الذاتية والإدارية، وباحث في فكر النهضة من منطلق قرآني وإنساني.

Related Posts