عندما نذكر الفتوة يتبادر إلى الذهن صور أبطال من الشباب مفعمين حيوية من مفرق رأسهم إلى أخمص قدميهم، أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وألب أرسلان(1)، ومحمد الفاتح، وأولو باطلي حسن(2)… ومهما تعدد مفهوم الفتوة عبر تاريخها، فإن أخص معانيها هو الإيمان بالله وحده لا شريك له، والنظر بعين الاعتبار إلى التضحية بكافة أنواعها في سبيل المعاني الإيمانية والأفكار الدينية والحياة القلبية، والنضال ضد جميع المعتقدات والمفاهيم والتصرفات الباطلة، والارتباط بالحق في كل زمان ومكان، والإفصاح عنه بكل قوة.

إن روح الفتوة بهذا المعنى، يَسمو أصحابُها بإراداتهم، ويُحكِمون السيطرة على أهوائهم، ويجددون محاسبة أنفسهم مرات كل يوم، يعيدون النظر في تصرفاتهم ويقبضون على زمامها، ويَحيون في عالم القلب حتى يصلوا إلى الحياة الحقيقية. إن مشاعرهم لتنتفض دائمًا بأسمى الأحاسيس الروحية فيما وراء هذا العالم؛ إنهم يمثلون أنقى وأطهر دم يتدفق في شعيرات المجتمع الذي يعيشون فيه وشرايينه.

إن روح الفتوة بهذا المعنى، يَسمو أصحابُها بإراداتهم، ويُحكِمون السيطرة على أهوائهم، ويجددون محاسبة أنفسهم مرات كل يوم.

وما دامت المجتمعات تملك أمثال هؤلاء الذين يمثلون عصارة الحياة وقوامها، فستبقى سعيدة. أما إذا فَقَدَتْهُم، فالسير محتوم في طريق الموت والاضمحلال إذ صاروا كمن قُطِعتْ شرايينه وبدأ الدم ينزف منها قطرة قطرة.

إن روح الفتوة من أقوى ضمانات المجتمع وجودًا وبقاء، وإن الأبطال الذين يمثلون هذه الروح، كالرايات يرفرفون فوق حصونها، وكالعيون يسهرون في ثغورها، وكالآذان يرهفون الأسماع لكل أصوات العداء والخصومة وأنفاسها. يرون ويسمعون ويتهيأون لكل طارئ غير مترددين في اقتحام الأهوال وساحات الردى

تتلاحق في أذهانهم أمواج الألم، وتهب على أرواحهم أنسام الحزن، وتتجزأ حياتهم -التي تتجاوز حركة عقارب الساعة- حسب هذه الأنسام، إلى أن تنعكس أنغامها المملوءة أسىً أو فرحًا من أوتار قلوبهم على مَن حولهم.

أجل! هؤلاء يعلنون عن كل شفق يلوح في آفاقهم بصوت جهوريّ وكأنه ابتهالات تضرع، وينشرونه حواليهم حتى يدندن العالم بأصواتهم. فإن أبصروا في جبهاتهم ثغرة أو خللاً، أو تراءت لهم أعلام آمالهم ترفرف حزنًا وأسىً، تأوهوا ألمًا وكأنما في حلوقهم غصة.

لا تستطيع الدول الكبرى قوة، ولا تفوُّق الخصم تقنية، أن يلقي الرعب في قلوبهم أو أن يدفع بهم إلى أتون اليأس والاستسلام. الشيء الوحيد الذي يقلقهم ويتلوون منه ألمًا هو اضطراب جبهتهم أو بروز المشكلات في ثغورهم، أو ظهور تصرف سلبي أو غير حكيم في صفوفهم. أما إن كانت الصفوف متراصة قوية، والثغور حصينة أبية، والقلوب تنبض بنبض واحد، فهم مُوقنون بأنهم يستطيعون تجاوز كل الصعاب وتخطي كل العقبات.

إن الأبطال الذين يمثلون هذه الروح، كالرايات يرفرفون فوق حصونها، وكالعيون يسهرون في ثغورها، وكالآذان يرهفون الأسماع لكل أصوات العداء والخصومة وأنفاسها.

هؤلاء الأبطال في سبيل عقيدتهم المقدسة، مستعدون دائمًا لاقتحام خطوط النار، والكفاح ضد أكبر البلايا، والنضال ضد أشرس الأعداء، ليكملوا الأعمال التي بدأوها، ويحققوا الوعود التي قطعوها لأمتهم. وهم في اجتيازهم لطريقهم الصعب المحفوف بالمهالك هذا، لا ينشغلون بمدح الناس لهم وثناء الجماهير عليهم، ولا بالمخاطر التي تنتظرهم عند كل منعطف من منعطفات طريقهم. لا التصفيق يحفزهم ولا النقد يثبطهم؛ يواصلون طريقهم لا يلوون على شيء حتى يبلغوا أهدافهم السامية.

ترى صلابتهم ضد أهوائهم أشد ما تكون، وترى لينهم وتسامحهم إزاء أخطاء الأصدقاء وهفواتهم في القمة، لا ينتقدون أحدًا، ولا يعبأون بأي نقد، يعملون بصمت ودون أي مظاهر كاذبة، يراعون عدم إثارة الغيرة لدى الأصدقاء والأعداء على حد سواء.

يندمجون في المجتمع الذي يعيشون فيه، لينيروا طريقه ويرفعوه إلى المستوى الإنساني اللائق… يشاطرونه آلامه وأفراحه، ويبحثون دومًا عن طرق شتى لشحن قلبه بما في أرواحهم من إلهام ، حتى تكاد أنفسهم في سبيل البحث عن تلك الطرق تذهب مكابدة وأنينًا.

والخلاصة أن أبطالنا هؤلاء -في الأمس واليوم وغدًا- يدركون تمامًا ماهية نضالهم ويثابرون عليه، يبحثون بكل عزم عن منابع ماء الحياة. لديهم من ثبات العقيدة وقوتها ما يحول بين تغيير منهجهم أو الانحراف عن طريقهم مهما جاءت الدنيا لهم بزينتها وزخرفها.

الهوامش

(1) ألب أرسلان: من أكبر حكام الدولة السلجوقية، ولد عام (1029). قام بتوحيد الدولة السلجوقية، وحارب الإمبراطورية البيزنطية. وفي عام (1071م) انتصر على البيزنطيين في معركة “ملاذكرد” التي تشتت الجيش البيزنطي إثرها. اشتهر إلى جانب انتصاراته العسكرية، باهتمامه بالعلم والثقافة والتعليم؛ فبنى مدارس عديدة، وأكرم العلماء، وخدم الإسلام خدمات كبيرة. (المترجم)

(2) أولو باطلي حسن (؟-1453): جندي من جنود السلطان محمد الفاتح، اشترك في فتح اسطنبول (1453م)، وكان أول جندي تسلق أسوار إسطنبول، ونصب العلَم العثماني عليها قبل أن يستشهد بنبال الأعداء، فأصبح رمزًا للبطولة في التاريخ العثماني. (المترجم)

(*) الترجمة عن التركية: هيئة حراء للترجمة. نشر هذا مقال في مجلة سيزنتي التركية، عدد:90، سنة 1986.

About The Author

عالِم ومفكِّر تركي ولد سنة 1938، ومَارَسَ الخطابة والتأليف والوعظ طِيلة مراحل حياته، له أَزْيَدُ من 70 كتابا تُرْجِمَتْ إلى 40 لغة من لغات العالم. وقد تَمَيَّزَ منذ شبابه المبكر بقدرته الفائقة على التأثير في مستمعيه، فدعاهم إلى تعليم الأجيال الجديدة من الناشئين والشباب، وَبَذْلِ كلِّ ما يستطيعون في سبيل ذلك.

Related Posts

Leave a Reply

Your email address will not be published.