يؤكد الفيلسوف ميل على قيمة الحرية لأسباب إنسانية بحتة فضلاً عن الأسباب النفعية. فلديه قناعة بأن البشر كائنات مفكرة تبحث عن حقيقةِ عددٍ لا نهائي من الأشياء -من أكثرها دنيوية إلى أكثرها ارتقاءً-وتنتج المعرفةَ، وأن هذه الأنشطة هي جزء من معنى كون الإنسان إنسانًا. فحرية الفكر والتعبير والتساؤل أمر حيوي، ليس فقط للعباقرة الذين لن يستطيعوا استخدام عبقريتهم لصالح المجتمع بدون حرية العمل، بل هي حيوية أيضًا -وربما بدرجة أكبر-للناس العاديين في حياتهم اليومية، وللأفراد ذوي الذكاء العادي؛ كي يتمكنوا من أن يصبحوا أفرادًا مشاركين وفاعلين فكريًّا. وهذا سيحقق فائدة للمجتمع بالطبع؛ ومن ثم فهو مطلب نفعي أو وظيفي، لكنه أيضًا مطلب إنساني؛ لكونه موجهًا إلى الناس العاديين. فالناس بشكل عام ينبغي أن يكونوا أحرارًا في التفكير والتساؤل والتعبير؛ لأن ذلك هو مغزى كون الإنسان إنسانًا، وعندما تُتاح لنا الفرصة لممارسة إنسانيتنا بشكل كامل، عندها فقط، سيمكننا أن نخلق مجتمعًا صالحًا للإنسان، كغاية وكوسيلة أيضًا.

قيمة الحرية لدى كولن

وهنا أيضًا يمكننا إشراك كولن في المناقشة، فهو يتحدث كثيرًا عن قيمة الحرية من الناحيتين الإنسانية والنفعية، ومعظم كتاباته تتحدث عن التحرر من الطغيان والاستبداد. وهو يشير في سياقات كثيرة إلى الطغاة والمستبدين الذين ابتُليت بهم جموع المسلمين في السنوات الأخيرة على يد قوى العلمانية والاستعمار. وفي سياقات أخرى يتحدث كولن بشكل أكثر عمومية عن الحرية التي يمتلكها كل إنسان باعتباره إنسانًا. وتَعكس آراءُ كولن مبدأَ مِيل الذي ذكرناه عن الحرية عندما يقول: “إن الحرية تسمح للناس بفعل ما يريدون، شريطة ألا يضرّوا الآخرين، وأن يظلوا مخلصين تمامًا للحقيقة“. وربما كانت العبارة الأخيرة “وأن يظلوا مخلصين تمامًا للحقيقة” ستستوقف ميل في بادئ الأمر، ولكنه ربما يقول: إنه حتى من ضلوا أو آمنوا بالأباطيل مخلصون تمامًا للحقيقة، لكنهم فقط أخطأوا في فهم تلك الحقيقة. فالتحدُّث أو التصرُّف بشكل “غير مخلص تمامًا للحقيقة” يتضمن -في رأي ميل وكولن-أشياء مثل الافتراء أو التشهير أو أن يهتف شخص قائلاً: “حريق!” داخل مسرح مزدحم، في حين أنه لا يوجد حريق فعلاً.

إن انتصار كولن لفكرة التسامح لا يمكن فهمه دون التزام بحرية الفكر والمناقشة، ذلك أن التسامح لن تكون له جدوى إذا لم يُسمح بحرية الفكر والمناقشة والاختيار الفردي

بين التسامح وحرية الفكر

إن انتصار كولن لفكرة التسامح لا يمكن فهمه دون التزام بحرية الفكر والمناقشة، ذلك أن التسامح لن تكون له جدوى إذا لم يُسمح بحرية الفكر والمناقشة والاختيار الفردي وما إلى ذلك. فما يَجعل التسامحَ فضيلةً هو أن الناس يكونون أحرارًا وأنهم يختارون معتقدات وديانات ومساعي مختلفة. ويؤكد كولن على هذه النقطة في كثير من المناسبات، وغالبًا في مناقشات عن الديمقراطية وحدها أو عن الديمقراطية والإسلام، اللذين لا يرى بينهما أي تعارض. ففي مقال له عن العفو والصفح، يربط كولن بين التسامح والديمقراطية من خلال مفهوم الحرية، فيقول: “الديمقراطية نظام يعطي لكل شخص تحت مظلته الفرصةَ للعيش والتعبير عن مشاعره وأفكاره الخاصة، ويشكِّل التسامحُ بعدًا مهمًا من هذا. وفي الحقيقة، يمكن القول: إن الديمقراطية تصبح غير واردة حيثما لا يوجد تسامح“.

حرية الفكر وإنسانية الإنسان

إلا أن هذه المقولات لا تحمل السمة الراديكالية التي تميز أفكار ميل عن ضرورة الحرية والحماية التي يحتاج إليها الناس من الاستبداد الاجتماعي، فعندما يطرح كولن تصوراته عن البشر المثاليين -أو “ورثة الأرض” كما يسميهم في أحد أعماله-لا نرى التزامه العميق بالحرية فحسب، بل نرى أيضًا الأساس المنطقي لهذا الالتزام، وهو أساس إنساني بحت. ففي كتابه (The Statue of Our Souls) ] ونحن نقيم صرح الروح]، يقدّم كولن رؤية واسعة ومفصلة لمجتمع وعالم يقوده أفراد يتمتعون بسمو روحي وأخلاقي وفكري، يسميهم “ورثة الأرض”، ويتعمق بعض الشيء في وصف شخصياتهم وسماتهم. وقد ذكر الصفة الخامسة ضمن سرده لصفاتهم المحورية وهي “القدرة على التفكير بحرية واحترام حرية الفكر”. ويتابع قائلا:”إن التمتع بالحرية يمثل عمقًا مهمًا لقوة الإرادة الإنسانية وبابًا سحريًّا يطّلع منه الإنسان على أسرار ذاته. ومَن ليست لديه القدرة على الدخول في ذلك العمق واجتياز ذلك الباب لا يمكن تسميته إنسانًا”.

 إن التمتع بالحرية يمثل عمقًا مهمًا لقوة الإرادة الإنسانية وبابًا سحريًا يطلع منه الإنسان على أسرار ذاته. ومَن ليست لديه القدرة على الدخول في ذلك العمق واجتياز ذلك الباب لا يمكن تسميته إنسانًا

وعليه، تُعدُّ حرية الفكر محورية بالنسبة لكون الإنسان إنسانا، بل وللإنسانية ذاتها، فبدون حرية الفكر -ليس كمبدأ اجتماعي أو سياسي فحسب بل أيضًا كقدرة داخلية-لا يمكن للمرء أن يسمى إنسانًا حقًا. وبتعبير آخر، لا يصل المرء إلى الصفة الإنسانية بدون حرية الفكر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: جيل كارول، محاورات حضارية (حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني)، دار النيل، مصر، 2011، ص56.

* عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.