نشأ فتح الله كولن في بيتٍ رفيعٍ وسامقٍ، وأسرةٍ راقيةٍ ذكيَّةٍ مُرْهَفةِ الحسِّ متديِّنةٍ، وقد تأثَّر في إطار هذه العائلة تأثُّرً أيَّما تأثُّر، ولا سيما فيما “دون الوعي” بجدَّته لأبيه السيدة “مؤنسة”، ثم بوالده فوالدته وجدِّه لأبيه، بينما تأثر خارج إطار العائلة بالشيخ “ألوارلي محمد لطفي أفندي”، وثمّة ثلاثة عناصر ترفد مرحلةَ “اللاوعي” عنده أو ما يُسمّى بـ”اللاشعور” و”العقل الباطن” لتتطوَّرَ لاحقًا فتبرزّ على أنها أهمُّ سمات وأوصاف شخصيَّته؛ أولها: الالتزام والحياة الدينية القلبية الضاربة جذورها في الأعماق والمتوفِّرة لدى العائلة كلِّها، وثانيها: ما تُكِنّه العائلة من محبَّة ومودَّةٍ عميقةٍ تجاه َ الوجود بأسرهِ وخصوصًا محبَّتها للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، أما الثالث فهو: معاناة العائلة الفقرَ والمظالمَ التي وقعت لا سيَّما في أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى وما عانَتْهُ من مآسٍ وآلامٍ لا حقًا، وكذلك وفاة الجدَّة والجدِّ لأب دون أن تمرّ بين وفاة كلٍّ منهما ساعة، وما خلَّفته هذه الحادثة من تفاعلات في طفولة كولن، أضف إلى ذلك معاناة كولن غربة الإسلام والمصائب التي توالت على المسلمين عامة والإنسان التركي خاصة، وغير ذلك من المعاناة والهموم.

ــ المقياس في عبودية الله: اعتبار الإنسان نفسه الأحقر بين الموجودات

العبودية لله تتقدَّمُ كلَّ شيءٍ بالنسبة لفتح الله كولن وتأتي على رأس أولويَّاته؛ ولأن هذه العبودية هي الأسمى والغاية المنشودة فالإسلامُ هو النظام الأكثر كمالًا ومثاليَّةً وملاءمةً بالنسبة لها؛ وبالتالي فإن قلبه معلَّقٌ بالإسلام بلا شك؛ فلقد تعلَّم قراءة القرآن الكريم في سنٍّ صغيرةٍ جدًّا بالنسبة لأوضاع بلاده آنذاك، وبالرغم من أنه ربما لم يفوّت ــ منذ خَتْمِه القرآن الكريم وحتى اليوم ــ ولو صلاةً واحدةً من صلواته، ولم تُحرَمْ لياليه في أيِّ وقتٍ قطُّ من صلاة التهجُّد إلا أنه ــ حسب رأيه ــ لم يُوفِّ حقَّ وظيفة العبودية لله تعالى كما يجب؛ فالإنسان يزداد فيه الشعور باعتباره نفسَه أحقر الموجودات وأكثرها ارتكابًا للذنوب كلَّما زادت لديه معرفة الله، والواقع أن فتح الله كولن يرى نفسه أحقر الناس، وأكثرَ من في الوجود ذنبًا وإثمًا.

بالرغم من أن ليالي كولن لم تُحْرَم في أيِّ وقتٍ قطُّ من صلاة التهجُّد إلا أنه يرى أنه لم يُوفِّ حقَّ وظيفة العبودية لله تعالى كما يجب. 

ــ حبُّ النبي والصحابة رضي الله عنهم

إلى جانب اعتبار كولن نفسه أكثر من في الكون ذنبًا أمام الله تعالى؛ فإن معرفته لله وعشقه له تعالى وكذلك حبّه للنبي ﷺ والصحابة الكرام رضي الله عنهم تبرز كأهم سمة بين سمات شخصيته وصفاته؛ فهو عاشق للنبي ﷺ ولصحابته مُتيَّمٌ بهم بكل ما تحمِلُه الكلمة من معنى، وقد عبَّرًا شعرًا عن عِشْقِه الرسول وشوقِه إليه واسترحامه إياه قائلًا:

كلُّ روح تحبك عظيمة يا رسول الله!

عينها وفؤادها بحبك عامرٌ يا رسول الله!

بالله إنّ الراغب شوقًا في ذرة من نور جمالك

يلازم بابك لا يبرحه أبدًا يا رسول الله!

والواصلون إليك لا ينتظرون شيئًا سوى ذلك

فمجلسُكَ نّدِيٌّ بالثناء يا رسول الله!

راؤوك بعيونِ القلب ولو مرة واحدة

هم نخبة الأرواح يا رسول الله!

تحلق الطيور الذهبية الأجنحة في فضائك‘

ففضاؤوك هو سبيل الطيور يا رسول الله!

الآفاق هناك تشبه رياض الجنان

وجمالك حرير شفاف كالأفق يا رسول الله!

الوصول إليك غايةُ القلوب المؤمنة

وجاهلوك أموات غير أحياء يا رسول الله!

وَصْلُكَ خيالٌ يلوحُ دومًا لهذا القطمير الغريب

فهذا وردة فؤادي يا رسول الله![1]

ــ أسى الماضي ومحنة الحاضر وآمال المستقبل

مَنْ ينظر ويطالع كتابات فتح الله كولن ــ وإن لم يحضر دروسَهُ، ويلازمه ولو لفترةٍ قصيرةٍ ــ بل حتى من استمعَ ولو لدرسٍ أو درسين من دروس وعظِهِ سيُقدِّر من فَوْرِهِ الحساسيَّة الدينية الكامنة فيها؛ فكولن إنسانٌ نذَرَ حياتَه لإعلاء كلمة الله تعالى في إطار العبوديَّةِ له سبحانه، ولكي يَشرُفَ الجميع بالهداية إن أمكن ذلك وأَذِنَ به الله تعالى، يعني نّذَرَ نفسَهُ لخدمة الناس.

كولن عاشق للنبي ﷺ ولصحابته مُتيَّمٌ بهم بكل ما تحمِلُه الكلمة من معنى.

وهذا ديْدَنُ النبي ﷺ، إذ يحذره الله سبحانه في عدَّة مواضع من القرآن الكريم مشفقًا عليه، من بينها قوله تعالى: “فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا” (الكهف: 18/6)، وهكذا فإنه ينبغي السعي إلى التعرف على فتح الله كولن باعتباره إنسانًا يشعر في حدِّ ذاتِهِ ووجدانه بالقلق والألم والمعاناة والوجع نفسه؛ وإم لم يكن بالمستوى الذي يشعر به النبي ﷺ بالتأكيد، إنه إنسانٌ نذَرَ نفسَه لخدمة الإنسانية وهو راضٍ بأن يموتَ ويحيا في اليوم مرارًا في سبيل ثبات البشرية على الهدى والإيمان، واهتدائهم إلى الطريق المؤدية إلى الله تعالى، وانتقالهم إلى الدار الآخرة ثَابِتين على هذا الطريق وإنقاذِ حياتهم الأبديِّة.

  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1] ) فتح الله كولن، ريشة العزف المكسورة، 2 ــ 2، “وردة قلبي”، صـ90 ــ 92.

المصدر: علي أونال، ترجمة عبد الرازق أحمد محمد، فتح الله كولن ومقومات مشروعه الحضاري، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2015، صـ360/ 361/ 362/ بتصرف.

ملاحظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع.