من منا لا يعرف صاحبة هذه المقولة؟ أو حتى لم يسمع باسمها، لقد أبكت الناس كلهم بأبيات رثائها لأخيها… كان ذلك في الجاهلية إذ لم تكن قد عرفت الرسول ﷺ بعد، ولا تعرفت على تعاليمه ولا سمعت شيئًا عن بيان القرآن الكريم ولا تفتحت نفسها وقلبها عليه. إنها تماضر بنت عمرو السلمية الشهيرة بالخنساء، الصحابية الشاعرة المخضرمة، ذَكَر أهل الشعر أنها لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها…
تعد هذه الصحابية نموذجًا عظيمًا من نماذج التغيير التي صنعها رسول الله ﷺ إذ لما عرفت القرآن وسمعت به وأشرب به قلبها تغيرت فجأة… تغيرت إلى درجة أن هذه الصحابية الجليلة التي أنشدت مئات الأبيات في رثاء أخيها في الجاهلية تحملت بصبر خارق استشهاد أربعة من أولادها في معركة القادسية واحدًا إثر واحد… كانت تحس بقلب الأم الملهمة باستشهاد كل ابن لها، وتتلوى في مكانها من الألم ولكنها كفكفت دموعها وقالت بعد أن استشهدوا كلهم: “الحمد للّٰه الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.”
يقول الأستاذ كولن معلقا على هذا التغيير في هذه الشخصية: “هاكم نوعية التغيير ومدى هذا التغيير الذي أحدثه النبي ﷺ إنه كمن أخرج النور من الظلمات… وأكرر مرة أخرى وأسأل: إن لم يكن معجزةً تغيير الناس هذا التغيير المذهل في مدة قصيرة فما هي المعجزة؟”.
كانت لها موعظة لأولادها قبيل معركة القادسية قالت فيها: “يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله عزَّ وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200). فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة”.
ولما وصل إليها نبأ استشهادهم جميعًا قالت قولتها المشهورة: “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”.
يا الله! ما هذا الثبات؟ ثبات في الجنان وثبات في البيان، وصدق قول القائل: “إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، إن صال صال بجنان، وإن قال قال ببيان”. ولقد صالت هذه المرأة بجنان ثابت وقدمت فلذات أكبادها في سبيل مرضاة ربها، وقالت فأحسنت القول شعرًا ونثرًا فلله درها!.
ومن بيانها في أخيها صخر قولها:
يُذَكِّرُنِي طُلُوعُ الشَّمْسِ صَخْرًا وأَذْكُرُهُ لِكُلِّ غُرُوبِ شَمْسِ
وما يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي ولَكِنْ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنه بالتَّأَسِّي
هذه صفحة مضيئة من صفحات حياة الخنساء المشرقة، وقد كان الرسول ﷺ يستنشدها شعرها، ويستزيدها -وهو مصغ إليها- بقوله: “هيه يا خناس! ويومئ بيده. وقد أبى عليه قلبه الكبير أن يزجرها أو أن يلومها. وربما لأن حزنها كان دافعه الوفاء لأشقائها، وليس السخط على قضاء الله وقدره، تسامح معها النبي ﷺ ومن بعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ؛ فعندما أقبل بها بنو عمها إلى عمر بن الخطاب وَهِي عَجُوز كَبِيرَة فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هَذِه الخنساء قد قرحت مآقيها من الْبكاء فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام فَلَو نهيتها لرجونا أَن تَنْتَهِي. فَقَالَ لَهَا عمر: اتقِي الله وأبقني بِالْمَوْتِ، فَقَالَت: أَنا أبْكِي أبي وخيرَي مُضر صخرًا وَمُعَاوِيَة، وَإِنِّي لموقنة بِالْمَوْتِ. فَقَالَ عمر: أتبكين عَلَيْهِم وَقد صَارُوا جَمْرَةً فِي النَّار؟ فَقَالَت: ذَاك أَشد لبكائي عَلَيْهِم، فَكَأَن عمر رق لَهَا فَقَالَ: خلُّوا عجوزَكم لَا أَبَا لكم، فَكل امْرِئ يبكي شجوَه، ونام الخلي عَن بكاء الشجي.