من أكبر الإشكاليات في موضوع الإسلام والديمقراطية أن كثيرًا من الزعماء والناشطين المتدينين يريدون أن يُحِلّوا القانون الإلهي محل القوانين الوضعية لإثبات أن الشريعة الإسلامية هي الحل للمشكلات الدنيوية اليوميّة، وهناك سببان رئيسان وراء هذه الإشكاليّة، الأول أن كثيرين يرون سيادة الدولة تعارض سيادة الله على الكون وعلى البشرية، يقول كولن:

“بحجة أن دين الإسلام مبني على حكم الله، بينما الديمقراطية مبنية على رأي البشر. ومع هذا فإنني أرى أن هناك أمرًا يُغفل عنه، وهي أن سيادة الأمة لا تعني إنكارَ قضية «الحُكمُ لله»، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والجبابرة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.

يرى كولن أن نظامًا سياسيًّا عادلًا يقوم على أساس المبادئ الديمقراطية لا يمثل أية مشكلة للنظام الاجتماعي الإسلامي والقيم الثقافية الإسلامية.

الحُكم لله وللبشر إرادة الاختيار

إن الله هو الحاكم على كل شيء في الكون لا ريب فيه، وأفكارنا وغاياتنا جميعها لا تتحقق إلا إذا أراد جلا وعلا. ومع ذلك فإن هذا لا يعني أننا لا نملك إرادة أو رغبة أو اختيارًا؛ فكما كان البشر أحرارًا مخيَّرين في حياتهم الشخصية، فهم كذلك أحرار مخيَّرون في اختياراتهم الاجتماعية والسياسية من وجه؛ وهذا ينطبق على عصر السعادة، عهد النبي وعلى عهد الخلفاء الراشدين الأربعة، رضوان الله عليهم جميعا؛ فانتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والله أعلم بالصواب.

كولن: القوميون والعلمانيون الأتراك بحاجة إلى القيم الإسلامية إذا أرادوا أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين يخدمون شعبهم دون أن يسقطوا في بئر الفساد الذي استشرى في أوصال الحكم.

نموذج الحكم في الإسلام

ويصرح كولن أنه ليس في الإسلام نموذج معين لطريقة الانتخاب أو لنظام الإدارة، ويستفيض قائلًا:

“حينما ننظر إلى التطور التاريخي لنظام الحكم الإسلامي، نجد أن أبا بكر رضي الله عنه قد انتخبته العامّة، أما سيدنا عمرُ فقد اختِير بعد أن رشّحه أبو بكر، واختير سيدنا عثمانُ من بين العشرة المبشرين بالجنة اللذين أشار بهم عمرُ رضي الله عنه، أما انتخاب علي كرم الله وجهه فشهد معارضة، ومن ثمّ فقد تشكلت إدارة أخرى في دمشق، وكانت تلك فرصة لمعاوية، ثم صار الحكم وراثيًّا في عهد الدولة الأموية، واستمر ذلك في عهد العثمانيين، وهذا يعني أن أصول الدين و محكماته مصونة لم يحدث أن تم المساس بأي من هذا قط، وباستثناء تلك الأمور تركت الأقسام ذات الحقائق النسبية مفتوحة محلّ الاجتهاد والاستنباط بحيث تراعى فيها ظروف العصر واحتياجاته.

ليس في الإسلام نموذج معين لطريقة الانتخاب أو لنظام الإدارة.

العلمانيون والديمقراطية

لكن باسم «الديمقراطية» تَميل القوى العلمانية في البلدان الإسلامية إلى هدم التماسك الاجتماعي والتناغم الثقافي الذي يصون الحياة الأسرية أكثر مما عليه الأمر في الغرب، وتركيا من البلدان التي أثبتت فيها القوى العلمانية بانقلاباتها العسكرية أنها مصدر تهديد مباشر لقيام حكم ديمقراطي حقيقي؛ لكن لم يفقد كولن الأمل قط في النظام الانتخابي في تركيا رغم كثرة الأمثلة الصارخة على إساءة استخدام العلمانية والديمقراطية فيها، فهو واثق من أن الناس حينما يتمتعون بالحرية والحق في اختيار الأمناء نسبيًّا لحكم البلاد فإنهم سيتخذون القرار السليم.

سيادة الأمة لا تعني إنكارَ قضية «الحُكمُ لله»، بل تعني أن السيادة التي ائتمن اللهُ البشرَ عليها تُنزع من الظلمة والمستبدين وتُعطى للجمهور، وهذا ما شهدته الإنسانيةُ في عهد الخلفاء الراشدين.

القيم الإسلامية ضرورية

ويضيف كولن أن القوميين والعلمانيين الأتراك بحاجة إلى القيم الإسلامية إذا أرادوا أن يكونوا ديمقراطيين حقيقيين يخدمون شعبهم دون أن يسقطوا في بئر الفساد الذي استشرى في أوصال الحكم حتى منتصف ثمانينات القرن العشرين، يقول:

“يسعى النظام الاجتماعي الإسلامي إلى بناء مجتمع الفضيلة لينال رضا الله تعالى، ويعترف بالحق لا بالقوة أساسًا للحياة الاجتماعية، وينبذ العداوة، وإذا رعَت الديمقراطية البشر أجمعين، ولاحظت حاجاتهم المعنوية والبعد الروحي لوجودهم، وأن الحياة الإنسانية لا تقتصر على هذه الدنيا الفانية، وأن للناس تطلعًا وتَوَقانًا شديدين إلى الخلود، فقد تستطيع أن تبلغ أوج كمالها ونضجها بل ستمنح البشرية مزيدًا من السعادة، ويساعدها على تحقيق ذلك مبادئ الإسلام في المساواة والتسامح والعدالة”.

انتخاب الخليفة الأول سيدنا أبي بكر، كان مختلفًا عن انتخاب الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب، وكذلك كان انتخاب سيدنا عثمان مختلفًا عن انتخاب سيدنا عليٍّ الخليفةِ الرابع رضوان الله عليهم.

فلا يمكن للديمقراطية وحدها في أي بلد مسلم أن تشكل نسيج القيم الاجتماعية والثقافية المتضمنة في المناخ الروحي والديني؛ ولقد فعلت عدة بلدان إسلامية مثل تركيا، حيث قبلت بالديمقراطية نظامًا لعلاج المشكلات والنزاعات السياسية حول اقتسام السلطة بين فصائل متنازعة على أساس انتماء حزبي وإثني.

يسعى النظام الاجتماعي الإسلامي إلى بناء مجتمع الفضيلة لينال رضا الله تعالى، ويعترف بالحق لا بالقوة أساسًا للحياة الاجتماعية، وينبذ العداوة.

الإسلام لا يعارض الديمقراطية

ويرى كولن أن نظامًا سياسيًّا عادلًا يقوم على أساس المبادئ الديمقراطية لا يمثل أية مشكلة للنظام الاجتماعي الإسلامي والقيم الثقافية الإسلامية، فقد رأينا كيف عجزت القوى العلمانية والقومية المتشددة عن حلّ مشكلة الانفصاليين الأكراد مثلًا؛ لأنهم بإعلائهم لكل أسلوب غير ديني يهملون القيم والمبادئ الإسلامية التي تعزز الوحدة وتوفِّر فعلًا الأساس الضروري لحل مشكلة الإرهاب الذي يمارسه الانفصاليون؛ لذا ظلت سجلات تركيا حول حقوق الإنسان تزداد سوءًا في ظل الحكومات العلمانية المتعاقبة حتى نهاية ثمانينات القرن العشرين، ثم بدأت تتحسن تدريجيًّا إثر التغيير الذي مرت به البلاد لا في الاقتصاد فحسب بل في التحول الديمقراطي أيضًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: مايمول أحسن خان، فتح الله كولن الرؤية والتأثير تجربة فاعلة في المجتمع المدني، دار النيل للطباعةو النشر، القاهرة، طـ1، 2015م، صـ163/ 164/ 165/ 166.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.