كان اللقاء الأول في أواسط التسعينات في إسطنبول في معتكفه الخاص الذي يسمى الطابق الخامس أو “باشنجي كاط” باللغة التركية، حيث يقيم مع نخبة من الطلاب المختارين لدراسة العلوم الشرعية واللغوية. لم يغب هذا اللقاء عن خاطري منذ ذلك الحين، تغيرت لدي أفكار ورؤى كثيرة. لقد جال في نفسي أن الشمس التي أفلَتْ من هنا يومًا ما يمكن أن تشرق مجددًا من هنا أيضًا، بسبب هذه الأوقات المباركة.
سمْت الرجل وطور حياته واستقامته على مدارسة العلم، والصبر على ذلك سنين عددًا كل هذا يدفعك إلى إكبار هذه الشخصية وتقديرها والنظر إليها بعين التلميذ المحب المريد.
لم يكن لقاء عابرًا بل لقاء امتد شهرًا معايشة ومدارسة واطلاعًا على حياة الأستاذ كولن في عامة أحيانه، كان لديَّ -باعتباري أزهريًّا- قناعة قبل لقائه أن العلماء والمفكرين والمجددين لا بد أن يكونوا من العالم العربي فحسب، لم أكن أتخيل أن هذه القناعة ستُطرح أرضًا بعد هذه المعايشة، فسمْتُ الرجل وطور حياته واستقامته على مدارسة العلم، والصبر على ذلك سنين عددًا، مع كثرة مشاغله في توجيه وإرشاد المحبين في كل مكان، والتقاسم معهم في همومهم واهتماماتهم مهما دقت أو جلت، ثم الانفتاح على العالم واستقبال فئات المجتمع المختلفة من كتَّاب وإعلاميين وصحفيين وفنانين ولاعبي كرة قدم.. كل هذا يدفعك إلى إكبار هذه الشخصية وتقديرها والنظر إليها بعين التلميذ المحب المريد. وهو في غمرة كل هذا لا ينسى الاهتمام بفتى غر صغير، حديث التخرج من الجامعة؛ فيَسأل عن أحوال إقامته في المكان، وعن تجواله في تركيا وإكرام ضيافته في رقة ساحرة أخاذة تشعرك أنه مهتم بك ويتابعك، وأنه رغم حجم أعبائه الجليلة لا ينسى أن يتعهد أضيافه بين الفينة والأخرى.
برنامجه يبدأ مع التهجد وقيام الليل، تراه حاضرًا بين طلابه في قاعة الدراسة الكبرى، يصلي ما تيسر له من ركعات التهجد، أو تسمع أنينه من داخل حجرته القريبة من قاعة الدروس، ثم يخرج لصلاة الفجر عند إسفار الشمس، إما يؤم طلابه أو يأتم بأحدهم.
قضيت في بيت النبوة من خلال روايات السيدة عائشة أجمل سنوات العمر، بفضل هذه الجلسات الماتعة.
أما حلقة الدرس مع الطلاب فمن أعجب ما رأيت، وهي أشد ما هزني هزًّا، فهي دوحة غناء بمختلف العلوم الشرعية والفنون الأدبية واللغوية، منها التفسير والحديث والفقه والأصول، والبلاغة والنحو والتصريف، والتصوف، يقطفون من كل بستان زهرة. أدركتهم وهم يقرأون بعض شروح البخاري، والفقه الإسلامي وأدلته لـ”وهبة الزحيلي” في الفقه المقارن بعدما استوفوا قراءة أغلب مصادر الفقه الحنفي. كما كانوا يقرأون الموافقات في الأصول للشاطبي، والبلاغة الواضحة لمصطفى أمين وعلي الجارم، والرسالة القشيرية في التصوف وغير ذلك من الكتب والمراجع، كل ذلك في الحلقة الواحدة.
يبدأ الطلاب بتحضير أنفسهم لهذه الحلقة بعد صلاة العشاء، يجتمعون في حلقات صغيرة في بعض حجرات المعتكف، وعلى رأس كل مجموعة واحد منهم كأنه نقيبهم أو عريفهم، يقرأون معًا ما سوف يعرضونه من صفحات في تلك الكتب على أستاذهم صباحًا، ويناقشون ما فيها من قضايا، ويفتشون في المعاجم عن الغريب من المفردات والألفاظ، ويتجهزون لكل سؤال يمكن أن يطرحه عليهم الأستاذ في أثناء الدرس، هذا إلى جانب العروض الحاسوبية التي تتناول سيرة رجال الحديث والتعريف بهم.
لقد جال في نفسي أن الشمس التي أفلَتْ من هنا يومًا ما يمكن أن تشرق مجددًا من هنا أيضًا، بسبب هذرواة الحديث، ه الأوقات المباركة.
وما أنس لا أنسى عروض “البروجكتور” حول أسماء رواة الحديث، فقد كانوا يعرضون سيرة راوي الحديث الذي يرد ذكره في رواية الحديث على شاشة عرض كبيرة، فإذا تكرر ذكر هذا الراوي في رواية أخرى اكتفوا بتعريفه السابق، ويكررون هذا العمل يوميا في جزء قراءة متن صحيح البخاري الذي يعرضونه على الأستاذ. وكان من حظي في الشهر الذي قضيته أنهم كانوا يقرأون أحاديث أكثرها برواية السيدة عائشة رضي الله عنها، فكان يتم التعريف بها يوميًّا، حتى حفظت بعضًا من ديباجة هذا التعريف لكثرة ما مر عليَّ من وروده في تلك الأيام، ثم تعلق قلبي بها وكتبت عن بلاغتها في “حديث أم زرع” في تمهيدي الماجستير، واخترت بلاغة تصويرها البياني موضوعًا لرسالة الماجستير، حيث قضيت في بيت النبوة من خلال روايات السيدة عائشة أجمل سنوات العمر، بفضل هذه الجلسات الماتعة… وللحديث بقية