كانت حلقة الأستاذ كولن مع طلابه تبدأ كل يوم بدعاء لطيف تهش له الأسماع وتهتز له القلوب وكأنه خلاصة لما يتغيَّاه الأستاذ من هذا المجلس وكان على هذا النحو: “اَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ علَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ. اَللَّهُمَّ الْعِلْمَ وَالْإيمَانَ الْكَامِلَ وَالْعُبُودِيَّةَ الْكَامِلَةَ التَّامَّةَ وَالْإخَلَاصَ الْأَتَمَّ وَالْيَقِينَ التَّامَّ وَالتَّوَكُّلَ التَّامَّ وَالْمَعْرِفَةَ التَّامَّةَ وَالْمَحَبَّةَ التَّامَّةَ وَخَالِصَ الْعِشْقِ وَالْاِشْتِيَاقَ إلَى لِقَائِكَ وَالْعِفَّةَ وَالعِصْمَةَ وَالْفَطَانَةَ وَالحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَالْحَافِظَةَ الدَّائِمَةَ وَالذَّاكِرَةَ الدَّائِمَةَ وَالصِّحَّةَ الدَّائِمَةَ الْكَامِلَةَ وَالْعَافِيَةَ الدَّائِمَةَ الْكَامِلَةَ وَالْقَلْبَ السَّلِيمَ.

اَللَّهُمَّ أسْرَارَ الْإِيمَانِ وَالْإسْلَامِ وَالْإحْسَانِ. اَللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدَالَةِ وَالْاِسْتِقَامَةِ وَالْعِفَّةِ وَالْعِصْمَةِ وَالْفَطَانَةِ وَالْإذْعَانِ. وَثَبِّتْنَا عَلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى. اَللَّهُمَّ الْإخْلَاصَ فِي كُلِّ اَمْرِنَا وَفِي كُلِّ شَأْنِنَا وَرِضَاكَ. اَللَّهُمَّ أسْرَارَ الْحَقَائِقِ وَحَقِيقَةَ الْحَقَائِقِ. اَللَّهُمَّ بَسْطَ الزَّمَانِ وَبَسْطَ الْإمْكَانِ. اَللَّهُمَّ أقْرِرْ أَعْيُنَنَا بِانْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ أنْحَاءِ الْعَالَمِ. اَللَّهُمَّ فَقِّهْنَا فِي الدِّينِ اَللَّهُمَّ فَقِّهْنَا فِي الْقُرْآنِ اَللَّهُمَّ فَقِّهْنَا فِي الْاَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. اَللَّهُمَّ افْتَحْ عَلَيْنَا حِكْمَتَكَ وَانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ. اَللَّهُمَّ حَوْلًا وَقُوَّةً مِنْ حَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ فِي كُلِّ اَمْرِنَا وَفِي كُلِّ شَأْنِنَا مِنَ الْخَيْرِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإكْرَامِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ وَعَلَى إخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.

الطلاب يكادون ينفجرون من شدة كتمان الضحك، والأستاذ لا يزيد على الابتسام.

كانت هذه الحلقة تستمر حتى الزوال قبيل الظهر بقليل، ثم يجنح الطلاب والأستاذ إلى بعض من الراحة يتغدون ويصلون الظهر ويستريحون حتى العصر تقريبًا، ثم يبدأ فصل آخر من حياة الأستاذ الدعوية والاجتماعية، حيث يلقي موعظته شبه اليومية بعد صلاة العصر ويلتقي مع أضيافه وزائريه، وبعد صلاة المغرب جلسة خاصة مع بعض زواره وكذلك بعد العشاء، ثم يأوي إلى كهفه الخاص في حجرته الصغيرة بين كتبه وربه حتى يلتقي بطلابه في التهجد أو عند صلاة الفجر.

لم أحظ بالدخول إلى كهفه الصغير الخاص طوال مدة إقامتي التي بلغت الشهر، وقبل توديعي إياه في نهاية هذه الفترة المباركة رجوت أحد طلابه أن يدخلني هذه الحجرة فوجدت فراشًا خشنًا يتوسطها، وأدراجًا تعج بالأدوية المختلفة وأرففًا مليئة بالكتب الخاصة بالأستاذ التي يخلو إليها ساعة يدخلها، لم أتحمل أن أطأ الفراش الخشن بأقدامي فقد تضرستْ من خشونته أسناني، فعجبت لهذا العظيم الذي يضع الدنيا تحت قدميه ولا يأبه بأي نعيم فيها ولو كان بسيطًا.

كان تبسمه قليلاً وبكاؤه هو الحال الذي يغلب عليه، وخاصة إذا مر في الدرس شيء من الرقائق أو ذكر الأصفياء.

كانت ساعة الطعام بالنسبة لي ساعة بهيجة، لأنني كنت أتوخى القرب منه في مجلسه، إذ كانوا يفرشون على الأرض مفارش يوضع عليها الطعام ويتحلق حول المفرش الواحد مجموعة من الأشخاص لا يتجاوزون العشرة، وكان الأستاذ يجلس إلى حلقة من هذه الحلقات، شاركته مرة الطعام وتأملت طعامه الذي يأكله، كان طعامًا خاصًّا يُصنع له بسبب أمراضه التي يعاني منها، والتي منها السكر والضغط وأمراض القلب، ولما لاحظ أننا نتأمل طعامه وضعه كله أمامنا لنأكله ولم يطعم شيئًا، فأقبلنا عليه نتسابق في أكله تبركًا به، ولم نلتفت إلى أننا حرمناه وجبته الوحيدة تقريبا. (سامحنا الله).

تضرستْ من خشونة فراشه أسناني، فعجبت لهذا العظيم الذي يضع الدنيا تحت قدميه ولا يأبه بأي نعيم فيها ولو كان بسيطًا.

كان تبسمه قليلاً وبكاؤه هو الحال الذي يغلب عليه، وخاصة إذا مر في الدرس شيء من الرقائق أو ذكر الأصفياء، وكان المجلس مهيبًا لا يستطيع أحد الطلاب أن يُحدَّ النظر في وجه الأستاذ أو ينظر إلى وجهه إلا خلسة، فانصبغت في هذا الجو وحرصت على الحضور إلى المجلس بهذا السمت، وأنا المعروف بالمزاح وحكي النوادر والفكاهات، فكنت لا أنطلق في عادتي إلا عندما كنا نخلو في بعض الأوقات مع الأصدقاء من الطلاب ولا سيما ممن يتقنون العربية، وذات مرة حكيت لهم قصة الأصمعي مع الخليفة وقصيدته التي تبدأ ب”صوت صفير البلبل” وأديتها أداء رائعًا فأعجبوا بها أيما إعجاب، وطلبوا مني أن أقصها في حلقة الدرس، فقلت لهم: كيف أتجاسر أن أقص هذه القصة وأعبر بهذه الطريقة أمام الأستاذ وهو بهذه الهيبة؟ فقالوا: نحن نريد أن ندخل السرور إلى قلبه، وأنت ضيف يُسمح لك ما لا يُسمح لغيرك. غدًا سنستأذن لك وتقصها على هذا النحو، فشجعني قولهم “إدخال السرور على قلبه” أن أصول وأجول في الحلقة، وعيني على الطلاب وعلى الأستاذ، الطلاب يكادون ينفجرون من شدة كتمان الضحك، والأستاذ لا يزيد على الابتسام، ثم انتهيت فكان تعليقه من أعجب ما سمعت وهو ما سنتابعه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

About The Author

ليسانس آداب وتربية بتقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف، وماجستير في البلاغة والنقد بتقدير ممتاز بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة عن أطروحة بعنوان" الأساليب البيانية فيما أثر عن المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها"، وباحث دكتوراه بقسم البلاغة والنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، مشرف على إعداد وتحرير إصدارة نسمات للدراسات الاجتماعية والحضارية، nesemat.com، وشارك عضوًا في اللجنة العلمية لوضع السياسات العامة لمشروع "شهادة الكفاءة في اللغة العربية" باتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، الأمانة العامة بالقاهرة، التابع لجامعة الدول العربية. وحائز على جائزة مجمع اللغة العربية بالقاهرة "أفضل مؤلف في تعليم العربية للناطقين بغيرها 2017.

Related Posts