بعدما انتهيت من حكي نادرة الأصمعي، وأديتها أداء بارعًا في حضرة الأستاذ ،كان الطلاب يكادون ينفجرون من شدة كتمان الضحك في حضرته، وهم يطالعون وجه الأستاذ الذي لم يزد على الابتسام، توقعت أن يثني الأستاذ على الفكاهة، أو أن يضحك بملء فيه وهي تستحق ذلك فعلاً، لكن رده كان عجيبا؛ فقد شكرني ثم توجه إلى الطلاب وقال لهم: “هكذا كانت حافظة أسلافنا ممن نقلوا لنا القرآن والحديث، كانت حافظةً قويةً استوعبت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلته صافيًا نقيًّا، في أوعية طاهرة ذكية، لا تخطئ ولو حرفًا، حتى وصلتنا السنة السَّنية الصحيحة في يومنا هذا”.

أبهرني النور الخالد بمادته وطريقة عرضه للسيرة، التي تدل على عمق المحبة والتقدير للمصطفى صلى الله عليه وسلم.

كانت هذه الفترة من التسعينات في تاريخ تركيا تموج بحملات ضخمة لتشويه التراث وإنكار السنة، وكان طلاب الأستاذ القدامى من متخرجي الحلقات العلمية يحضرون معنا بشكل شبه يومي، لكنهم كانوا لا يبيتون في المكان، وكان بعضهم أكاديميا في كليات الإلهيات وهي معقل منكري السنة والطعن فيها من الأكاديميين في ذلك الوقت، فعلمت أن الأستاذ كلَّفهم بالرد على هؤلاء المنكرين ودحض شبهاتهم حول السنة، فتشكلت لجنةٌ من هؤلاء الخريجين لا عمل لهم إلا الاعتكاف على الكتب والمراجع التي تفند وتدحض شبه هؤلاء وتشكيكاتهم حول السنة، واطلعتُ على مصادر كثيرة في هذا الموضوع من خلالهم.

ثم جاء زمان وجدتُ هؤلاء يتربعون على شاشات القنوات العامة والخاصة يطعنون فيمن شاءوا وقتما شاءوا.

وكان تعجبي في ذلك الوقت من هذه الحملة ضد السنة في تركيا، وقد سألوني هل عندكم من ينكر السنة أو يشكك فيها مثلنا؟ فأجبت بالنفي على الفور، وأذكر أنني قلت لا يمكن أن يحدث هذا عندنا، في مصر، وإن كان هناك من يقول بهذا فأصواتهم خفية لا يستطيعون أن يجهروا بها، ثم جاء زمان وجدت هؤلاء يتربعون على شاشات القنوات العامة والخاصة، وتُفرد لهم برامج كاملة للطعن فيمنْ شاءوا وقتما شاءوا، دون أن يسمحوا لأحد بأن يناقشهم أو يرد عليهم، فتذكرت هذه الأحداث وقلت في نفسي: إن تركيا تسبقنا دائمًا في الخير والشر.
كما تزامن حضوري في تلك الفترة مع انتهاء الأستاذ أورخان محمد علي -رحمه الله- من ترجمة كتاب الأستاذ كولن في السيرة النبوية بعنوان: “النور الخالد ..محمد ﷺ مفخرة الإنسانية”، وطلب مني تلامذة الأستاذ النظر فيه وقراءته وتصحيح ما يلزم، فعكفت على الجزء الأول منه قرابة الشهر فأبهرني الكتاب بمادته وطريقة عرضه للسيرة، وما يحمله الأستاذ كولن من محبة وتقدير للمصطفى صلى الله عليه وسلم فزادني ذلك تعلقًا به، واطلعتُ على جانب آخر من جوانب تفرده وتميزه، وكيفية بصره بالسيرة وتنزيلها على أرض الواقع حيةً بين أظهرنا.

هكذا كانت حافظة أسلافنا، لا تخطئ ولو حرفًا، حتى وصلتنا السنة السَّنية الصحيحة في يومنا هذا.

وعندما علمت أنها كانت دروسًا ألقيت على العامة في المساجد الكبرى، وأنها كانت تلبي حاجة ماسة للتعرف على سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاغتراف من منهله العذب، وإزاله الشبه والريوب عن معينه الصافي، أدركت مدى ما يقوم به هذا الفاضل من جهود للدفاع عن الدين، والذود عن حياضه سواء في المجال الفكري أو المجال التطبيقي والعملي.
كانت هذه هي الزيارة الثانية لي لتركيا، وللزيارة الأولى قصة أخرى سنعود إليها بعد ذلك، لكن سبب هذه الزيارة له قصة بطلها شخصية سأتحدث عنها في المقال القادم بإذن الله تعالى.