من المؤكد أن التعليم المدرسي بمنحاه العصري الذي أثّرت في محتوياته الروحُ اللائكية النافذة عالميًّا في المناهج المعرفية، قد أتى على جوهر الروحية الفطرية التي تربط الفرد بأصالته. فلقد استطاعت المدرسة العصرية (مضافًا إليها الإعلام بأنواعه) أن تزحزح النفوس عن بيئتها المعنوية، وأن تجعلها تتكيف مع ثقافة متسللة وطارئة على حياتنا الإسلامية.. ثقافة لا ترعى الحرمة، ولا تعبأ بالدين، الأمر الذي أوجد هذا الإنسان المسلم المعاصر الذي تطبَّع دون شعور منه على روح مجافاة القيم الأصلية، مع ما رافق ذلك من غلظة شعورية ونضوب عاطفي استرخت به لُحمة الأسرة والروابط الجماعية العتيقة.

إن تجربة كولن لا تفتأ تُثبِت اقتدارَها على تكوين النشء التكوينَ النوعي، وتهيئ الدفعات النبيهة، والمرشحة لأن تكون بدورها في المستقبل، قاطرة يتكرس بها الأفق المضيء.

“كولن” وبيداغوجية البناء والنجاعة

إن بيداغوجية البناء والنجاعة التي يشدد عليها كولن، هي التي تحرص كل الحرص على تقطير روح الدين الحق وشَهْدِ العقيدة الصدق في نفوس الناشئة، يتلقونها ممزوجة مع ما يتلقونه من مواد التعبئة الثقافية والتمكين المعرفي؛ بحيث يتذوقها الناشئ في صلب القاعدة النحوية، وفي العملية الرياضية، والدرس التحليلي، والمحاضرة الاقتصادية، وفي الأمثلة المَسُوقة، والاستنتاجات المستخلَصة.. فبذلك يتولد في الأعماق عشق الحقيقة، وحب العلم، والإخلاص إلى الحياة التي تضحى جزءًا من كونٍ مفتوح على الآخرة، ومشروط بعقيدة التقوى والاحتساب الغيبي.

إن ترويض وتنشئة الجيل على التفكير المنتج القائم على تعويدهم ربط أذهانهم بمجال الكون وما يحويه من معان وبينات، هو من أوكد غايات مدرسة كولن.

وتظل الناحية العقلية من أهم ما تسدد نحوه المدرسة الناجحة؛ إذ تركز على تعبئة القلب بالمخصبات العشقية وبالمواجد، وتأهيب الذهن، وشحذ الملَكات، وتنمية روح التفكير والنقد والاختراع، فبذلك يكون الفرد بما أحرزه من تجلية ذهنية في المدرسة وفي مؤسسات التكوين، إضافة نوعية، ومددًا مفعمًا بالحيوية، تغتني بها الحياة. إن ترويض وتنشئة الجيل على التفكير المنتج القائم على تعويدهم ربط أذهانهم بمجال الكون وما يحويه من معان وبينات، هو من أوكد غايات مدرسة كولن: “إن من أجدى الأمور في بناء الجيل الحاضر هو تيسير تنقلهم بين عوالمهم الداخلية، وبين حقائق الوجود؛ لتحفيز عزم التفكير المنظم لديهم، وتحبيب الإيمان والتعليم والتمحيص والتفكير إليهم، بتدريبهم على مطالعة الآفاق والأنفس ككتاب مفتوح”.

إن بيداغوجية البناء والنجاعة التي يشدد عليها كولن، هي التي تحرص كل الحرص على تقطير روح الدين الحق وشَهْدِ العقيدة الصدق في نفوس الناشئة.

التكفل بالخريجين

لا شك أن المتخرج حين يكون قد ترقى عبر مراحل تكوينه الأولى في جو بيداغوجي وعلمي وروحي متكامل، سيكون على درجة من التأهل والتوازن عالية، الأمر الذي يرشحه لأن يندمج في الحياة العملية دون بوار، وسيتحول إلى المجتمع وقد اكتسب صبغة الإنسان الصالح الذي تتوطد به الفضيلة والسماحة والفاعلية.

وإن مما يقع على كاهل البيئة الحية التكفل بالخرّيج، والحرص على الاستجابة لما يحمل من كفاءة واستعداد، حتى لا تنهدر الطاقات بددًا كما يحصل في نظمنا التربوية الراهنة. وما لم توجد المناهج التطبيقية والبرامج الاستثمارية التي تستقبل المتخرّجين، وتتلقف أصحاب التحصيل، وتحولهم إلى عَمَلة وصُناع ورجال إنتاج وتعمير وتطوير، فإن المهمة التربوية تظل بتراء، وبلا سند حقيقي.

من المؤكد أن التعليم المدرسي بمنحاه العصري الذي أثّرت في محتوياته الروحُ اللائكية النافذة عالميًّا في المناهج المعرفية، قد أتى على جوهر الروحية الفطرية التي تربط الفرد بأصالته.

إن من شأن الاستثمار الاقتصادي والثقافي والإنتاجي عامة، أن يفتح الأبواب في وجه الشباب، ويدمجهم في الحياة العملية، وإذا ما هيّأت المشاريع التي توفرها مؤسسات التوظيف ومرافق الاستقبال، مناخًا أخلاقيًّا وتنويريًّا ومدنيًّا يعزّز عملية الإدماج، فلا شك أنها ستساهم في التحول بالمجتمع إلى وجهة الصلاح، وإلى النهج القويم الذي تسوده قيم الخير والطمأنينة.

المصدر: سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، ط 2، 2013، صـ147-149.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.