ذُكرت قصة الكهف في كتاب الجمهورية  بعد منتصف المؤلف وذلك بالكتاب السابع ب (ص 319) من طبعة الأهلية للنشر والتوزيع. وقد ذكر قصة الكهف في أول هذا الكتاب الشيق تحت عنوان”قصة الكهف ورموزها وإشاراتها”. افتتح الكتاب بحكاية سقراط  لتلميذه “كولوكون” بقوله: (دعني الآن أبين إلى أي مدى تكون طبيعتنا متنورة أو مظلمة. أنظر كائنات بشرية أسكنت في كهف تحت الأرض له ممر طويل مفتوح باتجاه النور وباتساع داخلية الكهف. لقد وجدوا هنا منذ طفولتهم،…

يرى كولن أن التجديد والنهضة لن يحدثا في العالم إلا عندما يتقدم أناس مثاليون روحيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا لقيادة الإنسانية من خلال ما يبذلونه من خدمات وما يمثّلونه من نموذجية في حياتهم الخاصة.

واختصارا للكلام ووصولا إلى الشاهد سأعتمد الرواية التي لخصتها السيدة “كارول” وأصلها رواية “سقراط” لتلميذه ” كولوكون”. وقد ابتدأت تحليلها بعنوان (بين كهف أفلاطون وحكمة كولن) فقالت: وصف أفلاطون الفرق بين الفلاسفة والعامة في الجزء السابع من كتابه “الجمهورية” من خلال قصة الكهف الشهيرة، حيث يطلب منا سقراط أن نتخيل أناسًا يعيشون في كهف منذ طفولتهم وهُمْ في وَضْعٍ بحيث لا يرون أمامهم سوى جدار الكهف، ولا يعرفون أن وراءهم ممرًّا طويلاً يقود إلى خارج الكهف، ويوجد خلفهم ضوء ساطع يجعل ظلال الأشياء مِن خلفهم تسقط على الجدار أمامهم. ويعيش هؤلاء الأشخاص حياتهم وهم ينظرون إلى الحائط ويتعاملون مع الظلال الساقطة على الجدار كما لو كانت أجسامًا حقيقية، ولا يدركون أنها ليست في حقيقتها سوى ظلال أو صور للأجسام الحقيقية. وعندما يسمعون أصداء الأصوات تتردد داخل الكهف يعتقدون أن الظلال هي التي تصدر تلك الأصوات، وتبدأ عقولهم في نسج قصص حول تلك الظلال، ويصبح لها معنى لديهم، فهذه الظلال هي “الحقيقة” بالنسبة لهم.”

ثم ساقت السيدة “كارول” كلاما للأستاذ كولن فقالت: (يرى كولن أن التجديد والنهضة لن يحدثا في العالم إلا عندما يتقدم أناس مثاليون روحيًّا وأخلاقيًّا وفكريًّا لقيادة الإنسانية من خلال ما يبذلونه من خدمات وما يمثّلونه من نموذجية في حياتهم الخاصة.)

وهنا أود التوقف. أولا وانسجامًا مع منهج الأستاذ كولن، فالنهضة الحضارية لايقوم بها إلا أناس من طينة خاصة وبتكوين معين. وهذه الطينة وهذا التكوين قد يستغرق سنين ومراحل طويلة عند كولن. وبلغة الأستاذ كولن لابد لهذا الصنف من الناس أن يمر بمرحلة كهفية من أجل الشحن والتكوين. وذلك ما أشار إليه حينما شرح قصة الكهف، التي وددت لو أن الأستاذة “كارول” وقفت عندها. حيث يقول الأستاذ في كتابه اضواء قرآنية: (أصحاب الكهف أي أصحاب المغارة. ومع أنه قيل إنـهم من أتباع النبي عيسى عليه السلام وأتباع الإنجيل، أو أتباع نبي آخر. إلا أننا نستطيع القول -انطلاقا مما جاء في القرآن الكريم- بأن أصحاب الكهف جماعة تمثل رمز البعث والإحياء حتى يوم القيامة. لأن جميع حركات البعث والإحياء مرت بفترات الضيق وفترات العيش في المغارات أو تحت الأرض، وسيتكرر هذا في المستقبل أيضا.)

محل الشاهد في القصة هو اختلاف القابليات بين الناس في النزوع إلى التفوق والبحث عن النجاحات من أجل التعمير والتحضر.

من خلال ما سبق نسجل أنه إذا كان أهل كهف أفلاطون عبارة عن جماعة تعيش وضعا  بئيسا و مزريا أقل ما يوصف به أنه عقوبة إرادية أو سجن اختياري؛ فإن أهل كهف كولن جماعة من نخبة القوم وهي رمز البعث والإحياء إلى يوم القيامة.

ثم انتقلت الباحثة إلى عنوان آخر مهم وهو “الخروج من الكهف” فقالت: وذات مرة، تمكن أحد هؤلاء الأشخاص بشكل أو بآخر من التحرر من هذا الوضع الثابت، واستدار ليرى ذلك الضوء الساطع والظلال التي يكوِّنها، والممر الذي يمتد لأعلى إلى خارج الكهف حيث يوجد نور أكثر سطوعًا، فقطع الممر والنورُ يؤلم عينيه حتى خرج من الكهف إلى ضوء النهار، إلى العالم “الحقيقي”. ولم يستطع في البداية رؤية السطوع الكامل للحقيقة؛ فلا بدّ أن تعتاد عيناه عليها بالممارسة، إلا أنه في النهاية أصبح يرى كل شيء بوضوح، فعاد إلى الكهف ليخبر الآخرين بالظلام الذي يقبعون فيه والنور الذي يُمْكنهم الحصول عليه إذا تحرروا وتركوا تلك الظلال ومشوا عبر الممر إلى النور، فسخروا منه وتشاجروا معه، حتى قرروا قتله في النهاية بسبب أفكاره التي تبدو سخيفة للغاية ولا تمت بصلة للحقيقة.

النهضة الحضارية لايقوم بها إلا أناس من طينة خاصة وبتكوين معين. وهذه الطينة وهذا التكوين قد يستغرق سنين ومراحل طويلة عند كولن.

الملاحظ أن الخروج من الكهف بالنسبة للفريقين يحتاج إلى تأمل. حيث نرى أن سكان كهف أفلاطون يحتاجون إلى شيء كثير من مواصفات سكان كهف كولن. الذين قال فيهم:(…مثل هؤلاء الناس المجهزين بمثل هذا الإيمان ﴿إذْ قَامُوا﴾ قاموا ليرفعوا صوت الحق ضد موات القلب وضد الانحراف عن المنطق.)

صحيح أن محل الشاهد في القصة هو اختلاف القابليات بين الناس في النزوع إلى التفوق والبحث عن النجاحات من أجل التعمير والتحضر، وكما قال الكاتبة:(والشاهد في القصة واضح، وهو أن عددًا محدودًا من الناس هم الذين سيوجهون شخصياتهم بالكامل صوب نور الحكمة والحقيقة ويهبون أنفسهم للبحث عنه رغم كل المصاعب، أما الأغلبية فسوف يفضلون كهف الظلام ويقضون حياتهم مشغولين بالأعمال اليسيرة والهينة التي تنتمي إلى عالم الظلال، على حساب المتع العليا التي تليق بمخلوقات لديها روح حية.)     – يتبع-