إن المتأمل في شخصية الأستاذ كولن يرى أنها شخصية شاملة، تجمع من كل شيء بطرف، فهو يضم في ردائه الفكرَ والفقه والدعوة والسياسة والأدب، فقد عُرِفَ فتح الله كولن -كما تقول الأستاذة الدكتورة هدى درويش- “أنه واعظ وكاتب وشاعر وعالم مفكر”، ونحن الآن بصدد الحديث عن كولن كشاعر صاحب دعوة للتواصل مع الآخر.

إن دعوة كولن دعوة عالمية، “فقد تخلص من أسر المحدوديات المكانية والزمانية، وقفز قفزة نوعية، إلى خارج وطنه التركي إلى جهات العالم العربي، بل وإلى جهات العالم شرقه وغربه، منطلقا من قناعته بأممية الإسلام وبعالميته وبقدرته الفائقة على التعايش والمجاورة مع كل الأقوام والأوطان”، لذا فإننا نجد أن أشعاره جاءت معبرة عن تلك الدعوة، داعية إلى التواصل مع الغير، والتعاون في مساحات المشترك الإنساني الذي يجمع بين البشر، فكولن -كما يقول الأستاذ الدكتور سليمان عشراتي في كتابه الانبعاث الحضاري: “يؤمن بحق البشر في تداول المشتركات التجهيزية والإنجازات الإنسانية، وبكونها ثمرة ومكسبا لا ينبغي التقصير في الأخذ به والتمرس عليه، لا سيما في الحقل العلمي وفي المجالات التطبيقية، إذ بتوسع المعرفة الإنسانية يتحقق التطور، والتطور حين ينبني على مسطرة من أخلاق النزاهة والحيادية، ينعكس بثماره على الإنسانية جميعًا”.

وقد تنوعت وتعددت الموضوعات التي تناولها كولن في أشعاره، ولكن اللافت للنظر أن هناك موضوعا احتل مساحة كبيرة من أشعاره ألا وهو التواصل مع الآخر، والتسامح مع الغير، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائد كولن من دعوة إلى التواصل والتسامح ونبذ الخلافات، والتقريب بين وجهات النظر، ويؤكد ذلك أن يعرف كولن في تركيا وفي العالم بلقب (داعية الحوار والتسامح والتوافق).

وسوف ينتظم هذا البحث في أربعة مطالب:

المطلب الأول: كولن شاعرا

إن الأستاذ كولن كما هو مفكر وداعية كريم فهو أيضا أديب وشاعر عظيم، ولقد ذكر الأستاذ (أرطغرول حكمة) أنه حين التقى كولن بالسياسي والشاعر (مصطفى بولند أجويت) “لم يكن لقاء سياسيا، بل بحث معه موضوعات أدبية وصوفية وفلسفية”، وهذا يبين لنا أن كولن شخصية أدبية، وعنده قضايا يمكن مناقشتها مع شاعر تركي معروف.

ولزاما علينا قبل أن نلجَ إلى عالم كولن الشعري، أن نبين بشكل بسيط رؤية كولن للشعر، “فالشعر كما يراه كولن ليس مجرد كلام موزون، ولكن الأهم ما يملكه من جاذبية وما يحمله من مضمون، فالشعر الحقيقي تعبير عن الجمال والتناسق الموجود في روح الكون، وعن البسمة الموجودة في جمال الوجود، وهو بذل الجهد في محاولات البحث فيما وراء هذا العالم، وإن كل كلمة للشعر لا يمكن فهمها بحق إلا بعد معرفة الحالة الروحية التي فجرت ذلك الشعر، فهو يولد ويأخذ شكله حسب إيمان الشاعر الذي يؤثر في أحاسيسه ونظرته للحياة، وفي مملكة الشعر الحق، تصل الأنـظار إلى النور، وتقرب المسافات البعيدة، وتبلغ الأرواح عزما وشوقا لا ينطفئان، والأشعار-عنده- كالأدعية، تعبر عن العالم الداخلي للإنسان بكل ما يموج فيه من شوق وحزن، ومد وجزر، فكل مناجاة شعر، وكل شـعر مناجاة، وذلك بشرط أن يعرف الشـعر كيف يفتح أشـرعته نحو اللانهائية، حتى يحلقَ في سماء الفكر الصافي بأجنحة القلب وبقوة الروح المتغذية من فكر الخلود”، ومن خلال تلك النظرة للشعر نرى أن أشعار كولن عبارة عن معزوفات بلاغية راقية يجتمع فيها البيان الرائع، والتصوير المبتكر، والفكرة المدهشة، والمعنى المكثف الذي يمس الجوانب الإنسانية العامة.

ويتمثل نتاج كولن الشعري في أمرين:

الأول: ديوان كبير بالتركية أطلق عليه اسم (المعزف المكسور، أو الريشة المكسورة، أو ريشة المعزف المكسورة) على اختلاف الترجمات للعنوان، وهو ديوان ثريّ لم يترجم كاملا حتى الآن، لكن تمت ترجمة قصائد عديدة منه، وقد اجتهدت في جمعها والاطلاع عليها وقراءتها قراءة أدبية.

الثاني: مقاطع قصيرة كتبها كولن تعليقا على مجموعة من الصور، تصل إلى المئات، وهي تمثل دفقة شعورية مركزة، تعالج بقوة حالة معينة أو فكرة مهمة، وقد تمت ترجمة العديد منها إلى العربية، وجمعها في ديوان تحت عنوان ألوان وظلال، قام على تعريبه وإعادة صياغته الأستاذ أديب الدباغ.

المطلب الثاني: التواصل في شعر كولن

“لقد اهتم الأستاذ فتح الله كولن بفكرة الحوار والتواصل والتفاهم بين التيارات المختلفة” ولقد أتاحت له ثقافته الواسعة أن يخاطب مختلف الشرائح الاجتماعية، وحين نتأمل في قصائد كولن نجد أن كلمة (الوصال) من الكلمات الشائعة فيها، وهي وإن كان فيها إشارة صوفية إلا أنها تعتبر انعكاسًا لما يدور في خلَده، فالوصال غاية، ومن نماذج ذلك:

قوله في قصيدة (الفارس الأمجد):

ها قد التقى المستقبل والماضي في محطة الوصال

وقوله في قصيدة (هؤلاء الأبطال):

وإذا بالروح تنتفض بتوق، وتندفع حالمة بلحظة الوصال

ويخاطب كولن المعاناة في قصيدة (المعاناة) ويقول لها:

أنت وسيلة الوصال في الدروب المؤدية إلى الحق (الله)…

ويؤكد أن الوصال بالنسبة للإنسان حلم لا يتخلى عنه مدى العمر، فيقول في قصيدة (أواصر الروح):

الإنسان الذي خُلِقَ بحاجة إلى العشق والوصال،

لا يفتأ يركض نحو هذا الأفق العمر كله.

وفي قصيدة (عالم الإيمان الأطلسي) ينظر كولن إلى الوصال على أنه في حد ذاته بُشْرَى، فيقول:

في هذا الحلم العميق تبحر الأرواح نحو الخلود،

وتموج الخواطر خضرة مع وفرة الذكريات؛

ثم… يأتي الوصال بشرى

ويقول في قصيدة (تلال من زمرد):

في هذا المكان الذي اندمج فيه العشق مع الشوق،

تُحلّق الروحُ نحو الوصال درجة فدرجة

ويبلغ تأكيد كولن على معنى الوصال إلى تسمية إحدى قصائد ديوانه (الريشة المكسورة) بــ (الوصال)، وتسمية قصيدة أخرى بعنوان (الواصلون).

“وإن النموذج الإنساني الذي تكون في المدرسة الفكرية لفتح الله كولن يعلم جيدا أنه مسؤول بمهمة سامية نبيلة هي مهمة إصلاح العالم وحمل إكسير المحبة والأخوة الإنسانية إلى كل مكان”، من هنا ومن خلال التأمل في قصائد كولن نجده يؤكد دائما على فكرة العمومية والكونية من خلال تعبيرات أخرى متكررة في شعره بصورة واضحة، فلا نكاد نرى قصيدة من قصائد كولن دون إشارة إلى كل مكان وكل ربع..، ولا شك أن هذا الشعور بالكلية -إن صح التعبير- لا يتأتى إلا من خلال تواصل وتسامح وتعاون أيضا، ومن أمثلة ذلك:

في قصيدة (نشيد الفارس) يقول:

لم أبرح أسأل عنك في كل مكان حللتُ فيه

وفي قصيدة (رجل القضية) يقول عن القائد الرمز:

في يمينه مشعلته ينشر الضياء في كل مكان،

تضيء القناديل صفا صفا في كل ربع يمر عليه

ويقول:

تهب الريح من كل اتجاه حاملة أريج الربيع

وفي قصيدة (الربيع ذو الشعر الذهبي) يقول:

جمال في كل مكان، تناغم يغمر الحياة،

وفي قصيدة (تلال من زمرد) يقول:

عرسٌ في كل ربع، عيد في كل مكان

وفي قصيدة (الهائمون بالنور) يقول:

نشروا نورا في كل مكان مروا به.

وفي قصيدة (قلوب معانية) يقول:

فأبشر بحياة تنتفض في كل مكان، ويتمتم كل شيء بـ “الربيع”.

في قصيدة (نسمات من الآخرة) يقول:

عالم لا ظلمة في أي جزء من أجزائه…

وفي قصيدة (أحلام جميلة) يقول:

وأريج البعث يتقاطر من كل ركن؛

وفي قصيدة (الوصال) يقول:

كل مكان يسيرون فيه روضة من الفردوس.

وفي قصيدة (المنتبهون إلى الخلود) يقول:

هذا عالم الأمل، وفي كل ركن نوافير بلورية

يجري من صنابيرها نور، والشاربون سكرى…

وفي قصيدة (الفارس الأمجد) يقول:

ويطل ربيع يتلوه ربيع أبهى وأزهى في كل مكان

وفي قصيدة (السبيل الأغر) يقول:

كانوا يبنون عالما جديدا، دون كلل أو ملل…

كان كل ركن يشع نورا كأنه ينافس السماء!

إن تعبيرات نحو (كل مكان، كل ربع، كل اتجاه، كل شيء، كل ركن) تؤكد هذه الكلية التي نعنيها، وهي تحمل ضمنيا معنى آخر وهو التحرك والانتقال من مكان إلى آخر، فدعوة كولن للتسامح والأخوة والتواصل ليست دعوة محدودة، لكنها دعوة عالمية تتطلب السعي والحركة في كل مكان، وتلك العالمية هي التي جعلت موضوعات الشعر عند كولن تتسم بالعمومية، فنحن لا نحس في قصائده بأية تجارب ذاتية أو معاناة شخصية، كعادة الشعراء في الكتابة عن هجر الحبيب أو وفاته أو الشكوى من الدهر، أو بيان موقف سياسي معين أو غير ذلك مما يسِمُ القصائد بوسْم الخصوصية، أو الذاتية، أو المحلية! فعند كولن نجد أن معظم القصائد -إن لم تكن كلها- تتناول أفكارا عامة، وتصلح للتعبير عن الإنسان أي إنسان بصرف النظر عن الزمان أو المكان، وأيا كان لونه أو جنسه أو دينه، وإن تلك القصائد لو ترجمت إلى أي لغة في العالم، فلن يشعر أصحاب هذه اللغة بأي جفوة أو فجوة بينهم وبين الموضوعات التي تتناولها…!، فهي قصائد عامة أو قصائد عالمية! ويؤكد تلك العمومية أيضا أننا لا نكاد نجد ذكرا لاسم (تركيا) مثلا في شعره، مع مراعاة أننا لا ندعي أننا اطلعنا على كل الإنتاج الشعري للأستاذ كولن، ولكن ما اطلعنا عليه بالفعل مما نشر سواء من ديوانه (الريشة المكسورة) أو (ألوان وظلال) -وهو إنتاج ليس بالقليل- يصلح أن نستنتج منه هذا الاستنتاجَ ونقرّر من خلاله تلك الحقيقةَ!

المطلب الثالث: مفاتيح التواصل مع الآخر

هناك مفاتيح كثيرة لدى كولن للتواصل مع الآخر والتعاون مع الغير، منها:

الطهارة والتجرد من الذات

في أكثر من موضع في القصائد يؤكد كولن على صفة الطهارة، فهي المنطلق الأول لأي عمل وكأنها عنده مرادف لمعنى الإخلاص، والإنسان الفاضل عنده -كما يقول الأستاذ محمد أنس أركنه- “هو الإنسان المتسامح اللين الجانب، وهو الإنسان المضحي والمخلص في سبيل المجتمع والإنسانية”، وحتى يتحقق التواصل مع الآخر لا بد من تخليص النفس وتطهيرها من الشوائب التي تعلق بها، والتي قد تكون حائلا بينها وبين السمو والارتقاء والوصول إلى الغاية المنشودة.

في قصيدة (جيش الضياء) يصف النواصي بأنها طاهرة، فيقول:

جيش الضياء، نواصيهم الطاهرة تشع بالأنوار.

ويقول في قصيدة (الفارس الأمجد):

ها هم الفرسان الأطهار على عروش من نور يتربعون.

ويقول في قصيدة (السبيل الأغر):

وإذا بالغُرّ الميامين قد مروا تتلألأ وجوههم طهرا

إن حب الذات والأنانية من الأمراض التي ما فتئ الأستاذ كولن ينبه إليها ويحذر منها، ويصف الأدوية لها، سواء أكانت أنانية فردية يحب فيها الفرد نفسه أكثر من غيره، أم أنانية جماعية تعلي فيها طائفة ما نفسها فوق الطوائف الأخرى لأي سبب من الأسباب، “وقد رسخ الأستاذ فتح الله مبدأ الشعور بـ “نحن” على إذكاء الشعور بـ”أنا” … فيجب تجاوز الإحساس بحب الذات وجعل الشعور بـ”نحن” في المقدمة”.

ويشير كولن إلى أن السمو على الذات والتخلص من الأنانية يفتح آفاقا كبرى أمام الإنسان، فيقول في قصيدة (هؤلاء الأبطال):

كأنه قد انفتحت نافذة سرية من جانب الماوراء،

وبقدر ما يستطيع الإنسان التجرد من ذاته؛

يسمع ألحانا أخروية تنبعث من قلبه،

ويصغي إلى نغمات فردوسية تتعالى من نَفَسه.

ويؤكد كولن على أن البطل الحقيقي يجب أن يتخطى حدود نفسه، بلا طمع فيقول في قصيدة (رجل القضية):

بطل هو يتجاوز كل حاجز من حواجز النفس؛

لا يطمع في ثروة، أو مال أو درهم أو دينار؛

الزمان في يده طيّع مثل كرة من خيوط الصوف.

وينبه في قصيدة (لا تنقضوا عهودكم)، فيقول:

مخلصًا كنت،

فإخلاصك لا تخدش،

وصالح عملك لا تبطل..

بطلاً قَدِمْتَ، وستبقى بطلاً،

للآخرين تضحّي…

تقتحم النيران لأجلهم…

الإيمان والحب:

بداية إن الإيمان المقصود هنا لا يعني الإيمان بالله تعالى فحسب، ولكنه يشمل الإيمان بنبل الغاية، وجلال المهمة، وصحة الطريق، وقدرة الإنسان على تحقيق ما يصبو إليه، وهذا الإيمان هو ما يدفع المرء إلى الصبر على كل المعوقات ومحاولة التغلب عليها وعدم الرجوع عن الهدف.

يقول كولن في قصيدة (تلال من زمرد):

مهما ضاقت الآفاق، وأنهكت الدنيا الإنسان،

فالإيمان يفتح له آمادا واسعة لا تنتهي…

ويحث الإنسان على التحليق في السماء بجناح الإيمان، محذرا إياه من الركون إلى العثرات.

فيقول في قصيدة (إبان بزوغ الفجر):

تعال، رفرف بالإيمان وحلق في السماء؛

إياك أن تتعثر بالأبعاد التي تضيّق على روحك!

ولعل هذا ما أشار إليه كولن في قوله: “المهم أن تؤمن بسلامة الطريق. فإذا غيرت طريقك لأنك تتعرض لبعض الضغوط أو المضايقات من هنا أو هناك، فهذا يعني أنك في شك من صحة الطريق الذي تسير فيه، فإذا لم يكن عندكم شك من طريقكم فينبغي أن تثبتوا عليه. انظروا إلى الأنبياء العظام، سيدنا موسى وعيسى والحبيب المصطفى ، بل حتى رموز الديانات الأخرى مثل بوذا وبراهمان، تجدون أيضا أنهم تعرضوا لألوان شتى من الإساءة والإيذاء، قد يعتزلون الناس حينا من الوقت، لكنهم لا يحيدون عن منهجهم جراء تلك الممارسات والمضايقات”.

ويحذر كولن الإنسان من أن يسجن نفسه في خوفه أو قلقه، فيمنعه ذلك من التواصل مع الغير، لذا يدعوه إلى أن يتسلح بالإيمان، فيقول في قصيدة (إبان بزوغ الفجر):

تعال، رفرف بالإيمان وحلق في السماء؛

إياك أن تتعثر بالأبعاد التي تضيّق على روحك!

في ذاتك كامن ذلك السر الذي لم تسعه السماوات والأرضون،

لا يليق بك أن تسجن نفسك في الأرض والسماء!

وينبه إلى أن مصير الذين حرموا الإيمان هو الشعور بالغربة، فيقول في قصيدة (عالم الإيمان الأطلسي):

غربة الليل تَغشَى قلوبا حُرِمت لمسةَ الإيمان،

تغمر آفاقهم ظلماتٌ طبقة فطبقة،

سواد دامس، تيه، تفقد فيه النفوس معناها،

كأن ثقبا أسود قانيا سيظهر بعد حين،

في مكان تذوب فيه الأرواح للإيمان حسرات…

وفي القصيدة ذاتها يقول:

أفق ذوي الإيمان ناصع مضيء كالسماء،

في عمق فريد تمضي اللحظات والساعات..

وجه الأرض مشاهد من الجمال يسحر ويسبي؛

كل درب هنا إلى الجنة يؤدي…

وقامات مشرقة تملأ الدروب تجري..

ويلفت كولن النظر أيضا إلى أن التحلي بالإيمان لا يتطلب الغنى والسكن في القصور، فيقول في قصيدة (الدنيا):

فكم من إيمان في الكهف ينبت،

وكم من إيمان في المغارات يورق،

وثماره تنضج…؟!

فقبورنا كهوف إيماننا،

إذا حُمَّ القضاء وحان الأجل…

وفي قصيدة (لغير وجهك لا ألتفت) يقول:

يا موتى القلوب،

يا غافلون، يا تائهون…

هاكم حياض الإيمان،

بها اغسلوا قلوبكم،

واغمسوا أرواحكم…

تَعُدْ الحياة إليكم،

وتجري من جديد في عروقكم…

وإنْ كنتم للاطمئنان تنشدون،

والأمنَ تريدون،

فعنهما خارج الإيمان لا تفتّشون،

وفي سواه بهما لا تحظون…!

ويقول في قصيدة (السبيل الأغر):

كان الجميع ينظرون بعين الحب إلى بعضهم بعضا،

ومن المعلوم “إن الفكر الإيماني يستمر في التأثير على الأنشطة الأدبية والعلمية، وسائر ما ينيط به الإنسان القلبي همته؛ لأن هذا التفكير المصهور بالنور الغيبي، سرعان ما يضحى بدوره مصهرًا يقولب كيان الفرد، ويكسبه جِبِلّة شفافة؛ لأنه يأخذ مع الترسخ صورة طبيعة ثانية في الإنسان، الأمر الذي يهيئ -بتنامي هذه الطبيعة الثانية في الأفراد والقطاعات والقيادات والمجاميع المرابطة في الورشات والمعامل والمختبرات- استحكام صبغة الفاعلية، ويفتح الطريق واسعًا لبناء الحضارة”.

المعرفة والعلم

“إن الأستاذ كولن يعتقد اعتقادا راسخا أن الإنسان يرقى بالتعليم، فأول واجبات الإنسان هو إدراك المعرفة، فالتربية والتعليم هما الوسيلتان اللتان يرتقي بهما الإنسان في مدارج الكمال”، ولقد أولى كولن المعرفة والعلم أهمية كبرى من خلال المدارس المنتشرة في كل مكان في العالم، وكما قال في كتابه (الموازين): الجهل أسوأ صديق، والعلم أخلص صديق، عندما يغضب الجاهل يصرخ ويسب، أما العاقل فيقوم بالتخطيط لما يجب عليه عمله”.

وفي قصيدة (لسان الوجود) يبرز كولن أهمية العلم، فيقول في مناجاته:

منك نقتبس العلم، وعنك نأخذه..

وهذه الذرّة العرفانية،

سرعان ما تنقلب عندنا إلى يَمٍّ محيط..

بها نقيم الحضارات، ونبني الصروح،

ونكتشف المجاهيل…

فهذا الاكتشاف للمجاهيل يتطلب من الإنسان الحركة، والعلم، ولذا يدعو كولن إلى نشر العلم فيقول في القصيدة نفسها:

سطِّروا معاني هذه الكلمات،

على الحرير الأبيض…

وانشروها أعلامًا ورايات في سوق المعارف الكبرى…

ليقرأها مَن يقرأ، ويفهمها مَن يفهم…

كما يدعو إلى التأمل فهو الوسيلة لمن يريد أن يعلم أو يعرف، ثم يعلن في نهاية القصيدة خطورة هؤلاء المتغافلين، المعرضين عن التأمل أو العلم:

مَن شاهدَ ثمَّ عمي، ومَنْ سمع ثمَّ تصامم،

ولم يرَ في المخلوقات ألسنة ناطقات، وأقلامًا كاتبات..

فهو للكون عدوّ، وللكائنات خصيم،

ولنا معاند، ولربّ العالمين جاحد…

الارتحال والانتقال

لو نظرنا إلى المفاتيح السابقة لوجدنا أنها جميعا تشترك في صفة التأهيل، فكلها مؤهلات وإن شئنا أن نقول ممهدات ومكونات للشخصية (الطهارة والتجرد، الإيمان والحب، العلم والمعرفة)، أما هذا المفتاح فيمكن اعتباره النتيجة اللازمة لكل المفاتيح السابقة، فإن طهارة الروح وتجردها، وإيمان القلب وما يحمله من حب، ومعرفة العقل وما فيه من علم، كل هذا ليست له أية قيمة ما لم يكن هناك حركة وارتحال وانتقال.

لهذا يدعو كولن إلى التنقل والارتحال، في قصيدة (إرادات حية):

تجول في قلب الحوادث مثل العارفين!

وانظر إلى الوجه المشرق للأفراح والأكدار…!

ويؤكد أن هؤلاء الراغبين في التواصل لن يتوقفوا؛ حتى يدركوا غايتهم، فيقول في قصيدة (قلوب معانية):

يهرولون في هذا السبيل باستماتة ليل نهار،

سيجرون دوما حتى يبلغوا الضياء…

لهذا هو يتألم على انهيار الجسور التي تصله بالآخرين، فيقول في قصيدة (روح الأمة):

انهارت الجسور واحدا بعد آخر، والدروب خالية من المسافرين،

العيون التي لم يبق أحد يتردد عليها، جفت…

وهذا التحرك رغم صعوبته لا يؤدي إلى الشعور بالسأم، فيقول في قصيدة (السبيل الأغر):

مررتُ على كل مكان، لم أشعر بملل أو سأم،

والتقيت بقوم يشربون الضياء من صنبور عتيق…

الإرادة القوية وعدم اليأس

ويربط كولن ربطا عجيبا بين القلق والإرادة، فكولن يرى أن هذا القلق مصدره ضعف الإرادة أو موتها فيقول في قصيدة (إرادات حية):

دع القلق والجزع، إن كانت إرادتك حية!

فكأن الأمل الآن مرتبط بصاحب الإرادة والعزيمة القوية لهذا يستأنف فيقول في القصيدة نفسها:

كن مصدر أمل -إن استطعت- للجميع!

من يبحث عن دار هادئة فليهرول إليك؛

من يدخل عالمك فليهلل غبطة وطربا…

إن مجرد فقد الأمل في التواصل مع الآخرين كاف وحده للخمول والكسل والقعود والغضب والتوجع، وتبدو الغايات أمام هؤلاء الكسالى وكأنها خلف جبال عالية لا يمكن الوصول إليها، يقول كولن في قصيدة (المنتبهون من الخلود) أنه إلى جوار المتفائلين أناس آخرون:

إلى جانب هؤلاء أرواح تتجرع يأسا،

مهما امتدت بهم السنون فالعمر قصير!

سخط، وثوران، وآهات لا تنتهي: “وا أسفاه،

في حياتهم يعانون، وفي رحيلهم حسرات يطلقون ويبكون…

أمامهم جبل، من بعده جبل، من بعده جبل آخر،

جَرَفت السيول السهول طرا، وكل مكان حدائق محطمة،

في القلوب يأس قاتل، في العقول جزع مرعب…

لهذا يحذر كولن من ضعف الإرادة، فيقول في (روح الأمة):

تصدّعٌ في الإرادات، صدمة مروعة في الأرواح،

شرذمة من الأشقياء نهبوا التاريخ وطمسوه؛

انهارت القيم، وتيتمت المقدسات،

ويتمني ألا تخضع الهمم العالية إلى النوم فيقول في الربيع المرتقب:

ليت الإرادة لا ترتمي في حضن ذلك السُّبات القاتل…

ويؤكد كولن دائما على فكرة الانتفاض والنهوض، فحتى لو حدث سقوط لأي سبب، فمن الواجب ألا يستمر هذا السقوط طويلا، بل يجب أن ينتفض الإنسان من ثباته، وينهض من كبوته، ويعاود السير إلى غايته، ويحضرني هنا قولي في إحدى قصائدي:

لا تطل الكبوة قم دعها …. وانهض وبعزم ودعها

وفي ذلك يقول الأستاذ فتح الله كولن في قصيدة (هؤلاء الأبطال):

وإذا بالروح تنتفض بتوق، وتندفع حالمة بلحظة الوصال،

ويقول في قصيدة (رجل القضية) معبرا عن أثر القائد في الكائنات:

وتنهض الأشجار العملاقة بعد سقوطها واحدة بعد أخرى،

ويقول في قصيدة (روح الأمة):

أعيش بأمل أن تنهض وتأتي…

وفي قصيدة (إبان بزوغ الفجر)، يقول حاثا كل فرد من أفراد الأمة:

انهض وأعلن سَعْدَ عمرك، أعلنه في كل مكان!

مبكرا انهض، قبل تلك الساعات التي تنهض فيها في قلب الليالي…

ويقول في قصيدة (المتوارون خجلا) مخاطبا هذا الطائر الرمز الذي يسعى إلى التواصل:

يا طائري…

من رماد الموت قُمْ،

اِنْهَض، ثمَّ انطلق…

فإذا أنكرتْك الأجواء،

وتحاشَتك الأعالي،

فلتنشقّ السماء أسَفًا،

ولتغر النجوم احتجاجًا وألَمًا…!

ومن أعجب ما ترى أن ينظر كولن إلى الأمور التي نراها سلبية على أنها أمور إيجابية، فتجده يمتدح المعاناة؛ لأنه يراها خليلا له، وأنها تذكره بالإنسانية والحب، وأنها في حد ذاتها هي السبب الأساسي للتواصل، وينظر إلى الآلام على أنها متعة، وأن الحرمان منها محنة، يقول في قصيدة (معاناة):

المعاناة خليلي عندما أخلو وحيدا،

ليتك تعلم بأي معان نبيلة تأتي؛

إنها تذكرنا بالإنسانية والحب.

العقول التي لا تعرف المكابدة لا ترى إلا سرابا،

الآلام متعة، والحرمان منها عين محنة الحياة…

أيتها المعاناة؛ أدركت أن كل عطاء أنت مصدره!

أنت وسيلة الوصال في الدروب المؤدية إلى الحق (الله)…

بل ويمتدح الظلام أيضا، فيقول في قصيدة (هؤلاء الأبطال):

كل غروب علامة لشروق في هذا العالم،

يتلو الظلامَ أمواج من ضياء دوما.

فكأن الظلام الآن ليس داعيا إلى التشاؤم، بل هو مقدمة للتفاؤل؛ لأنه من المؤكد أن بعد هذا الظلام أمواجا من النور

المطلب الرابع: آثار التواصل

التسامح والطمأنينة:

من أهم آثار هذا التواصل التسامح والطمأنينة، يقول كولن في قصيدة (رجل القضية):

وفي عالمه الأطلسي تفوح السكينة دوما وتسود الطمأنينة،

وتتعالى رائحة العنبر من كل موقد ينعم بشعلة منه.

الخضرة والنماء:

يؤدي إلى انتشار الخضرة والنماء، يقول كولن في القصيدة نفسها:

الديار التي مر بها تنتفض بالخضرة على إثره،

تهتف السهول فرحا وتغرد الهضاب والجبال بشرا…

انتشار الأخلاق:

فالمتواصلون ينشرون آدابهم وأخلاقهم في كل مكان، ويمنحون العالم كله سر البقاء والخلود كدليل على تواصلهم معه، وعدم انفصالهم عنه، وهؤلاء هم الذين ينشرون نورهم في كل مكان، يقول كولن في قصيدة (الهائمون بالنور):

هؤلاء الأبطال الذين هامت قلوبهم بالنور،

أطلقوا أشرعتهم ذات ليلة وأبحروا نحو الخلود.

هؤلاء الأبطال الذين هامت قلوبهم بالنور،

نشروا نورا في كل مكان مروا به.

السعادة

فالساعون إلى التواصل حين يدركون غاياتهم يشعرون بالسعادة يقول كولن في قصيدة (المنتبهون من الخلود):

في هذا المكان، السعداء الذين أحسوا بالأبد،

وشعروا بلذة وصال أخرى في كل لحظة،

دوما يرفرفون بعشق في سرور وحبور؛

هذا المنبلج في أفقهم فجر ساطع،

وما يشربونه ماء الحياة، وما يحملونه كأس الخلود…

ويقول في قصيدة (تلال من زمرد):

في هذا المكان الذي اندمج فيه العشق مع الشوق،

تُحلّق الروحُ نحو الوصال درجة فدرجة،

وأهل السَّعْد ممن أحسوا بالحق في وجدانهم،

ارتشفوا طعما آخر مع كل أمل جديد…

التواصل مع الأكوان:

لا يكتفي كولن في دعوته إلى التواصل مع الإنسان فحسب، بل يصل الأمر إلى التواصل مع الأكوان كلها، فيقول كولن في قصيدة (جيش الضياء):

ترفرف الملائكة في آفاقهم ليل نهار،

يحلقون مع الأرواح الطاهرة طوال اليوم،

تفتح السماوات لهم حضنها، وتحييهم الأفلاك إجلالا،

حتى وصل الأمر إلى أن السماء تداعب الإنسان، فيقول في (هؤلاء الأبطال):

والسماء بفضائها الصامت الهادئ والصافي،

تغمز لنا بعينها؛ وما بعدها عالم عجيب آخر…

بل وجعل الأنهار في جريانها إنما تسعى إلى التواصل مع البحر، يقول في (تلال من زمرد):

وتنطلق الأنهار شوقا إلى وصال،

من جبال شاهقة نحو البحار،

ويدفع الرياح إلى أن تهب بالخير بعد سكونها، ويحيي الأشجار أخرى من جديد، يقول في قصيدة (رجل القضية):

تهب الريح من كل اتجاه حاملة أريج الربيع،

وتنهض الأشجار العملاقة بعد سقوطها واحدة بعد أخرى،

وحين ينتشر النور ينجلي الظلام وتتفرق الخفافيش، ويخاف المتعامون من هذا الوليد الجديد، يقول في قصيدة (قلوب معانية):

في الأفق نور ساطع، والظلمات أصيبت بحُمّى،

تتطاير الخفافيش مرتبكة ومجروحة؛

يرتعد العميان من هذا المجهول الجديد،

ألا إنه فجر الأرواح الحزينة…

الخلود والبقاء

يرى كولن أن هذا التواصل يؤدي في النهاية إلى الخلود والبقاء، يقول في قصيدة (الهائمون بالنور):

سيعيش كل واحد منهم في ألف قلب،

في وجوههم بريق الخلود،

لن تبهت ذكرياتهم أبدا،

تماما مثل ورود ضفة الماوراء…

خاتمة:

من خلال تلك الرحلة الموجزة في عالم كولن الشعري يتبين لنا ما يلي:

للأستاذ كولن منزلة شعرية راقية، فهو ليس مجرد داعية أو مفكر إسلامي فقط، ولكنه أيضا شاعر من الطراز الأول.

لكولن نظرة متميزة للأدب والشعر وللكلمة بصورة عامة..

لا يمكن فهم الشعر فهما صحيحا إلا بالعودة إلى حياة الشاعر الذي أبدعه

ديوان المعزف المكسور لم يتم ترجمته كاملا حتى الآن، وهو في حاجة شديدة لتكاتف الجهود من أجل إخراجه إلى النور كاملا.

أشعار كولن تتسم بسمة العمومية، فموضوعاتها معبرة عن الإنسان في كل زمان ومكان.

حرص كولن في قصائده على إبراز فكرة الاتصال والتواصل مع الآخر، والشعور بالمسؤولية تجاه الجميع.

لم يرد ذكر التواصل والتسامح كثيرا، لكن تأكد ذكر لفظ الوصال، وألفاظ العمومية نحو في كل مكان في كل ربع وهكذا

يتفاءل كولن بكل ما في الحياة، حتى المعاناة والظلام وغير ذلك مما يستبعده البعض من التفاؤل.

من مفاتيح التواصل: التجرد وعدم الطمع، والإيمان والارتحال والإرادة القوية..

من ثمرات التواصل مع الآخر: التسامح والطمأنينة، والخضرة والنماء، وانتشار الأخلاق، والسعادة، والتواصل مع الأكوان، والخلود والبقاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

تقارب الشعوب، أ.د هدى درويش، ص 100

فتح الله كولن في شئون وشجون، أديب إبراهيم الدباغ، دار النيل، ط1، 2013م، ص 199

الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، أ.د سليمان عشراتي، ص 108

انظر مقدمة كتاب أنفاس القلب تحت عنوان (من هو فتح الله كولن؟)، ص 8.

فتح الله كولن (قصة حياة ومسيرة فكر)، أرطغرول حكمة، دار النيل، ط2، عام 2014م، ص 105.

للمزيد يرجع في هذا إلى كتاب الموازين لفتح الله كولن، ص 118.

أديب ومفكر ومترجم وباحث عراقي من مواليد الموصل 1931، عمل معلما، وكاتبا، وشارك في العديد من المؤتمرات الدولية، وله أكثر من أربعة عشر كتابا، وتوفي رحمه الله تعالى عام 2017م.

فتح الله كولن (قصة حياة ومسيرة فكر)، سابق، ص 172.

د. محمد جكيب، أشواق النهضة والانبعاث، دار النيل، ط1، 2013م، ص 320.

فتح الله كولن (جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية)، محمد أنس أركنه، دار النيل، ط2 ، 2011م، ص 231.

مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي (مؤتمر دولي)، جامعة الدول العربية، دار النيل للطباعة والنشر، 2011م، ص 260.

فتح الله كولن، مواقف في زمن المحنة، ص 93.

أ.د. سليمان عشراتي، الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن، ص 153.

أشواق النهضة والانبعاث، سابق، ص 317.

فتح الله كولن، الموازين، ص 254.

هذه القصيدة وجدت لها ترجمتين، واحدة أولها:

فارسٌ كان هنا.. في ذلك السفح دفَنوه، نزَعوا قَمِيصَهُ، والكفَنَ مزَّقوه، قالوا احْذَرُوا…! قد ينهض من جديد…! فأثقلوا قبره بالصخور..

والثانية أولها:

بطل كان هنا، في ذلك السفح دفنوه… ثم من كفنه وقميصه جرّدوه. وخشية أن ينهض من جديد وضعوا عليه كومة من الأحجار..