بالنظر إلى سيرة الرجال القدوة في الخدمة الإيمانية والقرآنية مثل الأستاذ “بديع الزمان سعيد النُّورسي” سنرى كلما ابتعد عنه بعضُ تلاميذه لفترةٍ من الزمن ثم عادوا ورجعوا إليه، مدحَهم وركّز على رجوعهم فقط. وأثْنى على ما هم عليه أثناء الرجوع، وهذا هو ما بقيَ في ذاكرتنا عنهم.. أنهم رجعوا.

 كما نهرب من الأفاعي والثعابين ونبتعد عنها، علينا تجنّب اغتياب إخواننا.

وكان من الطبيعي أن هذا الرجوع سبقه فراق وبُعدٌ ولكن ذلك الزعيم الكبير الذي كان دقيقًا جدًّا في جميع كلامه وتصريحاته ركّز فقط على رجوعهم، ولم يكتب سطرًا واحدًا عن مفارقتهم وابتعادهم، ومع أن الكثيرَ في عهده افترَوا عليه وهاجموه، إلا أنه لم يقل كلمة واحدة صريحة تُفيد الغيبة ضدّ أحدٍ منهم ولم يذكر بصراحةٍ اسمَ أحدٍ منهم، لأنه عدّ هؤلاء الأشخاص إخوانًا له من جهة الإيمان. ولم يقابل تهجّمهم عليه بكلمةٍ واحدة، فالإيمان والوقوف ضد الكفر واستحقاقُ الجنة في النهاية ليس من الأمور التي يمكن التهوين من شأنها؛ لذا فكما نهرب من الأفاعي والثعابين ونبتعد عنها، علينا كذلك أن نتجنّب ونحذر من اغتياب إخواننا.

 التعامل بحكمة

من الممكن النظرُ إلى المسألة من زاويةٍ أخرى؛ فالعقوبات التي تُطبق في الظروف الاعتيادية في الإسلام لا تُطبق في جبهة القتال، أي إنّ مَن يسرق أو يزني أو يفتري في جبهة القتال لا تُطبّق عليه عقوبات هذه الأفعال، والحكمة من هذا الحيلولة دون لجوء المذنب -وهو يحاول إنقاذ نفسه من العقاب- إلى صفوف الأعداء، لكن ماذا يحدث إن التجأ إلى الجبهة المعادية؟… أما هو فيقع في خسران أبَدي، وأما نحن فنكسب عدوًّا يعرف جميع أسرارنا، وكِلا الأمرَين مرٌّ وخسارة لنا، لذا لا بدّ من ضبط المسألة للضرورة القصوى، فكان من الضروري التعامل مع هؤلاء بمنتهى الحكمة وبأجمل أسلوب.

مثلًا قد يبتعد أحدُ إخواننا عن الخدمة الإيمانية والقرآنية بسبب الخوف أو بسبب الرغبة في منصبٍ ما، فيخرج عن دائرتِنا حَيطةً وحَذَرًا، وحمادى القول له هنا: إننا نتفهّم دواعيه وأنه تصرّف كما يجب، ونعمَ ما فعل، فلا يشغلنّ باله بأنه وقع في الذنب بصنيعه هذا، ويجب علينا أن نجعله يصدّق ما نقول؛ حتى لا نسد المنافذ إزاءه، فقد تتجدّد علاقاتنا معه بعد سنوات، وقد يفهم الحقيقة فيما بعد ويرجع إلينا، فإن اعترف بأنه كان على خطأ وأننا كنا على صواب، عندئذ نتعامل بكلّ مروءة قائلين “أنت محقٌّ الآن أيضًا”.

 إن مَن يغتبْ الآخرين يفقد ثقةَ المستمعين له، والجماعة التي تهتزّ فيها الثقة بين أفرادها لن تستطيع حملَ أمانة الحقّ الثقيلة

 الغيبة مفسدة واسعة

قد يوجد أشخاصٌ تربطهم بمن تتمّ غيبته علاقاتٌ من قبيل القرابة أو المودّة أو الفكر المشترك، فتُثيرُ هذه الغيبة في أنفسهم حساسيةً لا تؤدّي بدورها إلا إلى خسارة في جبهتنا. فقد يؤذينا باغتيابه لنا، ولكن علينا ألا نقابله بالمثل، وأن نحافظ على علاقةِ التوازن فيما بيننا؛ إذ يجب أن نكون بعيدين جدًّا عن الانتقام لكرامتنا، أو التورّط في مسائل شخصية.

 إن أفضل معونةٍ تُقدم لأيّ إنسانٍ هي إنقاذ حياته الدينية، ووظيفتنا نحن هي الإسراع لنجدة إخوتنا وإعانتهم

وعلينا التضحية بكلّ شيء في سبيل دعوتنا السامية، ففي الوقت الذي يُنال فيه من كرامة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وتُزيّف فيه حقائق القضايا الإسلامية؛ لا نستطيع جعل القضايا الخاصة بنا موضوعَ الساعة، بل لا نستطيع إيجاد الوقت حتى لمجرّد التفكير في ذلك. إن أفضل معونةٍ يمكن تقديمُها اليوم لأيّ إنسانٍ هي المعونة المقدّمة لإنقاذ حياته الدينية، ووظيفتنا نحن هي الإسراع لنجدة إخوتنا وإعانتهم.


المصدر: محمد فتح الله كولن، الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي – د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015، ص: 53-55.

ملحوظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.