فاطمة نور باران، تطرق الباب طرقة خفيفة.. تدخل بخطى لا يسمع لها حس، وبصوت خافت كعصفورة تغرد لصغارها تغريدة الصباح تهمس في أذني:

– صباح الخير مريم أبْلا..

– صباح الأنوار يا نور فرسان النور..

أردّ التحية وأنا مازلت أتقلب بين نسائم السكينة والاطمئنان، في آخر محطات نومي.

أرد على فاطمة نور:

– صباح الورد والياسمين.. يا من اقتحمت نظم عالم أفكاري، وحولت مجرى حلمي.

فاطمة نور:

– أستاذة مريم، زياد أبي في انتظاركم.

– ماذا؟ أحقًّا هو بالأسفل؟ كم الساعة؟

فاطمة:

-الساعة الثامنة والنصف أستاذة.

أنهض بسرعة البرق من دفئ فراشي، وأجتاز ساحات ميادين تعانق الأرواح التي احتضنتني بدفئها ليلة كاملة في ليالي برد إسطنبول القارس. كيف لم أفطن للمنبّه وقد برمجتُه لإيقاظي الساعة السابعة؟! في عجالة من أمري، أحاول بسرعة ارتداء ملابسي وأنا أتمم: “آه الحجاب غير مكوي.!”.

فاطمة:

– لا داعي لِكيّه، فهو أنيق وليس فيه من عيوب الطي ما يجعلك تكوينه.

– إذن هو كذلك.. وماذا عن الجو في الخارج؟

فاطمة:

– الجو ليس باردا، كما كان متوقعا في الأرصاد الجوّية لنهار اليوم، لكن احتمال يكون ممطرا.

– لا بأس إذن آخذ المعطاف تحسبا لأي تقلب في الجو.. فالبرنامج مكثف، والعودة قد تكون في وقت متأخر.

وأنا أسرع في لبس حذائي، وأجتاز الممر الموصل للمصعد، أردد:

– فاطمة لا تتأخري عليّ، أنا في البهو، ولا تنسي الكاميرا رجاءا عزيزتي.

كانت أم سداد في استقبالي ببهو باران، وهي تضمني:

– صباح الخير.

– صباح الأنوار والأشواق يا أم سداد، آسفة تأخرنا عليكم قليلا.

أم سداد:

– لا لا أستغفر الله.. لم تتأخروا، خذوا راحتكم..

كانت فاطمة نور، تنظر إلي وهي تودّعني بنظرات حنان غير عادية وكأنها تجمع صباحها بعصرها ومغربها بعشائها، لتخفي في همسات الحضور شوقا لمشاعر ملتهبة عبرت عنها دقات قلبها وهي تودعني، بأنغام أحاسيس حنين، تخرس الألسن عن التعبير بها.

من دون معطف، وبلا إحساس ببرودة قطرات المطر، توصلني نور إلى قلب السيارة، وأنا ألوح لها من وراء زجاج السيارة الشفاف. كنت أرقب صمتها، والنذر الرحمانية تتنزل عليها بالماء والثلج، لإخماد لهيب روحها المتّقد.

أبناء الفتح، يفهمون لغة الأحبة في الله، فلا يقطعون وصالها. كان زياد أبي ينظر إلى نور كطفلة ملائكية تودع أمها المسافرة، ولا يحاول كسر مسافات الاتصال حتى ولو بتحية السلام. بصوت هادئ وواثق من معاني سر لغة الحال، وبعد اتجاه السيارة نحو بداية الشارع الرئيسي لعُمْرانيّة، يبادر زياد بإلقاء التحية:

– السلام عليك يا أستاذة مريم.

أبادله التحية:

– وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

– أهلا أهلا بجمال الصغير، “شُوكْ كُوزَلْ جَمَال”..

بنظرة حيية، يبتسم هذا الملاك الصغير الوديع، وهو يرقب بفضول طفولي، ما أحمله داخل كيس، تبين له من طريقة غلافه أنه هدية، يستفسر عن نوعها.

– مرحبا، هُوشْ كَالْدِينِيز.

أقولها للسائق الأنيق، وأنا أضع الكيس بجانب أم سداد.

السائق:

– هُوش بُولْدُك هَانم أفنْدي.

كان السائق بأناقة هندامه وربطة عنقه، يوحي بأننا على موعد مع لقاء وزير. سبحان الله كل شيء يوحي بالترتيب والأناقة والجمال عند أهل الخدمة.. اللباس، آداب التحية، الابتسامة وحسن الترحيب… الحافلة الراقية المزودة بِسلّة نظافة جنب كل كرسي.. الحذاء الذي ينبغي أن يوضع في مدخل كل الباب، ويمنع الدخول به حتى إلى قلب المؤسسات أو المكاتب… الزجاج الذي يتلألأ بلمعان نظافته من شرفات نوافذ البيوت، والعمارات.. الشوارع النظيفة…

كل هذا يوحي بقيم حضارية أصيلة متجذرة في أعماق روح هذا الشعب التركي. حتى السيارات في شوارع ساعات الازدحام الصباحي الإسطنبولي، تجدها نظيفة ولامعة المظهر. توقفت عن الكلام، متأملة حسن هذه العاصمة الساحرة بمناظرها، بنظامها المروري، بنظافة شوارعها، أتلو صلاة الحمد قبل الرحيل عنها.. بدت في زينتها مثل شجرة الميلاد، طرحة عرسها مساحات خضراء مكسوة بلباس أبيض من ثلج ديسمبر. ألوان فستانها من قوس قزح.

زياد:

– الطريق يكون دوما هكذا مكتظّا في العواصم، خاصة ساعات الذروة.. إن شاء الله نصل في موعدنا المحدد للقاء رئيس قسم الفلسفة بجامعة الفاتح.

عندما اقتربنا من الجسر، كنت أتطلع بشغف إلى تحديد منتهى هذا الكم الهائل من الصفوف الممتدة نحو حدائق ألوان حديدية الأبواب زجاجية النوافذ، وأنا أحاول وضع معطفي على الكرسي المجاور للأستاذ زياد، سائق المركبة النورانية، الذي تربى مع إخوته جمال ومصطفى، على ارتشاف كؤوس الصبر والحلم، وتعود على الانتظار لساعات طويلة، يتنقل بينهم صحبة إخوته في فضاءات تصاميم القدرة الإلهية، ينتظرون قدوم من يحقق أحلامهم ويعيد مجد أجدادهم الأبدال…

لذا فهم يتركون نافذتهم كل يوم مشرعة، حتى يتمكن الأحبة من الدخول إلى غرف تزكيتهم، وعوالم فكرهم، فتمتد خيالاتهم، وتنجذب أرواحهم إلى عالم آخر فوق الزمان والمكان.. عالم شحذ مشاعر المحبة ولف القلوب بوصال العشق الروحاني. بإشارة خفيفة، كان الأستاذ زياد يلوح للسائق يوجهه نحو الباب الرئيسي لمدخل رئاسة الجامعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مريم آيات أحمد، نداء الروح رحلة في عالم الفرسان، الفصل الثاني مشاتل أزهار المعرفة، دار النيل للطباعة والنشر.