في أحد اللقاءات الصحفية سئل الأستاذ فتح الله كولن عما يعنيه مفهوم “الدولة” في الإسلام؟ وما موقع “الدولة” في القرآن؟  وأن كثيرًا من المسلمين المعاصرين يتكلمون عن تأسيس دولة إسلامية مبنية على مبادئ الشريعة. فجاء جواب الأستاذ كولن على النحو التالي:

إن هؤلاء الذين يقومون بدراسات عن منظور الإسلام للدولة والسياسة ويبدون آراءهم في هذا المجال عادة ما يخلطون بين الإسلام الذي قدّمه القرآن والسنة، والإسلام الذي حاول المسلمون أن يعبروا عنه من خلال تجاربهم التاريخية، الذي ينبني على مبادئ شرعية مستنبطة من الأدلة الشرعية، والإسلام الذي يعيشه المسلمون –بشكل أو بآخر-في العصر الحديث. وهم يخرجون في النهاية بقوالب وأشكال متنوعة للدولة كلها باسم الإسلام، وهذا يتم أحيانًا بالاستشهاد ببضع آيات قرآنية، أو بأحاديث قليلة منتقاة من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم أو أحيانًا أخرى باستخدام أفكار أو مقترحات لأحد المفكرين المعاصرين، ويأخذون على عاتقهم نقل أفكارهم إلى ساحة الواقع أو السياسة إذا سنحت لهم الفرصة.

مراعاة دور الاجتهاد والاستنباط  

أنا لا أعني بهذا القول على الإطلاق أن الأحكام الإسلامية متحجرة لا مكان فيها للتفكير والآراء الجديدة؛ بل هناك مجال واسع لما ينبع من الاجتهاد والقياس، وفي هذا المجال لا يمكن غض الطرف عن إرادة الإنسان وجهده في استنباط الأحكام الدينية في إطار الأصول. وفي مثل هذه القضايا فإن أي شخص يقوم بالاجتهاد يلزم به نفسه فقط ولا يلزم الآخرين، وكون هذا الاجتهاد غير ملزم للآخرين هو أحد مبادئ الإسلام؛ فالإسلام لا يسمح لأي شخص أن يقول عن رأيه: “هذا هو الإسلام”، ويَعتبرُ مثل هذه المحاولات محاولات ضالة.

إذا قامت دولة بالسماح لمواطنيها بممارسة دينهم، وساندتهم في تفكيرهم وتعليمهم وممارستهم، فهذا النظام لا يُعتبر مضادًّا لما جاء به القرآن، وفي حالة وجود مثل هذه الدولة لا حاجة للسعي لإيجاد دولة بديلة.

التأكيد على مرجعية القرآن والسنة

والآراء المقدَّمة باسم الدين إذا لم تكن نابعةً من القرآن والسنة فسوف ينتج عنها كمّ هائل من النظم بعدد هذه الآراء، فلا شرعية لها، فأي اقتراح لا يأخذ مرجعيته من الخبرات التاريخية للمسلمين-والتي عليها إجماع أغلبية المسلمين-لا يمكن أن يكون باقيًا ثابتًا، ولا يمكن أن يكون واقعيًّا وأن يرضي الناس إن لم يكن بلبي حاجات الناس مستندًا إلى المصادر الرئيسة للإسلام.

الفهم الإسلامي للدولة

وبهذا فإن مفهوم الدولة سواء أكان مستمدًّا من مصادر الوحي الرئيسة أو من اجتهادات العلماء المبنية على هذه المصادر، فيمكن للمرء أن يسأل: “ما هو الفهم الإسلامي للدولة؟” ونجيب بأن الحكم والسلطان في الإسلام لله عز وجل، والقرآن يؤكد هذه النقطة في آيات عدة ويعلن أن الحكم والأمر لله وحده. ويقول تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ ” (سورة الأحزاب:36)، وبذلك يعلن القرآن أن الحكم ليس لزعماء روحانيين معصومين، كما في بعض الحكومات الدينية، أو لأي مؤسسة دينية، فإن الإسلام يقول: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ” (سورة الحجرات: 13)، وبهذا فهو لا يُعطي أي ميزة بناء على العائلة أو الطبقة أو العرق أو اللون أو الثروة أو السلطة والنفوذ، لكنه بدلاً من ذلك اهتم بالتقوى والجدارة والإخلاص والعدالة. لذلك لا توجد في الإسلام القائم على القرآن والسنة مَلَكية مطلقة أو ديمقراطية كلاسيكية غربية، كما لا توجد ديكتاتورية أو شمولية. فالإدارة في الإسلام تعني عقدًا مشتركًا بين الحاكم والرعية، وتستمد شرعيتها من القانون وسيادته؛ وبهذا فإن القانون يصبح فوق الحاكم والرعية، وهو لله عز وجل، فلا يمكن تغييره أو اغتصابه. وتطبق القانون يتم حسب أوامر الخالق سبحانه، وبالطريقة التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وطبقها. والإسلام لا يعد إدارةً تخالف القانون شرعية؛ وفي الإدارة الإسلامية يجب على من هم في موقع السلطة أن ينقادوا للقانون، مثلهم في ذلك مثل عامة الناس، فليس لهم أن ينتهكوا هذه المبادئ ولا أن يمارسوا شيئًا يخالفها، كما يجب على الرعية أن تعترف بالقانون، وإلا تعتبر باغية.

السلطة التشريعية والمؤسسات التنفيذية من المسموح لها دائمًا أن تقوم بسنّ القوانين، وهذا بناءً على الضروريات والحاجيات والمصالح المرسلة، في إطار الضوابط والمعايير العامة للشريعة الإسلامية.

سن القوانين في ضوء ضوابط الشريعة

وينبغي الإشارة هنا إلى أن كل ما ذكرناه آنفًا لا يعني أن السلطة التشريعية والمؤسسات التنفيذية ليس لها ما تقوم به؛ فالسلطة التشريعية والمؤسسات التنفيذية من المسموح لها دائمًا أن تقوم بسنّ القوانين، وهذا بناءً على الضروريات والحاجيات والمصالح المرسلة، في إطار الضوابط والمعايير العامة للشريعة وفيما يتعلق بالقضايا المحلية في المجتمع الإسلامي وعلاقته بالأمم الأخرى، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، يقوم المسلمون دائمًا بتطوير القوانين في هذه الشؤون؛ فكما يجب على أفراد المجتمع التزام “المبادئ  العليا” للدين، كذلك يجب عليهم التزام القوانين التي سَنّها البشر، فالإسلام لا اعتراض له على القيام بالاجتهاد والاستنباط واستخراج الأحكام في تفسير مبادئ الشريعة.

الإسلام لا يعارض الديمقراطية

مصدر القانون في المجتمع الديمقراطي غير متحيز ولا يميز بين الأفراد، وهو يشجع على إنشاء بيئة مناسبة لتنمية حقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، وحماية حقوق الأقليات، ومشاركة الأفراد والمجتمع في مؤسسات صنع القرار، وهي الصفات التي تميز عالمنا الحديث. وينبغي أن يُسمح لجميع الأفراد بالتعبير عن أنفسهم بشرط عدم ممارسة أي ضغوط على الآخرين بأي وسيلة. وبالإضافة إلى ذلك ينبغي السماح للأفراد المنتمين للأقليات أن يعيشوا حسب معتقداتهم. وإذا تمت هذه التشريعات ضمن معايير القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، فالإسلام لا يعارض أيًّا من هذه التشريعات. ولا يستطيع أحد أن يتجاهل القيم العالمية التي قدمها القرآن والسنة فيما يتعلق بالحقوق المذكورة سابقًا، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال إثبات أن الإسلام عدو للديمقراطية ويعارضها.

الحكم والسلطان في الإسلام لله عز وجل، والقرآن يؤكد هذه النقطة في آيات عدة ويعلن أن الحكم والأمر لله وحده وليس لزعماء روحانيين معصومين، كما في بعض الحكومات الدينية، أو لأي مؤسسة دينية.

لا حاجة إذًا لدولة بديلة

إذا قامت دولة-في الإطار السابق ذكره-بالسماح لمواطنيها بممارسة دينهم، وساندتهم في تفكيرهم وتعليمهم وممارستهم، فهذا النظام لا يُعتبر مضادًّا لما جاء به القرآن، وفي حالة وجود مثل هذه الدولة لا حاجة للسعي لإيجاد دولة بديلة. ويجب مراقبة النظام ومتابعته من قِبَل المشرعين والمؤسسات التنفيذية، فإذا لم تكن هناك حماية كافية لحقوق الإنسان-كما هو الحال في الكثير من الديمقراطيات النامية-فينبغي للمشرعين حينذاك أن يقوموا بإصلاح وتجديد وتنظيم النظام طبقًا للمبادئ العالمية للقانون. وإذا لم يُعتبر هذا التجديد شرعيًّا فإنه لا يُعتبر معارضًا للشريعة.

الشريعة لا تنحصر في الدولة الدينية

من المهم أن نشير إلى أن هناك الكثير من الذين يعتقدون أن “الشريعة” منحصرة في وجود نظام دولة مبني على الأحكام الدينية. وهم يتخذون موقفًا معاديًا للشريعة دون النظر إلى معنى الشريعة ومحتواها، والحال أن كلمة “الشريعة” هي-بطريقة ما-مرادفة لكلمة “الدين”، فإنها تشير إلى حياة دينية مؤسسة على أوامر الله عز وجل، وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وإجماع الأمة الإسلامية؛ والأحكام المرتبطة بإدارة الدولة فيها 5% فقط، وال 95% الباقية تتعلق بالأمور الأخرى مثل أركان الإيمان والإسلام والمبادئ الأخلاقية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: زكي ساري توبراك وآخرون، السلم والتسامح في فكر فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، طـ1، 2014ن، صـ120/ 121/ 122/ 123/ 124.

ملاحظة: عنوان المقال، والعناوين الجانبية من تصرف محرر الموقع.