د/ أرجون جابان

في “لقاء خاص” معه حول حديث أ.د. مصطفى أوزترك في حق القرآن الكريم الذي تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، أدلى أ.د. محمد كورمَز الرئيس السابق للشؤون الدينية بتصريحات في غاية الأهمية، حول تكفير المسلم وتضليله نتيجة كلامه، فقد شدد السيد كورمز على ضرورة محاسبة من يقوم بما سماه “هندسة الاجتزاء”، أي اقتطاع جزء من حديث أحد أو اجتزاء وجهة نظره، ثم الحكم عليه بناء على ذلك، وأضاف بأن هذا أمر غير مقبول. ورغم أنه يخطِّئ ادعاء هذا الشخص الذي يزعم أن القرآن الكريم ليس كلام الله، فإنه يؤكد في الوقت نفسه على ضرورة عدم تكفير هذا الشخص والتعدي عليه، وأنه ينبغي العمل على تقييم أقواله وفق منهج أهل السنة وأهل القبلة.

وانطلاقًا من وجهة النظر هذه سنحاول في هذا المقال أن نختبر مدى تطابق السيد كورمز نفسِه مع ما ينادي به في هذا الطرح، الذي يرى ضرورة تقييم رأي المسلم أو وجهة نظره من خلال مقاييس أهل السنة، وبلا ممارسة أي نوع مما أطلق عليه “هندسة الاجتزاء”، وذلك في التقرير الذي أعده خلال فترة رئاسته للشؤون الدينية في حق الأستاذ فتح الله كولن.

الشؤون الدينية لم تثبت أو تصرح خلال نصف قرن من الزمان عن أي فكرة قولية كانت أو كتابية تخالف روح الإسلام في منشورات الأستاذ المحترم فتح الله كولن.

محاسبة من يمارس “هندسة الاجتزاء”

بداية نود أن ننقل عبارات السيد كورمز كما وردت بشأن “اجتزاء” عبارات من حوار شخص ما والحكم عليه بناء على ذلك، حتى نفهم المسألة جيدًا. بدأ كورمز كلامه قائلاً: “يجب التساؤل عن طريقة طرح هذا الأمر على الساحة، لقد اقتُطع جزء من حوارٍ نُشر قبل عام، ثم قُدّم هذا الجزء بعد عام ونصف إلى الحياة الاجتماعية، أي اقتُطعت عبارة محددة من سياقها وعرضت على الناس، ومن ثم يجب محاسبة من يقومون بـ”هندسة الطرح على الساحة” و”هندسة الاجتزاء” فيما يمس الحساسية الدينية للمسلمين.”[1]؛ “لأن هذه ليست مشكلة السيد مصطفى أوزترك فحسب، وإنما هي مسألة نالت من الجميع خلال العام الأخير؛ حيث تُجتزأ عبارات من حوارات أي إنسان يتحدث عن الدين، وتُقدّم بشكل انتقائي، بحيث تؤدي إلى مزيد من الانشقاقات في هذا المجتمع، وتعكر صفو وحدة هذه الدولة وترابطها، وتمزِّق أواصر الأخوة التي تربطنا معًا، لا أجد تفسيرًا غير هذا، أي لماذا تجتزأ هذه العبارات، ويتم انتقاؤها بالذات؟”[2]

ثم ختم حديثه بقوله: “أؤكد مرة أخرى، أنه ليس من الصواب تقديم هذا القسم الذي وقع الاختيار عليه -والذي لا أؤيده- أي الذي تم اجتزاؤه من سياقه وتقديمه إلى المجتمع، ولا يصح في الوقت نفسه ما أعقبه من حملة شعواء.” [3]

وهنا نتساءل هل راعى السيد كورمز نفسُه هذا الرأي في التقرير الذي أعده في فترة رئاسته للشؤون الدينية في حق الأستاذ فتح الله كولن؟ وهل كان دقيقًا ومتطابقًا مع وجهة نظره تلك حينما عنونه بـ”منظمة كولن الإرهابية” منظمة تستغل الدين لمصالحها الشخصية؟

سنحاول معًا من خلال التحليل المنهجي والأخلاقي عرض مدى مراعاة السيد كورمز لهذا الإطار العام الذي خطه حول منهج تقييم أي حوار أو مقال ما، من خلال هذا التقرير.

عبر كورمز خلال العديد من المؤتمرات بصفته رئيسًا للشؤون الدينية عن تقديره وإشادته بالأستاذ كولن وحركة الخدمة على مرأى ومسمع جمع غفير من علماء العالم الإسلامي.

في مقدمة هذا التقرير في حق الأستاذ فتح الله كولن يلفت السيد كورمز النظر إلى أنه قد أُعدّ بعد مطالعة 80 كتابًا مطبوعًا باللغة التركية للأستاذ كولن، وبعد الاستماع إلى أحاديث صوتية ومرئية بلغت 40 ألف دقيقة (670 ساعة تقريبًا)، ثم يُصدر بعد ذلك حكمه في هذا الشأن على النحو الآتي: “إن المعطيات التي نتجت عن عملية الفحص بواسطة المجلس الأعلى للشؤون الدينية قد قُيمت في ضوء المصادر الأساسية للعلوم الإسلامية، وفي نهاية هذه التقييمات تم التوصل إلى أن هناك كمًّا هائلاً من الأخطاء والانحرافات التي لا تتفق -البتة- مع جوهر الشريعة الإسلامية في العقيدة والعبادات والأخلاق”[4].

وفيما يلي تقييم لبعض الأحكام التي أطلقها على الأستاذ كولن بناء على هذه المنهجية التي يدعو إليها. فقد اقتبس التقرير المعدّ عن حركة الخدمة من موعظة لكولن في جامع “حصار” في 26/11/1989 العبارات التالية: “إن المؤمن منذ اللحظة الأولى التي تطأ قدماه فيها مسجده تعتريه مهابة وتنتابه خشية. إن هذا المجلس (مجلس الوعظ) لهو مجلس قد أصبح على كرسيه من ينظر ويرى ويسمع ويراقب كل أفعالنا؛ إنه الله تعالى. وإذا كان هناك من يتحرك بين صفوفكم، وقد أخذ الإذن من الأعلى، ويتواجد في كل اجتماع يخصه، يتواجد فيه ليشرفه بحضرته، فإنه سلطان قلوبنا وسيد الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ضوء هذه الملاحظة، ماذا يمكن أن أقول؟ وبأي لسان أعظكم أو أدعوكم؟ أنا فقط إلى تقدير ما تشعرون به في المسجد أمام هذا المشهد. وأعتقد أن قلوبكم تستطيع أن تقدر هذا أكثر بكثير من مفهومي وإدراكي. لذلك سواء دخل الإمام، أو رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، فإننا هنا في معية الله جل جلاله، اللهِ الذي ينظر إلى قلوبنا سبعين مرة في الثانية، وفي حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي ينظر إلى عينه تعالى ويشاهد جماله وتمام كماله. لأن الجماعة جماعته، ولأنه هو السلطان، ومن بيده أمر كل شيء”.[5]

تناولت العديد من الرسائل العلمية، ما بين ماجستير ودكتوراه، الأستاذ فتح الله كولن من جوانب متعددة، سواء أكانت فكرية أو حركية أو اعتقادية.

وبعد أن أورد ذلك الاقتباس المجتزأ من خطبة كولن، بدأ يلقي الادعاءات التالية:

  • “إن ادعاء كولن في حديثه أن الله تعالى على كرسي الوعظ، فيه إسناد المكان إلى الذات الإلهية، والله تعالى “منزَّهٌ عن المكان” ولذلك فإن استخدام ألفاظٍ تنسب إليه المكان أمر مخالف قطعًا للتشريع الإسلامي. لقد استخدم هذه الألفاظ التي تمثل خطرًا على العقيدة وتهدد إيمان الناس بصورة حماسية لإثارة الناس وإلهاب مشاعرهم؛ فقد أجلَسَ الله –حاشا- على كرسي الوعظ في المسجد.”
  • “لقد أسند لله تعالى العين، وادعى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عينه سبحانه، وهذا أسلوب يصور الله تعالى بأنه “مجسَّم” حيث يعتقد أن له هيئة جسمانية أو ينسب إليه خصائص جسمانية، ويُشبه الله بمخلوقاته”. كما تم الادعاء في بقية التقرير أن فتح الله كولن يستغل -دون مبالاة- عبارات الفِرق الضالة من أجل النفوذ إلى الجماعة، وأن علمه ناقص في هذا الشأن، أو أنه يعاني من نقصٍ في الحساسية الدينية؛ إذ يستثمر القيم المقدسة بما فيها الأسس الإيمانية[6].

وهنا سوف نقيِّم معًا “هندسة الاجتزاء” التي مارسها معدو الاقتباس؛ فالسيد كورمز الذي يرى أنه ليس من الصواب “اجتزاء قسم وقع الاختيار عليه من سياق ما وبناء حكم عليه” كان يتوجب عليه تقييم هذا الاقتباس ضمن سياق الحوار بأكمله والموضوع الذي ذُكر فيه.

فما سياق هذا الاجتزاء؟ وما مجمل الوعظ الذي اجتزئ منه هذا المقطع وتمت هندسته ليتوصل من خلاله إلى هذه الادعاءات؟ دعونا نلقي نظرة سريعة على ما يسبق هذا الجزء المقتطع لتشكيل رؤية أفضل للموضوع كله. يقول كولن قبل هذا الجزء: “لقد بُنيت هذه المساجد بما فيها أول مسجد على وجه الأرض لله تعالى، بُنيت جميعها من أجل تعظيمه جل جلاله.”[7]. وجريًا على عادة الخطباء في الأسلوب الخطابي أكّد على ضرورة استشعار المصلين الذين يأتون إلى المسجد بمعية الله لهم، فاستخدم هذا التعبير استخدامًا مجازيًّا، ليستشعروا هذه المعية، ويتوجهوا إلى عبادة الله وهم يشعرون برؤيته لهم ومراقبته إياهم، حتى يتغلغل هذا الشعور في رواد المساجد، وهذا المعنى يتطابق مع أداء العبادة لله تعالى بشعور الإحسان الذي نص عليه “حديث جبريل” المشهور، إذ هو هدف رئيسي يشير إليه الدين الإسلامي. فالدين يقوم في هذا الحديث على ثلاثة أركان هي الإيمان، والإسلام والإحسان، وقد عرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: “أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ[8]. فديننا يرشدنا إلى أهمية مراعاة حال السامعين وخاصة في وعظ الجموع وإرشادهم، حيث يحرص المتحدث على استعمال أكثر الأساليب إقناعًا وتأثيرًا، شريطة أن يتناسب هذا مع المعايير الدينية. والأسلوب الخطابي الذي يهدف إلى الإقناع والتأثير يعتمد على بلاغة المجاز، ومنه الاستعارة والكناية التي تشتمل على القضية وفي طيها برهانها. وإذا كان المجاز سمة تتسم بها كثير من اللغات، فإن القرآن الكريم والسنة النبوية اللذان يضيئان العالم الإيماني والتعبدي والحركي للمسلم، قد اعتمدا بشكل كبير على إيضاح الحقائق وتقريرها عبر الصور المجازية والتعبيرات البيانية. ومن ثم فمن الطبيعي جدًّا أن نقيّم هذه السمة اللغوية في عرض كولن للموضوعات العقلية المجردة بأسلوب أكثر حيوية وتأثيرًا في إطار الأسلوب الخطابي الذي يتبعه باعتباره واعظًا وخطيبًا.

 بلغ ما نوقش من رسائل علمية عن الأستاذ فتح الله كولن حتى الآن أكثر من عشرين رسالة في جامعات معتبرة في أنحاء العالم الإسلامي.

فمن الأمثلة على تلك الصور المجازية في النظم القرآني نجد حديث القرآن عن حماية سيدنا موسى عليه السلام من ظلم فرعون، واشتماله بخالص لطفه وعنايته، حيث يقول الحق جل وعلا: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طَهَ: 39) فقد وظفت الآية الكريمة أحد الأساليب المجازية وهو الاستعارة التمثيلية للتعبير عن الحفظ والصون، لأن المصون يكون نصب العين، وتشتمله الرعاية والإحسان[9]. وقد أكد المفسرون على أن قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ تعبير مجازي، يعني “الإحاطة بالعلم والحفظ والصون”، يعبر فيها النظم القرآني عن الاهتمام والحفظ والرعاية الخاصة التي حظي بها سيدنا موسى عليه السلام[10].

والحال أن قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طَهَ: 39)، وقوله: ﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ (الطُّورِ: 48)، وقوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ (القَمَرِ: 14) لم يتناولها المفسرون جميعهم على معناها الظاهري، وإنما أقروا بمعناها المجازي وهو “العلم، والصون، والرعاية والحماية”[11].

كذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الْحَدِيدِ: 4) ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التَّوْبِةِ: 40) لا يعني الوجود المادي، وإنما هو أسلوب تمثيلي يفيد أن الخالق العظيم عالم بحال هؤلاء الناس أينما كانوا، وأن علمه ذلك محيط بكل شيء، وأنه لا أحد يخرج عن دائرة علمه ومقتضى حكمه[12].

والسؤال الآن: ما النتيجة التي سيُتوصل إليها إذا طُبِّق المنهج المتبع في التقرير على هذه التعبيرات المجازية في الآيات الكريمة؟! فلو طبقناه على المثال الأول لكانت النتيجة: “أن الله تعالى –حاشا- قد شُبه بإنسان يعيش في قصر فرعون، وقد أُسند إليه المكان”، ثم يعقب على ذلك بذكر الآيات والأحاديث التي تنزه الله جل جلاله عن الشبه وعن المكان، وتُقيَّم المسألة في النهاية على أنها “محض ضلال من ناحية الاعتقاد”.

وقد ورد في الأحاديث النبوية الشريفة أيضًا عبارات مجازية عن رؤية الله ومراقبته. على سبيل المثال يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “يا غُلامُ، احفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْه تُجاهَكَ[13].

هذا الحديث من أبلغ الأمثلة المجازية وأوجزها، فالله تعالى منزه عن الزمان والمكان ومقدس عن الاتجاه والجهات، ومن ثم يفيد هذا الأسلوب المجازي هذا المعنى: احفظ أمر الله واتقه، واحفظ حدود الله وأوامره التي أوجبها عليك، فلا تُضيع منها شيئًا، فإذا فعلت ذلك حفظك الله في نفسك ودينك ودنياك، فتجده معَك بالحفظ والإحاطة والتأييد حيثما كنت[14].

وإذا ما طبِّق المنهج المتبع في التقرير على الحديث المذكور توجب قول ذلك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصور المولى تعالى –حاشا- على أنه إنسان عاجز لا يقدر على حماية نفسه، ويطلب من عبد الله بن عباس أن يحميه. ثم تُستعرض بعد ذلك الآيات الدالة على أن الله تعالى قادر على كل شيء، وأنه إذا أراد شيئًا يقول له “كن” فيكون، ويُقرّ في النهاية بأن التعبير المستخدم في الحديث الشريف هو محض ضلال من ناحية الاعتقاد. وبعد ذلك سيضطرون إلى ادعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم –حاشا- يدس في وجدان الناس من خلال أحاديثه الأفكار التي يجب عدم التفكير فيها في شأن الله تعالى.

يتناول كولن مسائل العقيدة بما يتفق مع عقيدة أهل السنة، ويعرض مسائلها بأسلوب جديد يخاطب قلب الإنسان وروحه وعقله ووجدانه بالأدلة العقلية والعلمية، بشكل يلبي احتياجات العصر.

فهم المجاز والمتشابه على ظاهره، وتفسيره وفقًا لذلك سبب في الضلال والانحراف.

إن علماء الكلام الذين يقرُّون أسس العقيدة الإسلامية، قد لفتوا الأنظار إلى أنهم مصطفون لكي يساعدوا الناس على فهم الحقائق السامية للنصوص المجازية في الكتاب والسنة فهمًا صحيحًا، وأكدوا على أن الأخذ بظاهر اللفظ هو أحد أسباب الزيغ والضلال[15].

الشؤون الدينية تؤكد في مؤلفاتها على أهمية التعبير المجازي وأنه ميزة أسلوبية

لقد أكَّد السيد كورمز نفسه في كتاب “الإسلام من خلال الأحاديث” (Hadislerle İslam) -الذي أعدته هيئة علمية ترأسها بنفسه في فترة رئاسته للشؤون الدينية- ضرورة معرفة بعض الأساليب اللغوية من أجل فهم الأحاديث فهمًا صحيحًا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخدم الأسلوب المجازي في بعض أحاديثه. ننقل لكم وجهة نظرهم كما عبروا عنها بالضبط: “فالرسول صلى الله عليه وسلم عند دعوته الناس إلى الإسلام وظَّف جميع أساليب الخطاب في اللغة العربية، فاستخدم التعبير الصريح والأساليب المباشرة لينقل إليهم الحقائق الأساسية للإسلام، كما استخدم أيضًا التشبيه والأساليب المجازية من استعارة ومجاز وكناية، محاولاً تقريب هذه الحقائق وترسيخها في الأذهان عن طريق التصوير الحي، وأحيانًا يوظف أدوات التصوير بالقصص والحكايات التمثيلية كما هو الحال في كل لغة وعُرف. والحقيقة أن جميع اللغات تستخدم هذه الصور البيانية لتوضيح المفاهيم المجردة وتقريبها إلى الأذهان من خلال الصور المألوفة إلى الحس، فالتجسيد والتشخيص من بلاغة الأساليب الاستعارية التي تعمل على تقريب المعاني وترسيخها في النفوس من أجل تقوية المعنى، ولديها خصوصية تعبيرية عالية في نقل المشاعر والأفكار المجردة. وقد استخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب خاصة في مواطن التعبير عن الحقائق المجردة التي تقع خارج دائرة تصورنا[16].

هل راعى السيد كورمز نفسُه هذا الرأي في التقرير الذي أعده في فترة رئاسته للشؤون الدينية في حق الأستاذ فتح الله كولن؟ وهل كان دقيقًا ومتطابقًا مع وجهة نظره تلك حينما عنونه بـ”منظمة كولن الإرهابية” منظمة تستغل الدين لمصالحها الشخصية؟

والواقع أنهم قد قيموا الأحاديث التي تناولوها بهذه النظرة، ومن الأمثلة على ذلك: يقول الله تعالى: “مَن عادى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ …”[17]. فهذا الحديث يُبيِّن إلى أي بُعد يمكن أن يصل الإنسان المؤمن الذي يقوي صلته بربه، وإلى أي الدرجات يمكنه أن يرتقي. فكأن الحجب التي بين العبد وربه تزول في هذه المرتبة. إن العبد الذي يلتفت الله تعالى إليه بالمحبة ويتخذه وليًّا له، يبدأ النظر بفضل رابطة المحبة هذه إلى جميع الأشياء والكائنات بتوجيه إلهي، فقوله تعالى: “فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها” أسلوب تمثيلي يُعبر فيه عن مدى كرم المولى تعالى بقربه من عبده الذي حظي بحبه[18]. فعند النظر في العبارة التي فوق الخط نجد أنهم لم يقيِّموا الحديث من ظاهر اللفظ ولا المعنى، بل إنهم فسروه اتفاقًا على أنه تعبير مجازي.

إلى جانب أن الموسوعة الإسلامية للشؤون الدينية تؤكد في مادتي “مجسمة” و”مشبهة” أن فهم التعابير المجازية والمتشابهة وتفسيرها في الكتاب والسنة تفسيرًا لا يفرق بين الحقيقة والمجاز ويعتمد على ظاهر اللفظ هو سبب للوقوع في الضلالة والانحراف.

كولن مفكر إسلامي، ومصلح، وداعية مجدد في مجال العقيدة والأخلاق، سنيّ العقيدة، ماتريدي المذهب، يعتمد في منهجه في الاستدلال على العقائد أدلة النقل والعقل والعلم، إضافة إلى العرفان.

والحاصل أن هناك كثيرًا من التعابير المجازية في الكتاب والسنة، وأن جُل العلماء بما فيهم الشؤون الدينية نفسها يقرون بها حتى في مؤلفاتهم، وبما أن استخدامها هو نوع من البلاغة والثراء اللغوي، فإن محاولة حمل التعبيرات التي من هذا القبيل لدى كولن على معناها الحقيقي الظاهري، والسعي إلى تضليله، ما هو إلا منهج تشويهي يكيل بمكيالين، ويحمل الكثير من الوبال من خلال هندسة اقتطاع النصوص من سياقها.

منهج كولن في موضوع التجسيم والتشبيه

لا يختلف منهج كولن في موضوع التجسيم والتشبيه عن منهج أهل السنة وعقيدتهم، وقد عبر بكل صراحة ووضوح عن أن نسبة الأعضاء كاليد والقدم والعين بمعناها الحقيقي إلى الله تعالى هو محض ضلال، حيث قال: “إن بعض الفرق التي خشيت أن تقع في مغبة إنكار هذه الصفات، قد تصوروا الذات الإلهية –حاشا- في صورة المخلوق، فنسبوا إليه اليد والقدم والعين والأذن والنزول والعروج والجري والاقتراب والفرح والضحك إلى آخره كالإنسان تمامًا…وانساقوا بذلك إلى الضلال والانحراف الفكري.”[19]

إن من يدّعون أنهم أعدوا هذا التقرير بعد ما اطلعوا على جميع مؤلفات كولن، كان من الواجب عليهم أن يروا أن منهجه يتفق تمامًا في مسألة التشبيه والتجسيم مع منهج علماء أهل السنة. ولكن للأسف لم يتورعوا عن ادعاء نقيض ذلك، ووصفوه بـ “التجسيم” و”التشبيه”. وإن فعلهم هذا لا يمكن وصفه بالمنهج العلمي ولا بالنية الحسنة.

لقد عبر كولن بشكل واضح وصريح في جميع مؤلفاته، أن الله تعالى منزّه عن الزمان والمكان. يقول على سبيل المثال: “إن الله تعالى مبرأ ومنزه عن الزمان والمكان والحيز. فمن قدَّر له مكانًا وقع في التشبيه والتجسيم، وشبهه جل جلاله بالمخلوقات”[20]. ويقول في موضع آخر: “إنه ليس بمخلوق ولا حادث ألبتة. فكل جوهر وعرض وصفات من الله تعالى، وقائمة ودائمة بقيوميته. غير أن وجود الأشياء منه، وقيامها ودوامها به لا يعني نسبة “الحال” و”المحل” إليه جل جلاله”[21].

وفي هذا الصدد أيضًا يذكر كولن في مواضع كثيرة من مؤلفاته عبارات نثرية للأستاذ “إبراهيم تنوري”، تفيد بأن الله تعالى منزه عن التشبيه والتجسيم والزمان والمكان، معربًا عن أن هذه عقيدته في هذا الصدد ومن ذلك:

“ليس هناك ضد ولا ندّ ولا مثل للرب في الوجود،

هو تعالى منزه ومقدس عن الصورة.

لا شريك له، منزه، لم يلد، ولم يولد،

هو أحد، لا كفو له، مذكور هكذا في “الإخلاص”.

لا جسم ولا عرض، لا متحيز ولا جوهر.

لا يأكل ولا يشرب، ولا يجري عليه زمان، منزهٌ على الجملة.

منزه عن التبدل والتغير، وكذا الأشكال والألوان،

مقدس ومبرأ من الصفات السلبية.

لا في السماء ولا في الأرض، ولا يمين ولا يسار، ولا أمام ولا خلف،

منزه عن الجهات ليس له مكان.”[22]

يتضح مما سبق أن الشؤون الدينية تجاهلت في تقريرها ما عبَّر عنه كولن في كثير من المواضع عن تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التشبيه والتجسيم والزمان والمكان، وإن ما قامت به لهو هندسة الاقتطاع بعينها (التي شكا منها السيد كورمز فيما بعد).

 أحمد علي ربيع: نُشهد الله أننا قد قرأنا فكره، وتعاملنا مع منهجه، ودرسنا أحواله وأحوال إخوانه وتلامذته ممن يعملون معه في نفس المشروع، فما وجدنا منهم إلا كل خير، ولم يظهر فيهم أي خروج عن المنهج الوسطي السليم.

في الحقيقة قلما تجد من يراعي الحساسية الشديدة بقدر الأستاذ فتح الله كولن في مسألة تعظيم الذات الإلهية وتنزيهها من كل أنواع التشبيه والتجسيم، فرغم حساسيته ورعايته التامة لهذه المسألة فقد زعم معدو التقرير خلاف ذلك، ورموه بالادعاءات والافتراءات الباطلة.

شهادات العلماء والرسائل الأكاديمية

لقد شهد عديد من علماء الإسلام من ذوي الاعتبار والشأن، بعدما اطلعوا على أدبيات الأستاذ كولن وتحاوروا معه ومع تلامذته، أن الأستاذ فتح الله كولن يملك فهمًا صحيحًا ومستقيمًا للإيمان والعمل والخدمة الإيمانية، يتفق مع مبادئ أهل السنة. كما أُعدت أكثر من دراسة علمية أكاديمية حول آراء الأستاذ كولن الكلامية ومنهجه العقدي في أكثر من جامعة عالمية؛ بمصر، والأردن والسعودية. وقد خلصت هذه الدراسات إلى أن الأستاذ فتح الله كولن، الداعية المعروف عالميا يسير على المنهج والاعتقاد الإسلامي الصحيح، وأن له رؤية تطبيقية عملية متميزة لهذا المنهج الصحيح، تتمثل في جهود حركة الخدمة التي تستلهم أفكارها منه. وسنبدأ أولا هنا بإيراد بعض شهادات هؤلاء العلماء في حق الأستاذ كولن ثم سنورد بعض الملخصات لهذه الدراسات العلمية التي تؤكد صحة منهج الأستاذ كولن الاعتقادي وموافقته لمبادئ أهل السنة والجماعة.

أولا: شهادات العلماء

  • شهادة المرحوم الأستاذ الدكتور سعيد رمضان البوطي

“لقد التقيت بالأستاذ فتح الله مرة واحدة، وفي هذا اللقاء ظهرت لي جوانب متميزة ونادرة في شخصيته: أولاً تواضعه الجمّ، والتواضع شأن العلماء. فالإنسان كلما ازداد علمًا ازداد تواضعًا كالشجرة التي كلما ازداد حملها ازدادت أغصانها دنوًّا على الأرض، فرأيت هذا في شخصه. الأستاذ فتح الله لا يستأنس إلا بالإسلام وعلومه. أنا أقول له: أُهنّئك على هذا الذي أقامك الله عز وجل فيه، بل أهنئك على عظيم محبة الله عز وجل لك، ولولا هذه المحبة لما سيّرك في هذا الطريق، ولولا محبة الله سبحانه وتعالى لك، لما جعل جهودك مثمرة ترى آثارها في حياتك.. وأسأل الله عز وجل لك مزيدًا من التوفيق، وأسأل الله عز وجل لك العافية التامة حتى تزداد سيرًا في هذا الطريق الذي يُنعشك ويُطربك، والذي هو مظهر من مظاهر محبة الله عز وجل لك.” [23]

إن علماء الكلام الذين يقرُّون أسس العقيدة الإسلامية، قد لفتوا الأنظار وأكدوا على أن الأخذ بظاهر اللفظ هو أحد أسباب الزيغ والضلال.

  • شهادة د. أحمد نوري النعيمي أستاذ متمرس في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد.

معلوم أن العلماء ورثة الابياء لذلك وجدنا فتح الله كولن يأخذ هذا الارث و يخلص في تبليغه و ذلك فضل من الله و اذا كانت مناهج الناس في حياتنا الويم اما دنيوة بشربة محضة فسيري عليها ما هو معلوم من ضعف وتقصير في صفات عموم البشر او هي دنية او هي دنية تحاول مجاراة الحياة وفق رؤى واجتهادات واضعيها فان فتح الله كولن جمع بين المنهجين و قدم مشروعا جديدا يستحق أن ينسب الي ارث النبوة.

(د. أحمد نوري النعيمي، تركيا الي أين، دار أمجد الأردن، 2020، الجزء الاول، ص.373)

  • شهادة المرحوم الأستاذ الدكتور محمد عمارة

“لأن العقل -في حضارتنا الإسلامية-هو نور أودعه الله في القلب… ولأن العلامة الأستاذ فتح الله كولن هو ثمرة طيبة من ثمرات هذه الحضارة، فلقد جمع بين حكمة العقل وبصيرة القلب… ولأن القرآن الكريم هو الذي صاغ منهاجه في الفكر والحياة، فلقد صار كلمة طيبة، أصلها ثابت، وفروعها ممتدة، تؤتي أكلها كل حين بإذن الله… ولأن الوحي القرآني قد قرن دائمًا بين الإيمان والعمل، فإن كلمات هذا العالم الربّاني قد تجسّدت -به وبإخوانه الكرام- أبنية شاهقة، وحياة خصبة، تزدهر بها كثير من بقاع هذا الكوكب الذي نعيش فيه.. “[24].

  • شهادة العلامة الأستاذ الدكتور على جمعة، مفتي الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء.

الأستاذ كولن مثال صالح للعمل الصحيح مع الأمل الفسيح، الأستاذ كولن جعل القلب فوق العقل وجعل العقل فوق السلوك وهذا الترتيب الطبيعي للإنسان، وقد اهتم بمدخل تربية الإنسان وهذا هو المنهج النبوي الصحيح الذي به انتشر الإسلام، فأصبح الإنسان داعيًا للسلام، داعيًا للخير، معمرًا للكون، عابدًا لله، معمرًا للكون.

وفي تعقيبه على تقرير رئاسة الشؤون الدينية قال:

“لقد جمع رئيس الشؤون الدينية التركي الناس وخدعهم، وانخدع الناس، وأنا أقول لهم: اقرؤوا كتب الأستاذ فتح الله كولن مرة أخرى، أين هذه الاتهامات الباطلة التي تتحدثون عنها؟ جميعها أوهام.” “إن هذا (التقرير) يعمل على تشويش أذهان الناس وتضليلهم والكذب عليهم”، “لقد نظرت إلى قرار المشورة التي قاموا بها، وجدتهم كما يقول المثل العربي: “رمتْني بدائها وانسلت”، إذ يبين لنا هذا المثل مدى بعدهم عن الحق، فليحفظنا الله من الوقوع في مثل هذا الموقف.”[25]

اقرؤوا كتب الأستاذ فتح الله كولن مرة أخرى، أين هذه الاتهامات الباطلة التي تتحدثون عنها؟ جميعها أوهام.”

  • شهادة الأستاذ الدكتور أحمد حسين عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة بالأزهر الشريف في تعقيبه على مناقشة رسالة دكتوراه عن الأستاذ كولن في كلية الدعوة

“الأستاذ كولن شخصية عالمية ربانية، شخصية متدينة، ونحن بحاجة إلى مثل هذه الشخصيات لنلقي عليها مزيدًا من الأضواء والدراسات والرسائل لنستفيد منها بشكل حقيقي. الأستاذ كولن غاص في أعماق الفكرة الإسلامية والرسالة الإسلامية، وحوّل رسالة الإسلام التي ينظر إليها كثير من الناس على أنها مجموعة من الشعائر الإسلامية إلى خلق وسلوك وإلى تطبيق واقعي ومنهج حياة وإلى رسالة أمن وسلام.

  • شهادة الأستاذ الدكتور خليل النحوي العالم والأديب والمفكر الموريتاني

“أعتقد أن الأستاذ محمد فتح الله كولن، حقق الله به جانبًا عظيمًا من هذا الوعد النبوي الصادق بأن يبعث الله لهذه الأمة وأن يجدد لها دينها على رأس كل مئة عام، ولعل المقصود هو من حين لآخر من فترة إلى أخرى، أن يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها. والأستاذ محمد فتح الله كولن، قدّم درسًا عظيمًا في وراثة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

شدد السيد كورمز على ضرورة محاسبة من يقوم بما سماه “هندسة الاجتزاء”، أي اقتطاع جزء من حديث أحد أو اجتزاء وجهة نظره، ثم الحكم عليه بناء على ذلك، وأضاف بأن هذا أمر غير مقبول.

  • تعقيب الأستاذ الدكتور فتحي حجازي (أحد علماء الأزهر الشريف بمصر) على التقرير الذي أعدته الشؤون الدينية في حق كولن

“إن ما يتعرض له الأستاذ فتح الله كولن من تشويهٍ وإظهارِ أن حركة الخدمة من الفرق الضالة، أثبت لنا أن الأستاذ فتح الله كولن يسير في درب الأنبياء، لأن من صفات الأنبياء الإيذاء في سبيل الدعوة. وإن ما قالته إدارة الشؤون الدينية من أن الخدمة من الفرق الضالة لا أصل له ولا دليل عليه”.[26]

  • تعقيب الأستاذ الدكتور أحمد علي ربيع (أحد علماء الأزهر الشريف بمصر) على تقرير الشؤون الدينية في حق كولن

“إن مشروع الخدمة قام على الكتاب والسنة من أول نشأته، ومن أول أن فكر فيه الأستاذ، فقد التزم الكتاب والسنة وجعلهما منهجًا ودليلًا له لا يحيد عنهما بأي حال من الأحوال، كما أنه التزم الوسطية التي نادى بها الإسلام” “ونُشهد الله أننا قد قرأنا فكره، وتعاملنا مع منهجه، ودرسنا أحواله وأحوال إخوانه وتلامذته ممن يعملون معه في نفس المشروع، فما وجدنا منهم إلا كل خير، ولم يظهر فيهم أي خروج عن المنهج الوسطي السليم”.

  • تعقيب الأستاذ الدكتور عبد المجيد بوشبكة أحد علماء المغرب (جامعة شعيب الدكالي –المغرب) على التقرير

“إن من ينتقدون الخدمة لا بد وأنهم لم يقرؤوا كتب الأستاذ فتح الله، ولم يعرفوه”[27]. مشيرًا بذلك إلى أن من أعدوا التقرير لم يطلعوا حقا على كتب الأستاذ كولن أو أنهم قد تجاهلوا الحقيقة بعد ما اطلعوا عليها.

 تجاهلت الشؤون الدينية في تقريرها ما عبَّر عنه كولن في كثير من المواضع عن تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التشبيه والتجسيم والزمان والمكان، وإن ما قامت به لهو هندسة الاقتطاع بعينها (التي شكا منها السيد كورمز فيما بعد).

ثانيا: الرسائل العلمية

لقد تناولت العديد من الرسائل العلمية، ما بين ماجستير ودكتوراه، الأستاذ فتح الله كولن من جوانب متعددة، سواء أكانت فكرية أو حركية أو اعتقادية في جامعات معتبرة في أنحاء العالم الإسلامي، وقد بلغ ما نوقش من هذه الرسائل حتى الآن أكثر من عشرين رسالة.[28] بل إن الجانب الاعتقادي من فكره خاصة قد حظي بثلاث رسائل علمية على مستوى الدكتوراه، في ثلاث جامعات من أكبر الجامعات على مستوى العالم العربي في كل من مصر والأردن والسعودية، وسوف يقتصر حديثنا على تناول هذه الرسائل الثلاث بإيجاز

الرسالة الأولى: محمد فتح الله كولن وجهوده في العقيدة والأخلاق “دراسة تحليلية

(رسالة دكتوراه) للباحثة أمل عبد الله محمد النعيمات، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، كلية الدراسات العليا، قسم العقيدة والفلسفة الإسلامية، الأردن، 2014م.

تناولت أمل النعيمات في رسالتها للدكتوراه آراء فتح الله كولن في العقيدة والأخلاق الإسلامية مقارنة إياها بآراء العلماء المسلمين. وخلصت الدراسة إلى نتائج مهمة من أبرزها: أن كولن مفكر إسلامي، ومصلح، وداعية مجدد في مجال العقيدة والأخلاق، سنيّ العقيدة، ماتريدي المذهب، يعتمد في منهجه في الاستدلال على العقائد أدلة النقل والعقل والعلم، إضافة إلى العرفان، ويرى أنه لا تعارض مطلقًا بين النقل الصحيح ،والعقل السليم، وحقائق العلم الثابتة، وهو لا يعرض القضايا العقدية عرضًا أكاديميًا على طريقة المتكلمين، وإنما يعرضها بأسلوب سهل التناول، لينتفع بها الجميع، دون تعقيد، ويميل إلى الاتجاه الصوفي السنيّ المعتدل، ويرى الاستدلال بحديث الآحاد ما دام لا يتعارض مع القرآن والسنة الصحيحة، وفي باب الأخلاق يجعل المصدر الأول القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويربط بين الأخلاق والدين برباط وثيق، ويتخذ من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل الذي يجب أن يُحتذى به في أخلاقه وسلوكه، ويعمل دائمًا على إقامة مجتمع فاضل يسوده الحق والعدل والخير والتكافل والتعاون وينأى عن الشرور والرذائل.

إن من يدّعون أنهم أعدوا هذا التقرير بعد ما اطلعوا على جميع مؤلفات كولن، كان من الواجب عليهم أن يروا أن منهجه يتفق تمامًا في مسألة التشبيه والتجسيم مع منهج علماء أهل السنة.

الرسالة الثانية: فتح الله كولن وآراؤه الكلامية والفلسفية

(رسالة دكتوراه) للباحثة نوسة السيد محمود السعيد، جامعة الأزهر، كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات، قسم العقيدة والفلسفة، المنصورة، مصر، 2018م.

تناولت نوسة في هذه الدراسة آراء الأستاذ كولن المتعلقة بالإلهيات والنبوات والغيبيات وقارنتها بآراء علماء الكلام، وتوصلت إلى هذه النتيجة: يتناول كولن مسائل العقيدة بما يتفق مع عقيدة أهل السنة، ويعرض المسائل بأسلوب جديد يخاطب قلب الإنسان وروحه وعقله ووجدانه بالأدلة العقلية والعلمية، بشكل يلبي احتياجات العصر.

الرسالة الثالثة: آراء حركة الخدمة العقائدية والفكرية – دراسة تحليلية

(رسالة دكتوراه) للباحث لطفي بن عابد الأنصاري، جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، قسم العقيدة والفلسفة، مكة، السعودية، 2019م.

تناول لطفي في هذه الرسالة الموضوعات التي تحدث فيها كولن، وأكد أنها تسير مع القضايا الكلية لمنهج أهل السنة والجماعة بعمومه، وشمول دعوته للعدل والرحمة والإنصاف وتعظيم كلام الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والدعوة للاجتماع على الحق والتحذير من الاختلاف والتفرق.

هذه نماذج يسيرة وهناك الكثير من الأمثلة والتقييمات الأخرى التي لا ينبغي تجاهلها، إذ إنها تقييمات موضوعية لأساتذة وأكاديميين بارزين في مجالاتهم العلمية والفكرية.

إن الأستاذ فتح الله كولن واعظ وخطيب وعالم ومفكر ورجل خدمة جليل، مارس الدعوة والخطابة على المنابر لسنوات كثيرة باعتباره واعظًا رسميًّا تابعًا للشؤون الدينية، على مرأى ومسمع من السيد كورمز ومعدّي التقرير. وقد كانت خطبه ودروسه ومواعظه يتابعها ويحضرها عشرات الآلاف من الناس في الكثير من مساجد تركيا وأكبرها. بل إن مواعظ كولن وخطبه وأحاديثه ولقاءاته وكتبه تعدّ من أكثر الأعمال انتشارًا وتداولاً في المجتمع. فهو ليس مبتدئا في الوعظ، بل كان يمارس دوره الدعوي والخطابي منذ الستينات، وله شهرته وصيته الذائع بين الناس في مجال العلم والوعظ والإرشاد.

كما أوكلت إليه الشؤون الدينية بعض المهام المهمة باعتباره ممثلاً للشؤون الدينية، فمن ذلك تكليفه في عام 1968 ضمن هيئة تشكلتْ منه ومن مفتيَّين آخرَين لتقييم أوضاع الحجيج الأتراك ومتابعتهم، في سابقة تعد هي الأولى التي يُطبق فيها هذا الإجراء، وقد اتصل به هاتفيًّا السيد لطفي دوغان رئيس الشؤون الدينية آنذاك بنفسه ليبلغه بهذا التكليف. كذلك أوفدت الشؤون الدينية في ديسمبر من عام 1977 الأستاذ كولن ممثلًا عن الشؤون الدينية إلى ألمانيا ليحاضر الجاليات التركية المقيمة هناك ويعقد فيها عديدًا من الندوات.

لا يختلف منهج كولن في موضوع التجسيم والتشبيه عن منهج أهل السنة وعقيدتهم، وقد عبر بكل صراحة ووضوح عن أن نسبة الأعضاء كاليد والقدم والعين بمعناها الحقيقي إلى الله تعالى هو محض ضلال.

ومع ذلك فإن الشؤون الدينية لم تثبت أو تصرح خلال نصف قرن من الزمان عن أي فكرة قولية كانت أو كتابية تخالف روح الإسلام في منشورات الأستاذ المحترم فتح الله كولن. والأغرب من هذا أن كورمز وعددًا من كبار شخصيات الشؤون الدينية قد شاركوا ممثلين عن الشؤون الدينية في الندوات والمحافل الدولية التي نظمتها الخدمة بتوصية من الأستاذ كولن نفسه وتحت رعايته، مثل مؤتمرات “القرآن والإعجاز العلمي”، و”الهدي النبوي”، و”خارطة طريق مشتركة: الإجماع والوعي الجمعي”. وقد عبر كورمز خلال هذه المؤتمرات بصفته رئيسًا للشؤون الدينية عن تقديره وإشادته بالأستاذ كولن وحركة الخدمة على مرأى ومسع جمع غفير من علماء العالم الإسلامي.

ومن ثم فإن محاولة كورمز ومؤسسة الشؤون الدينية -التي تعرف كولن حق المعرفة، وتقدر عقيدته وآراءه وخدماته، وتعترف بأن منهجه بمنأى عن أي تناقض مع روح الإسلام- اتهام كولن بأنه من الفرق الضالة من خلال “هندسة الاجتزاء” التي ينتقدها الآن، هو عمل أقل ما يوصف به أنه مجافٍ للإنصاف عقلاً ووجدانًا وأخلاقًا ومنهجًا.

خلاصة القول، أننا أردنا من خلال أحد الأمثلة في مقالنا هذا أن نبين خطأ المنهج المتبع في التقرير الذي كتب السيد محمد كورمز مقدمته بنفسه، والذي تمت هندسته في حق الأستاذ فتح الله كولن وفق فلسفة “هندسة الاجتزاء” التي يتجرعون مرارتها الآن. ومن ثم فعليهم الاعتراف بذلك حتى ولو بشكل غير مباشر. والجدير بالذكر أن السيد كورمز قد أدرك أن ما قامت به اللجنة معدة التقرير هو نوع من هندسة الاجتزاء شبه الاحترافية لآراء الأستاذ كولن، ومن ثم عمد إلى التمويه على ذلك الفعل محاولاً إضفاء نوع من الشرعية عليه بتقديم تبريرات واهية على هذه العملية المكشوفة قائلاً: “نقطة أخرى مهمة تلفت الانتباه في كل من النصوص والخطب، هي أن بعض العبارات والأفكار التي يأباها الإسلام، قد وضعت خفية بين العبارات التي تبدو طبيعية!!”[29]

في الواقع لقد أُعد التقرير كله -من واقع المثال الذي حللناه- وفق “هندسة اجتزاء” متعددة الاتجاهات، فقد اقتطعت تعابير كولن المجازية من سياقها في محاولة لاتهامه بالضلال والانحراف، وغُضّ الطرف تمامًا عن العبارات الصريحة التي تنزه الله تعالى عن التشبيه والتجسيم والزمان والمكان في مواضع كثيرة من مؤلفاته، وتجاهلوا عن قصدٍ قناعة علماء التفسير والحديث التي تقضي بعدم جواز حمل التعبيرات المجازية في القرآن الكريم والسنة النبوية على معناها الظاهري، كما تجاهلوا تحذيرات علماء الكلام التي حذرت من أن حمل هذا الأسلوب اللغوي البليغ على معناه الحقيقي يؤدي إلى الضلال، حتى إنهم لم يلتزموا بالمنهجية التي اتبعوها في مؤلفات الشؤون الدينية نفسها، ولم يأخذوا بعين الاعتبار شهادات كبار علماء العالم الإسلامي في العلوم الإسلامية فيما يتعلق بفهم كولن للعقيدة والفكر والخدمة، وكذلك الدراسات الأكاديمية التي تثبت علميًا أن عقيدة كولن تتفق تمامًا مع عقيدة أهل السنة.

إن محاولة حمل التعبيرات التي من هذا القبيل لدى كولن على معناها الحقيقي الظاهري، والسعي إلى تضليله، ما هو إلا منهج تشويهي يكيل بمكيالين، ويحمل الكثير من الوبال من خلال هندسة اقتطاع النصوص من سياقها.

علينا أن “نهنئ” رئاسة الشؤون الدينية التي بذلت جهدًا جبارًا في هندسة اجتزاء احترافية لتخرج بهذه الادعاءات في حق الأستاذ كولن(!)، وهذا في حد ذاته اعتراف بمكانة الأستاذ كولن وقيمته العلمية والاجتماعية، وفي الأخير فإن هذا التقرير بهذه المنهجية الخبيثة لن يبقي أحدا على وجه البسيطة إلا وقد تعرض إلى التكفير والتضليل.

[1] https://www.youtube.com/watch?v=Q_6ufoYKjRM; 47.35-48.17

[2] https://www.youtube.com/watch?v=Q_6ufoYKjRM; 48.18-49.03

[3] https://www.youtube.com/watch?v=Q_6ufoYKjRM; 54.04-54.18

[4] Diyanet İşleri Başkanlığı, (2017) Kendi Dilinden “Fetö” Örgütlü Bir Din İstismarı, Diyanet İşleri Başkanlığı Yayınları, Ankara, s.8

[5] Görüntülü Vaazlar 1-Hisar 1, Kutsilerin Takvası, dk. 10:40-12:00

[6] Diyanet İşleri Başkanlığı, (2017), Kendi Dilinden “Fetö” Örgütlü Bir Din İstismarı, s. 14-15.

[7] Görüntülü Vaazlar 1-Hisar 1, Kutsilerin Takvası, dk. 7:20-8:12

[8] صحيح البخاري، الإيمان، 37، تفسير السورة (31) 2؛ صحيح مسلم، الإيمان، 1، 5، 7.

[9] الألوسي، شهاب الدين، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م، 8/503.

[10] الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1999م، 22/48؛ الماوردي، علي بن محمد، النكت والعيون، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 3/402؛ النسفي، أبو البركات، مدارك التنزيل وحقيقة التأويل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م، 2/464.

[11] الزمخشري، محمد بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، مكتبة العبيكان، الرياض، 1998م، 4/81- 82؛ الرازي، مفاتيح الغيب، 14/386؛ الماوردي، النكت والعيون، 5/387؛ ابن عاشور، الطاهر، التحرير والتنوير، دار التونسية، تونس، 1984م، 16/219؛ Elmalılı, Hamdi Yazır, Hak Dini Kur’an Dili, Eser Yay. Yayınları, s.4566.

[12] أبو السعود، محمد بن محمد، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 8/204.

[13] سنن الترمذي، القيامة، 59؛ أحمد بن حنبل، المسند، 1/307.

[14] السيوطي، جلال الدين، قوت المغتذي على جامع الترمذي، جامعة أم القرى، مكة، 2003م، 2/604؛ علي القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، دار الفكر، بيروت، 2002م، 8/3323.

[15] التفتازاني، سعد الدين، شرح المقاصد، دار المعارف النعمانية، باكستان، 1981م، 2/110؛ الإيجي، عبد الرحمن، المواقف، دار الجيل، لبنان، 1997م، 3/153؛ فودة، سعيد عبد اللطيف، الشرح الكبير على العقيدة الطحاوية، دار الظاهر، لبنان، 1/345.

[16] Diyanet İşleri Başkanlığı, (2014) Hadislerle İslam, Dini Yayınlar, Ankara, 2014, 1/105

[17] صحيح البخاري، الرقاق، 38.

[18] Diyanet İşleri Başkanlığı, Hadislerle İslam, 1/461-462

[19] Gülen, Kalbin Zümrüt Tepeleri, 4/148

[20] Gülen, Fethullah, (2014) Kendi Ruhumuzu Ararken, Nil yay., İzmir, s. 262

[21] Gülen, Fethullah, (2012) Kalbin Zümrüt Tepeleri, Nil yay., İzmir, 4/119, 70, 78, 210, 121; 2/93, 300

[22] http://www.herkul.org/bamteli/elest-bezmi-ahde-vefa-ve-hak-la-munasebet/; Fatiha Üzerine Mülahazalar, s. 94; Asrın Getirdiği Tereddütler, 1/40; Bir İ’caz Hecelemesi, s. 365; Kendi İklimimiz, s. 155; İkindi Yağmurları, s. 335; Sohbet Atmosferi, s. 236; Ümit ve Korku, Hisar Camii, İzmir 22 Temmuz, 1990. 15.06- 15.34

[23] https://hiragate.com/ شهادات-عن-الأستاذ-فتح-الله-كولن/.

[24] https://hiragate.com/ شهادات-عن-الأستاذ-فتح-الله-كولن/.

[25] https://www.youtube.com/watch?v=ygjHZggJ6Uc&feature=youtu.be

[26] https://www.youtube.com/watch?v=tGKlIb3uC-0

[27] https://www.youtube.com/watch?v=1m2ZIRVaYbs

[28] https://nesemat.com/ يمكن الاطلاع على كافة الرسائل التي عقدت حول الأستاذ كولن وفكره من خلال هذا الرابط:

 

[29] Kendi Dilinden “Fetö” Örgütlü Bir Din İstismarı, s.8