السفر إلى إفريقيا، حيث الشمس بحرارتها الحارقة، ووسائل الحياة البدائية، قد لا يبدو حلماً للكثيرين، لكنه بالنسبة لي كان حلمًا. فهي أرض ظمأى إلى دعوة الحق، متعطشة لمن يمد يد الخدمة لها. كنت في زيارة للأخوة في الخدمة، وفجأة وبدون مقدمات تحول الحلم إلى حقيقة، فقد جاءتني دعوة كريمة لزيارة نيجيريا، للاطلاع على آخر ما وصلت إليه نشاطات الخدمة هناك، والتعرف على إنسان الخدمة في إفريقيا، وحياة المكابدة والمعاناة التي يحياها في سبيل فلسفته التي تحتضن الإنسانية كلها، والاحتراق الذاتي مما تعانيه الإنسانية من جفاف الروح، وتصحر الفؤاد. وكذلك المشاركة في مؤتمر دولي بعنوان “أساليب التنشئة المحمدية في تربية الأجيال”. لقد أثْرَتْ هذه الزيارةُ الخاطفة الأفكارَ، وروتِ الروح، وشحذتِ الهمم، وفتحتْ أفقًا جديدًا تبدَّت لنا الخدمة من خلاله، لترسم الصورة كاملة، لا تشوبها شائبة، ولا تؤثر فيها افتراءات وادعاءات باطلة، وأهل الباطل وإن علو، فلا يغررك علوهم، فالزبد يعلو الماء ولا فائدة له، فهو غثاء، ومن طبيعة الغثاء أن يعلو في بعض الأوقات، لكن زواله حتمي، أما ما ينفع الناس فله العاقبة وإليه منتهى الأمر.
لقد أثْرَتْ هذه الزيارةُ الخاطفة الأفكارَ، وروتِ الروح، وشحذتِ الهمم، وفتحتْ أفقًا جديدًا تبدَّت لنا الخدمة من خلاله
رجل بأمة
يتحرك على الأرض ككتيبة دبلوماسية كاملة، يُنجز أعمالاً، تعجز دولٌ ذات ثقل دولي عن إنجازها، ورغم أنه يعيش في المهجر فإن مواطني هذا البلد يحاولون أن يتقربوا منه ليتعلموا على يديه وينهلوا من خبراته في إنشاء المدارس والجامعات، أو إقامة مؤتمر هنا أو هناك، كان في بداية الأمر هو وحده المسئول عن شركة كبيرة أسسها في هذا البلد، ينجز بمفرده كافة الفعاليات التي تقيمها الشركة، إلى أن استطاع تربية جيل من أهل البلد تعلموا على يديه كيف تكون التضحية في سبيل نشر الفكرة.
في الماضي كنا نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحت كفة أبي بكر”، فنتخيل أن أمثال سيدنا أبي بكر رضي الله عنه أناس استثنائيون لا يمكن استنساخهم من جديد، ويعجز الإنسان أن يتصورهم إلا عندما يسرح بخياله، لم تُحكَ لي قصته، بل رأيته بعيني، رجل يجوب القفار تطوى له الأرض طيًّا وكأنها تعشق أن يسير عليها، صباحًا تراه في مدينة تفتقر لأبسط وسائل الحياة الحديثة، يستقبل وفدًا من هنا أو هناك يُجوِّلهم في مدارس الخدمة، وفي المساء ينطلق بهم إلى ولاية أخرى، لتبدأ التحضيرات لأعمال المؤتمر المزمع إقامته في الجامعة بالتعاون مع مؤسسته، ثم في اليوم التالي ينطلق بهم إلى العاصمة لزيارة جامعة الخدمة هناك، يتجولون في الجامعة للتعرف على كلياتها، وفي الظهيرة يعقدون ندوة مع أساتذة الجامعة، يتولى هو مهمة الترجمة، وفي صباح اليوم التالي يأخذ بأيديهم إلى أحد مستشفيات الخدمة في أفريقيا، شعلة نشاط لا تنطفئ يدور وفي يده أحد الزوار من طبيب إلى طبيب بلا كلل ولا تعب، يُجري للوفد بعض الفحوصات الطبية، كل هذا ولا يفوته إعداد الطعام للضيوف أو تهيئة مكان لمبيتهم، وبالرغم من قدوم بعض من يعاونه مؤخرًا يعد نفسه المسئول عن كل هذا.
إذا كان هذا هو حاله نهارًا فكيف به ليلًا، إن حرقته ورقة قلبه، ودموع عينيه الهادرة وقت الندوات عند أي مديح لأهل الخدمة وتشبيههم في تضحياتهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤكد لك أن هذا الرجل ممن صدق عليهم وصف “رهبان بالليل فرسان بالنهار”. إن هذا الرجل بقلبه وعقله وحركته وفعاليته ونشاطه يعدل أمة.
لقد سكنت محبته قلوب كل من عايشه، سيرته جابت الآفاق، وأعماله ملأت السمع والبصر، وإذا سألت عن سر محبته التي سكنت القلوب فستجدها في ابتسامته العريضة التي لا تفارق وجنتيه، على الرغم من همومه التي يحملها بين جنبيه، تراه رغم عظم أعماله يتعامل مع المحيطين به بروح بريئة، على سجيته وفطرته التي فطره الله عليها.
هذا الرجل الذي تراه لا يفكر إلا في خدمة الناس، ولا تمر عليه شاردة ولا واردة إلا وقد أعد لها العدة، زوجته وأولاده الآن محاصرون في تركيا، فقد صادرت الحكومة التركية جوازات سفرهم ومنعتهم من مغادرة تركيا إلى أي مكان في العالم، شأنهم في ذلك شأن مئات الأسر التركية، التي لا ذنب لها إلا أنها حملت على عاتقها خدمة الإنسانية. في أمسية أحد الليالي وفي لحظة خاطفة وجدته يقول:”لقد اشتقت إلى أولادي”، فلم أتمالك نفسي، أيُّ رجل هذا الرجل؟! مع كل هذه الأعمال والأنشطة، وهو يحمل همًّا مخفيًّا تعجز الجبال عن حمله. حقًّا وصدقًا قالها محمد فتح الله كولن عندما ابتهل إلى الله وتضرع إليه أن يُعطي كل سائل مطلبه، وكان مطلبه هو “حفنة من المجانين” الذين يثورون على كلِّ المعايير المألوفة، يتجاوزون كلَّ المقاييس المعروفة. وبينما الناس إلى المغريات يتهافتون، هؤلاء منها يفرُّون وإليها لا يلتفتون. أريد حفنةً ممن نُسبوا إلى خفَّة العقل لشدَّة حرصهم على دينهم، وتعلُّقهم بنشر إيمانهم؛ هؤلاء هم “المجانين” الذين مدَحهم سيِّد المرسلين صلى الله عليه وسلم، إذ لا يفكِّرون بملذَّات أنفسهم، ولا يتطلَّعون إلى منصبٍ أو شهرةٍ أو جاه، ولا يرومون متعةَ الدنيا ومالها، ولا يُفتنون بالأهل والبنين.
بعد انتهاء الندوة استوقفتْ مدرستان أحدَ أعضاء الوفد واختلطت دموعهما بكلامهما وهما تشكران الوفد على تلك الكلمات التي شدت من أزرهم وكفكفت دموعهم وأشعرتهم أنهم على درب الحق، في وقت عزَّ فيه من يدافع عن الحق
مؤتمر كاتسينا “أساليب التربية المحمدية في تنشئة الأجيال”
مؤتمر دولي انعقد يوم الإثنين الموافق 22/ 5/ 2017، في مقر جامعة القلم بولاية كاتسينا بنيجيريا وذلك برعاية جامعة القلم ومجلة حراء، شارك في المؤتمر علماء ومفكرون من حوالي عشر دول، كان هذا المؤتمر محاولة من منظميه للإسهام في بناء رؤية إيجابية وسطية في فهم الإسلام لإبعاد الشباب المسلم عن العنف والتطرف والإرهاب. اختتمت الكلمات الافتتاحية فيه بكلمة مؤثرة من الداعية الإسلامي الدكتور جمال السفرتي من الأردن، أكد فيها على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معلمًا وأن أول آيات القرآن نزولاً حملت الدعوة إلى القراءة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان اهتمامه الأساس هو تخريج جيل من أصحابه بلغوا الغاية والنهاية علمًا وخلقًا ودينًا، وأن هذا المنهج النبوي في التغيير هو الذي يحاول إحياءه الأستاذ محمد فتح الله كولن، لهذا فقد وجه أنظار تلاميذه إلى الهجرة لكل أصقاع الأرض من أجل بناء المدارس التي يتخرج منها الإنسان كما أراده الله أن يكون. أقيم المؤتمر على جلستين عرضت فيهما العديد من الأوراق ذات الصلة بموضوع المؤتمر.
واللافت للنظر في هذا المؤتمر، نسبة الحضور العالية؛ مما يبين شغف إخوتنا النيجيريين بالعلم، واهتمامهم بالحضور الفعال فقد نوقش المحاضرون في عديد من الأفكار التي طرحوها، ووُجِّهَت انتقادات إلى بعضهم في عدة نقاط، وتفاعل الجميع مع هذه المداخلات.
كما لفت نظري أيضا الحضور النسائي في المؤتمر، فبالرغم من أن مقدمي الأوراق لم يكن من بينهن إناث، إلا أن نسبة الحضور منهن كانت عالية، وقمن بمداخلات غاية في الدقة، ونظرًا للحضور المشرف للجانب النسائي رأى المنظمون للمؤتمر أن يعطى وقت لإحداهن حتى تلقي كلمة وقد لاقت ترحيبًا كبيرًا.
كذلك الشباب الجامعيون الذين يتولون مناصب حساسة؛ بعضهم وكيل جامعة والبعض الآخر عمداء كليات ورؤساء أقسام، هؤلاء الشباب ممن أسهم صاحبنا في إعدادهم وصقل نشاطهم وتزويدهم بالخبرة من مؤتمرات أخرى سابقة كان يقع على كاهله وحده مهمة الإشراف عليها. الآن يتحملون المسئولية، ويتولون مهمة الإشراف على المؤتمر وإخراجه بالصورة اللائقة به تنظيميًّا. هؤلاء الشباب ممن تربوا على فكر فتح الله كولن التربوي، هم بذور الخير التي بذرت في هذه البلاد وغيرها من بلدان العالم، وتوشك تلك البذور أن تتفتق عن ثمار يانعة تنعم بها الإنسانية.
(مدارس نيجيريا الدولية NTIC))
لفت نظري في هذه المدارس عدة أمور أهمها
- القدرة العجيبة للتربويين من الخدمة الذين يتولون مهمة الإشراف على هذه المدارس، في إحداث توازن عجيب في طريقة التعامل مع الطلاب المسلمين والمسيحيين، ليس الأمر متعلقًا بالتوازن في حجرات الدراسة الخاصة بالمواد العلمية، بل في برامج التربية الدينية والخلقية التي تعقدها المدرسة، حيث بلغ الأمر حدًّا طلب فيه بعض أولياء أمور الطلاب غير المسلمين إلحاق أولادهم ببرامج التربية الدينية والخلقية للطلاب المسلمين، لما يرونه من التأثير الكبير على أخلاق ذويهم، كما أن المدرسة لا تمانع من عقد برامج دينية تتناسب مع عقائد الطلاب غير المسلمين، وذلك بطلب من أولياء الأمور، مما يعطي مؤشرًا قويًّا أن تلك المدارس لا تبغي التبشير بدين معين، بل الهدف الأسمى هو بناء الإنسان في الأصول التي اتفقت عليها الأديان، من الدعوة إلى الأخلاق الحميدة، وهذا الأمر يختلف اختلافًا كليًّا عمَّا عهدته الشعوب الأفريقية من الرسالة التبشيرية التي كانت تقوم عليها المدارس الأجنبية في ربوع أفريقيا.
- هذه الملاحظة ليست خاصة بالمدارس وحدها بل كل مؤسسات الخدمة العاملة ليس في نيجيريا وحدها بل في أفريقيا كلها، ألا وهي أسرة الشخص المنتمي للخدمة، وتضحياتها التي بلا حدود، وكيف هجرت النعيم والراحة ورغد العيش في سبيل رفع التكاليف عن أناس ابتلاهم الله بالجهل أو الفقر أو الجفاف، فعاشوا معهم وتذوقوا معاناتهم، وقاموا بتربيتهم على أحسن الوجوه، ليكون منهم أناس صالحون، ومواطنون شرفاء، وشباب متسامحون، يمثلون الوجه الحقيقي للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها. وإن سألت نفسك ما المقابل الذي سيحصل عليه هؤلاء؟ كان الجواب لا شيء سوى إرضاء الله تعالى في خدمة الإنسانية.
- في إحدى الندوات التي دُعي إليها الوفد، والتي أقيمت في أحد المدارس، تحدث الأخوة على المنصة عن المحنة التي تعيشها الخدمة في أرجاء المعمورة، وأنه يتوجب على حاملي هذه الأفكار أن يصبروا، وأن يعلموا أن هذا هو دأب المصلحين في كل عصر ومصر. بعد انتهاء الندوة استوقفتْ مدرستان أحدَ أعضاء الوفد واختلطت دموعهما بكلامهما وهما تشكران الوفد على تلك الكلمات التي شدت من أزرهم وكفكفت دموعهم وأشعرتهم أنهم على درب الحق، في وقت عزَّ فيه من يدافع عن الحق، ويرفع راية العدل في وجه الباطل، وأصبحت المصلحة الخاصة للأشخاص أو العامة للدول هي التي تحدد مع مَنْ نقف أو من نؤيد.
وبفضل ذلك الإيمان العميق الذي أشعل جذوته الأستاذ فتح الله كولن في قلوب جيل بأكمله، نذرت هذه الأفئدة نفسها لخدمة وطنها؛ بل والإنسانية جمعاء، وسعتْ بكل ما أوتيت من قوة للارتقاء بوطنها، وإعلاء شأنه، ومحاربة الفساد بكل ألوانه وكافة أشكاله
المستشفى النظامية
أحد أفضل المستشفيات في إفريقيا، بما تحويه من أجهزة طبية على أحدث طراز، ومجموعة من الأطباء هم القمة في تخصصاتهم، زرنا المستشفى صباحًا لإجراء بعض الفحوصات الطبية، لفت انتباهنا شعلة النشاط والعمل الدؤوب، والنظام المتناهي الدقة الذي عليه فريق العمل في المستشفى وكيف يدخل المريض إلى المستشفى متأوِّهًا متوجِّعًا فتتلقَّفه اليد الحانية بالعناية والرعاية، مما أعاد إلى أذهاننا ما قد وُصف به الأطباء من أنهم ملائكة الرحمة.
في المساء دعينا لنلتقي بمجموعة العاملين بالمستشفى من أطباء وممرضين وعاملين، كانت المفاجأة التي أذهلتنا هي حضور الجميع حضورًا منصتًا متفاعلاً متجاوبًا متشوقًا للاستماع إلى علماء الدين، وعن رؤيتهم للخدمة ورأيهم فيها، والأزمة الحالية التي تعيشها الخدمة في ظل الإجراءات غير الإنسانية التي تتخذها الحكومة التركية ضد الخدمة وملاحقتها في كل مكان في العالم بإيعاز من رئيس الدولة التركي الحالي.
حكمة الطبيب لقمان والفساد
في أحد الأمسيات الليلية، وفي الهواء الطلق التقيت به، رجل متواضع لا يدل مظهره على مخبره، عرفني بنفسه، من أشهر أطباء تخصص الأطفال في تركيا، مطلوب في أرقى المستشفيات في العالم؛ لكنه هاجر إلى نيجيريا ومن قبلها إلى الصومال، استجابة لدعوة الأستاذ فتح الله كولن بضرورة إحياء مفهوم الهجرة من جديد، كان مديرًا لإحدى المستشفيات الحكومية في مدينة قيصري، استطاع بفضل خبرته الواسعة، وبتربيته الدينية التي استقاها من دروس الأستاذ فتح الله كولن، وإيمانه العميق بفلسفة الخدمة، أن يجعل من تلك المستشفى واحدة من أفضل المستشفيات في تركيا؛ بعد أن كانت في قائمة الأسوأ في تركيا.
وبفضل ذلك الإيمان العميق الذي أشعل جذوته الأستاذ فتح الله كولن في قلوب جيل بأكمله، نذرت هذه الأفئدة نفسها لخدمة وطنها؛ بل والإنسانية جمعاء، وسعتْ بكل ما أوتيت من قوة للارتقاء بوطنها، وإعلاء شأنه، ومحاربة الفساد بكل ألوانه وكافة أشكاله، وعلى خلفية تلك المبادئ يتعرض هذا الطبيب للملاحقة من سلطات بلده أينما حل وحيثما ارتحل، فلا يستطيع أن يعود إلى بلده لئلا يعتقل، وترفض سفارة وطنه في أي مكان في العالم أن تتعامل معه أو أيٍّ من ذويه، وكل ذنبه الذي اقترفه، أنه رفض وبكل شدة تلك المناقصات المشبوهة التي كان يهدد بالقتل للموافقة عليها، من قبل مسئولين حكوميين تابعين لحزب العدالة والتنمية، والتي قدَّم بها أدلة موثقة لمحققين أمنيين، وبعد أن أخذ القانون مجراه وحتى لا تتعرض صورة حزب العدالة والتنمية لتشويه أمام الرأي العام التركي والعالمي، تم تغيير هؤلاء المحققين بآخرين موالين للحكومة، وتم حفظ تلك القضايا، بل وملاحقة الضحية بدلاً من الجاني، وها هو طبيبنا، يحال بينه وبين وطنه، ويحرم من خدمة بني جنسه، وفي المقابل هو يؤمن بعدالة قضيته، لا يضيره ما يُفترى عليه، يؤمن إيمانًا لا يتزعزع أن النصر مع الصبر، وأن ظلمة الليل الحالكة يعقبها ضوء النهار، وأن اليسر بعد العسر، وأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.