انتهاك الحقوق والقانون.. نظرة تاريخية
28 أغسطس/آب (2014م)
إن المشكلات التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم أكبر وأعمق مما نتصور، فالعنصر الرئيس الذي تسبب في ظهور الخلافات البشرية في أول مجتمع إنساني هو العنصر ذاته الذي نتجت عنه الخلافات الحاصلة اليوم بين الإنسانية بوجه عام، والمسلمين بوجه خاص.
يعتقد الفيلسوف السويسري “جان جاك روسو (J. JRouessau)” أن الإنسانية في أول عهدها قد عاشت في جو من التناغم والتوافق” فيما يزعم الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز (Hobbes)” أن تاريخ البشرية في جميع عهودها بلا استثناء قد شهد العداوة والبغضاء”، وعلى الصعيد ذاته نجد في القرآن الكريم عبارات تشير لصحة الرأيين السابقين حيث يقول الله تعالى:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 2/213)
يشير المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآية إلى أن أفراد المجتمع الإنساني الأول قد حكموا بما أنزل الله تعالى فيما بينهم، ونظموا علاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقانونية وفق دين التوحيد، كما أسسوا “الأمة الواحدة” التي تعتبر وحدة عقدية وسياسية، ولا شك في أن الناس خلال عصر “الأمة الواحدة” لم يكونوا جميعًا متجانسين، فنشبت بينهم بعض الخلافات والنزاعات، غير أنهم كانوا يحلّون هذه الخلافات في الحياة الأخلاقية والسياسية والقانونية لمجتمعهم من خلال الأحكام والقواعد التي جاء بها دينهم الحنيف، كما كانوا يعاقبون من لا يتبع هذه القواعد والأحكام، ولكن الإنسانية لم تواصل سيرها على هذا الطريق المستقيم في جميع العصور والأزمنة، حيث بدأت فئة منهم لا تعترف بالأوامر والأحكام الإلهية، مما أسفر عن ظهور التفكك والتشرذم والخلاف بين أفراد “الأمة الواحدة” التي نجح المسلمون الأوائل في تأسيسها.
وأما السبب الرئيس في ظهور هذا التفكك والتشرذم والخلاف هو “بغيهم”، فبينما كان الناس يعيشون في ظل التناغم والانسجام في وقت من الأوقات، بدأ يحسد بعضهم بعضًا وينتهكون الحقوق والقوانين إرضاءً لأهوائهم وطموحاتهم، ووضعوا أهواءهم ورغباتهم في المقام الأول، واستهانوا بأحكام الله وخالفوا أوامره، وبطبيعة الحال لم يكن أفراد المجتمع الآخرون سيصمتون أمام هذا الموقف المتغطرس والمتمرد، فعارضوا المتمردين وقالوا لهم: “ماذا دهاكم؟ كيف تتجرؤون وتنتهكون القوانين الإلهية؟” وعليه، فقد نشبت صراعات كبيرة بين الفريقين، وكبرت الخلافات وتفاقمت، وفي نهاية المطاف دُمرت وحدة الأمة، وبدأت حبات العقد تنفرط.
وعندما ننظر إلى ماهية هذه الخلافات نجد أنها مترسخة في فطرة الإنسان وتتلخص في الرغبات والمصالح والمطامع في السلطة والتي هي سبب في نشوب الصراعات بين الناس، وهذه الخلافات من نوعية النزاعات التي تظهر أثناء تنظيم العلاقات بين البشر، وقد استخدم التعبير القرآني كلمة “البغي” للإشارة إلى هذا المضمون.
يعرّف الراغب الأصفهاني كلمة البغي في اللغة على أنها “طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه أو لم يتجاوزه”، ويجب ألا نفهم كلمة الاقتصاد هنا بمعناه الشائع بل المقصود منها هو العدل والطريق المستقيم، وأما الإمام الغزالي فيرى في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد” “أن الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد هو ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الطريق المستقيم”، وعندما تقترن كلمة البغي بكلمة السماء يكون معناها اشتداد المطر، والبغاة من الناس هم المتكبرون والمتعالون والساعون في الأرض فسادًا، كما وصفتهم الآية الكريمة:
﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ (سُورَةُ العَنْكَبوتِ: 29/39).
إن تجاوز الحد والاستكبار لهما علاقة وثيقة بالحرص والطمع المنغرسين في فطرة الإنسان، ومن المعلوم أن الطغاة والبغاة يتميزون بالغرور والتعالى والشعور بالأهمية فيتلذذون بظلم الضعفاء وانتهاك حقوقهم ومحاولة الكسب ولو على حساب الآخرين.
إذن فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو؛ لماذا ينتهك المسلمون حقوق بعضهم البعض في حين أن لديهم الكتاب الذي يهديهم إلى الصراط المستقيم؟!
إننا نرى اليوم أن المسلمين ينتهكون حقوق بعضهم ويخالفون الأحكام الشرعية التي جاء بها دينهم الحنيف في حين أنهم يقرون بألسنتهم أنهم يؤمنون بهذه الأحكام بحذافيرها، فهل يا ترى هم ليسوا صادقين في إيمانهم أم أنهم يؤمنون لكنهم مع ذلك يصرون على مخالفتها ومجاوزة الحد فيها؟
بين “العدالة والتنمية”والفكر “الكمالي”
9 يوليو/تموز (2014م)
من المعلوم أن سياسة استخدام عملاء من داخل الحركات الإسلامية من قبل الدولة التركية تعد من الإجراءات القديمة لديها، وهذه السياسة لا تقتصر على الحركات الإسلامية فحسب بل تشمل كذلك جميع الحركات السياسية المختلفة، فالدولة يكون لها عملاء داخل الحركات اليسارية أو الاشتراكية أو القومية أو اليمينية أو الليبرالية أو غيرها من الحركات الأخرى بما في ذلك الحركات المسلحة والمنظمات الإرهابية التي تتورط في عمليات مسلحة ضد الدولة، وعلى سبيل المثال هناك ادعاءات بأن الدولة تتستر على مسألة تغلغل عناصر من المخابرات التركية داخل اتحاد المجتمعات الكردستانية (KCK) وهو كيان يضم حزب العمال الكردستاني (PKK) الإرهابي والذي أحدث ضجة كبيرة في الأوساط التركية عام (2012م)، وعلى الصعيد نفسه انكشف في الآونة الأخيرة أن السبب الحقيقي وراء اغتيال الكاتب الصحفي التركي “أوغور مومجو (UğurMumcu)” لم يكن بسبب دواع دينية كما كان يدعي البعض بل توصله إلى معطيات تثبت العلاقة المشبوهة بين الدولة وحزب العمال الكردستاني واستعداده لفك رموز هذه العلاقة.
من السذاجة أن نفكر أن التيار الإسلامي في تركيا لم يتورط في أي خطإ طوال تاريخه الذي يقرب من 150 عامًا، فالمشكلة هنا هي ليست محاولة الدولة خداع التيارات الإسلامية أو وضع هيمنتها ورقابتها على الحياة الدينية أو الكيانات الدينية، بل المشكلة تكمن في أن التيارات الإسلامية والمتدينين لا يتصرفون بفراسة وبصيرة في مواجهة حملات التلاعب والخداع التي تحيكها الدولة ضدها، يبدو أن موقف المتدينين الإيجابي في تركيا حيال أناس من بينهم يتبنون شعار “تقديس السلطة والدولة” يؤدي إلى تسرب العناصر من المخابرات المحلية والأجنبية فيما بينهم، وهناك مشكلة أخرى تعاني منها الفئة المتدينة والمحافظة من المجتمع التركي وهي عدم استيعابها بأن الدولة لها ردود أفعال قوية أحيانًا ومرنة أحيانًا أخرى تجاه معارضيها وذلك وفق مصالحها.
ومن الممكن أن تسلم الدولة زمام أمرها إلى تيارات مختلفة من المجتمع، ومع ذلك تظل متمسكة بهويتها الأساسية، فليس المهم أن يتعاقب عليها هذا التيار أو ذاك بل المهم بالنسبة لها أن تظل المحرك الأساسي للأحداث، وفي هذا السياق يمكن أن نذكر ما قاله المحافظ الأسبق لمدينة “أنقرة” “نوزاد تاندوغان (NevzatTandoğan)” لشاب شيوعي مسك بتلابيبه حيث قال “تاندوغان” في وجه الشاب: مالكم تصرخون وتصيحون؟ إذا رأت الدولة أن البلاد بحاجة إلى الشيوعية فستتبناها بين عشية وضحاها”، أجل. إن الدولة إذا اقتنعت يومًا ما أنها يمكن أن تحافظ على قوتها وهيمنتها في ظل الشيوعية فإنها لا تتردد لحظة واحدة في تبني الشيوعية لدرجة يتحير معها الشيوعيون الحقيقيون من أمرهم، وفي الحقيقة إن الشيوعية التي تتبناها الدولة ليست الشيوعية بكامل مضمونها بل “الاسم” دون المضمون، كما هي الحال في مسألة “الإسلام السياسي” فإن الدولة إذا اضطرت إليه تتمسك بـ”الإسلام أوالتدين”
ولكن “اسمًا” فقط دون المضمون، فعندما تشعر الدولة بالضعف تتطلع إلى من يمتلك القوة في المجتمع وتمنيه بالمال والنفوذ، وحينذاك يهرول ضعاف النفوس منهم إلى إنقاذ الدولة وإنعاشها، وهذا ما فعله الإسلاميون القدامى في تركيا أقصد بهم الإسلاميين في التيار السياسي، وفي هذا السياق يقول الخبير التركي في علم الاجتماع والسياسة “شريف ماردين (ŞerifMardin)”:
“إن حكومة حزب العدالة والتنمية هي بمثابة نجاح “الفكر الكمالي” .
كما يقول المؤرخ المخضرم “كمال كاربات (KemalKarpat)”:
“لقد أطال أردوغان عمر “الفكر الكمالي” في تركيا”.
ومما يؤكد على ذلك ما نراه اليوم من تصالح وتقارب متبادل ما بين الحزب الحاكم وعناصر الدولة العميقة التي كان الحزب يتوعد بالأمس بتطهير مؤسسات الدولة منهم.
لا شك أن هؤلاء الأفراد المنتمين إلى تيارات دينية مختلفة عندما يعلنون احتفاظهم بالدولة التي تتبنى العنف والظلم يشاركون في هذا الظلم، وأرجو ألا يفهم القارئ الكريم من حديثي هذا أنني أضمر عداءً ضد الدولة أو أبغض الحزب الحاكم وزعيمه، بل كل ما أتمناه هو أن تحكم تركيا “دولة القانون”.
تأليه الدولة
3 فبراير/شباط (2014م)
إن الغاية من السياسة الشرعية هي الحكم في إطار القانون، وتأسيس العدالة بين أفراد المجتمع، وحينما ننظر إلى تاريخنا السياسي البعيد والقريب يتضح لنا جليًّا لماذا فقدت مفهوم “السياسات اليمينية المتدينة” في نهاية المطاف تأييدَ الشعب وسقطت من سدة الحكم.
والإسلام السياسي الذي ظهر في تركيا منذ عام (1970م) والذي يحاول الوصول إلى سدة الحكم، يتبنى منذ نشأته القواعد الإسلامية المتينة ويتمسك ببعض المبادئ التي يمكن أن نلخصها في ثلاث نقاط أساسية وهي؛ عدم التورط في الفساد والرشوة، والحفاظ على الرعية وخاصة الطبقة الفقيرة منها، وتأسيس سلام على نطاق واسع بين طبقات المجتمع، كما وعد الإسلاميون في تركيا الشعب حال وصولهم إلى سدة الحكم بالحكم بين جميع أفراد الشعب بالعدل والمساواة بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم ومجموعاتهم المهنية وقناعاتهم الفلسفية وتكتلاتهم وعشائرهم، فهذا الجانب كان من أهمِّ العوامل التي تميِّز “الإسلام السياسي” عن “السياسة المحافظة اليمينية في تركيا.. ونحن كنا نأمل أن “الإسلام السياسي” سيبني جسور المحبة والسلام بين أبناء الوطن من جهة وبين الشعب التركي والمجتمعاتِ المسلمة الأخرى من جهة أخرى، وسيسمح لجميع طوائف المجتمع بما فيها الحركات الإسلامية والجمعيات الأهلية بالمشاركة الفعلية في نظام الحكم، وهكذا كنا نأمل التخلص من القيود المفروضة علينا منذ ما يزيد عن المائتي عام الماضية، وكنا نأمل أن ينجح السياسي أو الإداري الذي برز بهُوِيَّته المسلمة في هذا الأمر دون أن يتورط في فِخاخ الماضي، ويشق طريقه نحو تحقيق أهدافه آخذًا في الاعتبار المتغيرات العالمية ويأخذ كذلك في الحسبان الثقافة السياسية التي هي وليدة العصر الراهن، ولكن وا أسفاه إن المشهد الحالي مأساوي ومُرعِب، حيث إن هؤلاء الذين برزوا للناس بهُوِيَّتهم المسلمة وقطعوا على أنفسهم الوعود -وقد ذكرنا جزءًا منها سابقًا- باتوا أسوأ حالًا ممن تبنوا “السياسة اليمينية المتدينة” في الماضي، حتى إننا نشاهد في هذه الأيام الإجراءات التعسفية -التي كنا نعاني منها في تلك الفترات ونذكرها ببالغ الأسف والخجل- قد تُنَفَّذ من جديد من قبل هؤلاء الناس الذين برزوا للناس بالهوية المسلمة، وإليكم بعض الإقتباسات من أقوالهم وأحاديثهم:
“إن الدولة كالإله، لا تقبل الشركاء”.
(السيد “بكير بوزداغ (BekirBozdağ)” وزير العدل السابق)
“ألا يحق للمدير الفني لفريق كرة القدم أن يغيِّر اللاعبين حسب المُجريات في الملعب؟ هناك بعض الناس يشكون عدم التوافق بين مؤسسات الدولة وعدم تطبيق للقانون، أقول لهم ويل لكم إن الدولة تضيع وتنهار، ما لنا وللقانون؟!”.
(الأستاذ الدكتور “محمد جليك (MehmetÇelik)”)
“إذا كان القضاء في أي دولة بيد خونة الوطن، فإمَّا أن تُطهَّر الدولة من هؤلاء الخونة في إطار القانون، وإما… أن تحافظ الدولة على وجودها بأيّ ثمن”.
(“أحمد بايك أوغلو (AhmetBayekoğlu)” المقرب من الحزب الحاكم)
“أحيانًا ما تجلب الاغتيالات السياسية التي تقع في بلد ما السكينة والطمأنينة إلى هذا البلد، فهذه الاغتيالات تكمم الأفواه وتحد من الثرثرة”.
(مراسل وكالة أنباء “إخلاص (İHA)” المقربة من الحزب الحاكم)
يقول أحد مستشاري “أردوغان” في فترة رئاسته للوزراء:
“لقد لجأت الدولة إلى بعض الممارسات القمعية في بعض الفترات على مدار تاريخها للحفاظ على ذاتيتها، اذكروا عني هذا…”.
وفي السياق نفسه يصف “يَلْجِين أكدوغان (YalçınAkdoğan)” وهو أحد مستشاري “أردوغان” أيضًا عندما كان رئيسًا للوزراء: التدابير والإجراءات القانونية الاحترازية التي اتخذت للحيلولة دون وقوع انقلابات عسكرية في تركيا والتي أزالت إلى حد ما الخوف من وقوع تلك الانقلابات في الفترات القادمة بأنها “مؤامرة ضد الجيش الوطني”.
ومن ناحية أخرى نرى نائبًا في حزب العدالة والتنمية عن محافظة “أرضروم” يهدِّد متحدثًا باسم منظَّمة مهنية تمثِّل سبعين منظمة مدنية فرعية وهي مقربة من حركة “الخدمة” قائلًا له: “سنطردكم من هذا البلد، وأنتم تنهقون كالحمير”.
ولكن الذي زاد الطين بلَّة هو تصريح وزير الخارجية الأسبق “رئيس الوزراء فيما بعد..” أحمد داود أوغلو.. ذلك التصريح الذي يجمِّد الدم في العروق:
“لنا أعراف في إدارة الدولة، وهكذا كان الأمر في الدولة العثمانية، إذ ضُحِّيَ بالأولاد في سبيل بقاء الدولة، لذلك فليس من الممكن أن نَقبل بوجود تشكيل داخل كيان الدولة، ولن نسمح بأن يستولي البعض على الدولة”.
إن هذه التصريحات المذكورة أعلاه التي سجلها التاريح ما هي إلا نماذج تبين لنا كيف تحولت عقلية المسلم السلمية إلى فلسفة دولة تتبنى العنف والجبروتية في الإدارة، وإذا افترضنا أن ثمة إجراءات جنائية تمت بحجة الحيلولة دون تَمَزُّق الدولة، وهذه الحجة لا أراها أبدًا مبرِّرًا لهذه الأعمال الإجرامية ولكنني أود أن أتساءل هنا: هل يُجِيز الإسلام أن تكون الدولة ملكًا لأسرة حاكمة؟ واليوم الدولة ملك لمَن؟ وهل هؤلاء الذين وصلوا إلى الحكم لمدة محدَّدة بعد الانتخابات يَعتبرون أنفسَهم “أسرة مالكة” ولذلك يلمِّحون إلى “قتل الإخوة”؟ فهؤلاء اليوم في السلطة، ولكن أليس من الممكن أن يرحل هؤلاء حال خسارتهم في الانتخابات في المستقبل.. إذًا لماذا يعتبر هؤلاء أنفسهم حراس الدولة التي هي في الحقيقة ملك لجميع الشعب التركي بكل طوائفه، ومِمَّن يحرسونها؟ وهل الحفاظ على الدولة يسمح لهؤلاء اللجوء إلى طرق غير مشروعة وغير قانونية من أجل تأدية هذه المهمة؟ وهل تصرفكم هذا نابع من اعتقادكم أن هناك محاولة لإلغاء العمل بالدستور أو حل المجلس النيابي أو القيام بتمرد مسلح أو هناك نية للقيام ببعض الاغتيالات السياسية؟
الأدهى والأمَرُّ أن العُرْف القديم الميت الذي كان يُبِيح قتل الإخوة سياسيًا، قد انبعث من مرقده في عقل الإسلاميين المعاصرين، فنرى أن “الأحكام العرفية” جاءت لتحلّ محلّ مفاهيم “العدالة، والحرية، ورعاية حقوق الآخرين”، وسَرْعان ما أصبحت المبادئ والأوامر الإسلامية طَيَّ النسيان، وراجت أساليبُ جنكيز خان القمعية، وسياسةُ القصر البيزنطيِّ العقيمة.
لطمتان تنتظران تركيا
25 يناير/كانون الثاني (2014م)
لا شك أنه لا يمكن التهوين من الخسائر التي تعرضت لها تركيا في الآونة الأخيرة بسبب أخطائها الجسيمة في سياستها الخارجية بتبريرات من قبيل “إننا في حرب مع القوى العالمية من أجل استقلال الوطن” أو “إننا لن نخضع لمطالب القوى العالمية وسياستنا الخارجية مبنية على هذا الأساس”، بل إن هناك من المغالين من يقول: لقد انتهج “أربكان (Erbakan)” كذلك سياسة خارجية اعتمدت على فكرة الاستقلالية، هل أخطأ هو الآخر؟ ويريدون بمثل هذه الأقوال تضييق الخناق على منتقديهم في سياستهم الخارجية، ولكن في حقيقة الأمر إن مثل هذه الأقوال لا تنفع صاحبها إلا في الميادين من أجل تهييج الجماهير وكسب مؤيدين للسياسة المحلية، وهنا أود أن أصحح بعض الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء بشكل موجز:
أولًا: هذه الحكومة لم تجرؤ منذ أن وصلت إلى سدة الحكم على إخبار المنظومة التي تحالفت معها أقصد بذلك حلف “الناتو”، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، أنها سوف تتبع “سياسة مستقلة” في المنطقة بمفردها، بل انطلقت منذ البداية بوعود مثل “تأمين أرضية أكثر استقرارًا للغرب في الشرق الأوسط، ونقل الاتحاد الأوروبي إلى العالم الإسلامي والجمهوريات التركية من خلال الانضمام إلى الاتحاد، وإقرار نظام جديد في الشرق الأوسط بناء على الرؤية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن أراد أن يوثّق لما نقوله يمكنه أن يرجع إلى الأرشيفات، فسيجد العديد من الوثائق والمعطيات التي تؤكد ما نقوله
ثانيًا: إن المشروع الذي حلم به الراحل “أربكان” هو الاتحاد الإسلامي الذي يتمثل في “مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية”، لكنه لم يتورط في أي وعود أو تعهدات مع الغرب، ولم ينطلق في مساره معتمدًا على أموال الدول الغربية ودعمهم الدبلوماسي والسياسي، ولأنه لم يكن يملك القوة الكافية والدعم لتحقيق أحلامه، فقد أقصوه عن كرسي الحكم، ويجدر التنبيه إلى أنه لا يوجد أدنى تشابه في السياسة الخارجية التي اتبعها “أربكان” وتلك التي يتبعها حزب العدالة والتنمية.
ثالثًا: وقد توهَّم حزبُ العدالة والتنمية أنه يستطيع أن يبسط سيادته في المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا بمفرده، متجاهلًا حلفاءه الإستراتيجيين والقوى العالمية الكبرى التي أعلنت دعمه ووقوفها معه منذ وصوله إلى سدة الحكم، ولكن هذه الخطوة التي لم تستند في الأساس إلى استراتيجية متينة سرعان ما فشلت فشلًا ذريعًا، وفي هذه الحالة كان أمام هذا الحزب خياران لا ثالث لهما؛ إما أن يعلن رفض دعم القوى العالمية منذ البداية كما فعل الزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” وهذا ما لم يفعله وإما أن يتحمل بنفسه عاقبة نقضه من جانب واحد الاتفاق الذي أبرمه مع القوى العالمية التي ناصرته سياسيًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا ولوجستيًّا منذ لحظة وصوله إلى سدة الحكم، وليس من حقكم -وأنتم تواجهون تبعات أوزاركم- أن تزعزعوا استقرار البلد كله، وتغتالوا هدوءه وسكينته، وتُحمّلوا فاتورة آثامكم حركات بريئة وجماعات نقية.. وإن ذلك لعمري ظلم عظيم.
رابعًا: إن حزب العدالة والتنمية لا يملك كفاءة انتهاج “سياسة خارجية مستقلة”، كما لا يملك تصورًا معرفيَّا أو رؤية سياسية أو أفقًا اجتماعيَّا من أجل ذلك، ويلخّص الكاتب الصحفي “جنكيز أكتار (CengizAktar)” هذه الحالة بعبارة وجيزة كتبها في إحدى مقالاته التي نشرت في صحيفة “طرف (Taraf)” التركية بتاريخ 17 يناير (2014م) حيث يقول:
“إن الحكومة لم تتبع سياسة مغايرة للغرب، بل رغبت في تأسيس إمارة إقليمية واستخدمت في هذا السبيل الأساليب الغربية المألوفة، أضف إلى ذلك أن كافة المقوّمات التي شكلت أساس قوتها مثل فلسفة الرأسمالية، والإنشاءات، والتنمية، والاستهلاك، والقومية.. نجد أن جذورها غربية سواء من الناحية المادية أو المعنوية، كما أن نموذج التنمية الذي سعت الحكومة إلى تحقيقه، ما هو إلا نسخة رديئة قد تخلى عنها الغرب منذ وقت طويل، فلو نجحت تركيا في تحقيق تميز بالفعل، لاستفادت هي أولًا، ولاستفاد منها الآخرون حتمًا، ولكن أنى لها ذلك؟!”
خامسًا: أليس من الجدير بكم -حين قلتم للعالم إننا نحن الدولة الوحيدة التي بإمكانها تأسيس وحماية النظام في منطقة الشرق الأوسط، وإعلانكم للعالم بأسره أننا سنستعيد جميع أراضي الدولة العثمانية التي تبلغ مساحتها حوالي 20 مليون كم مربع وذلك في عام (1911م)- أن تعدوا العدة لمواجهة ما يقرب من 50 دولة كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية المذكورة أعلاه بالإضافة إلى الدول العظمى ذات التأثير والكلمة النافذة في المنطقة كالولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ومن الجدير بالذكر هنا أيضًا أنه يوجد على الأراضي التركية -التي هي عضو في حلف “الناتو”- 28 قاعدة عسكرية تابعة لحلف “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يؤكد أن الدولة التركية خاضعة للرقابة العسكرية الدولية، إذن فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا والذي نريد أن نوجهه إلى هؤلاء: بأيّ قوة ستستعيدون الأراضي التي ضاعت منكم فتؤسسون دولة عثمانية جديدة ما دامت تركيا -لا نريد أن نصف هذه الحالة بالاحتلال العسكري- تحت رقابة مشددة من قبل الدول العظمى، كانت الحكمة تقتضي التحرك الأخوي المتدرج مع الدول الشقيقة في المنطقة لتقليص دور القوى الدولية في المنطقة مع الوقت، لكنكم تسرعتم فسعيتم إلى بسط هيمنة جديدة على دول المنطقة، مما أدى إلى ابتعاد تلك الدول عنا كليًّا.
وبينما كان الحزب الحاكم يعيش حالة من السكر بشعاراته مثل “الكل في انتظار زعامة تركيا” إذ عمت الفوضى والدمار منطقة الشرق الأوسط كما هي الحال في سورية التي سقطت في بحر من الدماء.
هذا وإننا سوف نتعرض للطمتين كبيرتين.. الأولى تلك التي ستنزل علينا من قبل القوى العالمية، والثانية لطمة إلهية تحيق بنا بسبب أنّات الأبرياء في سورية.. سورية التي أسهمنا في مأساتها الحالية بسبب سياستنا الخاطئة تجاه قضيتها.. وعلينا أن نخاف من اللطمة الثانية!..
هل العدالة والتنمية تُمثل الفئة المتدينة من المجتمع التركي؟
7 أغسطس/آب (2014م)
يقول السيد “عمر لَكاسيز (ÖmerLekesiz)” الكاتب الصحفي في جريدة “يني شفق (YeniŞafak)” التركية في مقاله الذي نشر في 17 يوليو/تموز (2014م)، إن أمثال “علي بُولاج” عندما أيقنوا في هذه المرحلة أنهم سيفقدون مكانتهم بدؤوا يهاجمون السيد “أردوغان” حقدًا وعداوة” كما أكد “لَكاسيز” في نهاية حديثه في المقال أن مصير “أردوغان” يرتبط إلى حد كبير بمصير الفئة المتدينة والمحافظة في تركيا.
وفي البداية لا بد أن أقول إنني شعرت ببالغ الأسى والحزن حيال هذه الكلمات التي لا تليق بالسيد “لَكاسيز”، كما أن هذه العبارات التي لا تستند إلى فكر وتحليل دقيق، فبدهي أن التحامل على الأشخاص في تفسير قضية عظيمة كهذه يبعدنا عن الحقيقة الجلية.
وأرى أنه من الخطأ ربط مصير المتدينين والمحافظين في تركيا بمصير السيد “أردوغان”، إذ إن التدين يستند في الأساس إلى الدين الإسلامي، وتذكروا معي هنا هذه الواقعة؛ عندما توفي النبي خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ ليمنعهم من الحديث عن وفاة النبي فقال أبو بكر : “فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ” ، وعلى هذا فإن المتدينين سيواصلون مكانتهم وقوتهم بين المجتمع التركي ما داموا يتمسكون بالإسلام ومبادئه السامية، ألا ترون أن الحركة “النورية” في تركيا ما زالت تواصل نشاطها في مجال خدمة الإسلام على الرغم من وفاة مؤسسها العالم الكبير الأستاذ “بديع الزمان سعيد النورسي” قبل عدة سنوات؟
وقلنا في بداية حديثنا إنه من الخطأ ربط مصير المتدينين بمصير السيد “أردوغان” فالآن هناك سؤال مهم وهو:
هل حزب العدالة والتنمية حزب يمثل الفئة المتدينة والمحافظة من الشعب التركي؟
والرد على هذا السؤال يكمن في النقاط التالية:
الأولى: إن هذا الحزب عند بداية تأسيسه قد أعلن للمجتمع التركي والعالم بأسره أنه لا يمثل الفئات المتدينة من الشعب ولا يتبنى الشريعة الإسلامية في سياساته.
الثانية: إن الهوية السياسية التي يتبناها هذا الحزب والتي تتلخص في “الديموقراطية المحافظة” وبرنامجه السياسي على الصعيد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي ورؤيته المدنية والمفهوم الديني بالنسبة له وتطبيقه في الحياة العامة وكذلك السياسات التي ينتهجها على الصعيدين الإقليمي والدولي خلال فترة توليه سلطة البلاد منذ عام (2002م) إلى الآن يظهر أن هذا الحزب لا يعتمد على الشريعة الإسلامية الغراء ولا يمثل الفئة المتدينة من المجتمع التركي، بل إن هذا الحزب بصبغته الديموقراطية المحافظة خليط من عدة تيارات منها الليبرالية والديموقراطية الاجتماعية والقومية ولا يمت إلى الفكر الإسلامي بصلة.
وعلى الرغم من أنني أوجه انتقادات إلى هذا الحزب إلا أنني لا أكن أي عداء له أو لمؤسسه “أردوغان”، وقد لقيت في هذه الظروف التي تمر بها تركيا تهديدات بزجِّي في السجن من قبل بعض مؤيدي هذا الحزب ولكني لن أتخلى عن موقفي هذا ولن أدخل في نزاع شخصي مع زعماء هذا الحزب أو مؤيديه، كما أنني على استعداد تام للدخول في السجن معتبرًا مثل هذه المعاناة بأنها كفارة لذنوبي ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقول كما قال الإمام ابن تيمية: “ماذا يفعل بي أعدائي إن إيماني في قلبي وقلبي بيد ربي، إن سجنتموني فسجني خلوة، وإن نفيتموني فنفيي سياحة، وإن قتلتموني فقتلي شهادة”.
وعودة إلى حديث “لَكاسيز” فإن انتقاداتي للحزب الحاكم بسبب رؤاه السياسية، وهويته، وأعماله؛ تقوم على ما يلي:
أولًا: إنني أوجه انتقاداتي إلى الحزب الحاكم في تركيا منذ تأسيسه ولم أبدأ بهذه الانتقادات منذ فترة قصيرة كبعض الحركات الإسلامية أو الأحزاب السياسية.
ثانيًا: وعلى الرغم من انتقاداتي للحزب الحاكم إلا أنني أؤيده في حالة قيامه بأعمال تصب في المصلحة العامة وتوسيع نطاق الحريات والمضي قدمًا نحو بناء دولة قائمة على القانون، وبالفعل لقد قمت بمساندته حينما ناقشت المحكمة الدستورية العليا دعوى حل الحزب في عام (2008م)، وإذا تكرر رفع هذه الدعوى في الوقت الحالي فلن يتغير موقفي، كما أنني سأقف بجانب السيد “أردوغان” في حالة تعرضه لأي اعتداء غير قانوني، وأؤمن كذلك بأن العقاب الأمثل للسياسيين لا يكون إلا من خلال صناديق الإقتراع.
ولا بد أن أقول إنني بسبب هويتي المحافظة والمتدينة أوجه إنتقاداتي إلى الحزب الحاكم من الجانب الإسلامي، فانتقاداتي هذه تختلف تمامًا عن الانتقادات اليسارية والقومية والليبرالية الاجتماعية، كما أنني لا أوجه هذه الانتقادات باسم أي حزب من الأحزاب السياسية أو الحركات الإسلامية في تركيا.
لقد ذكرت في إحدى مقالاتي التي نشرت في جريدة “زمان” التركية أنه لا يجوز وصف “العدالة والتنمية” بأنه حزب إسلامي وذلك أن برنامجه السياسي وإجراءاته تتنافى مع المبادئ الإسلامية، ولذلك لا يجوز أن نقول إن هذا الحزب يمثل الفئات المتدينة من الشعب التركي وهو امتداد لحزب “الرفاه” الذي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل “أربكان”.
وفي هذا المقام سنتحدث حول هذا الموضوع بشكل من التفصيل وسأوجه انتقاداتي إلى هذا الحزب من الناحية الإسلامية، وبالطبع فإن هذه الانتقادات ستختلف تمامًا عن نوعية الانتقادات التي وجهت إلى الأحزاب السياسية الأخرى التي تتبنى التيارات اليمينية أو اليسارية أو القومية أو الليبرالية.
وما أفهمه أنا من السياسة الإسلامية هو نظرية تحقيق مقاصد السياسة الشرعية، وإن المصطلح الأساسي هنا هو “الشرع”، وبناءً عليه فما يراد تحقيقه هو مقاصد الشريعة كما ذكر الغزالي والشاطبي وغيرهما من العلماء الكبار في هذا المجال، وهذه المقاصد هي خمسة: حماية النفس والدين والمال والعقل والنسل، وإذا ما نظرنا إلى المقاصد الأساسية للأحكام الإسلامية كافة لوجدنا أنها وضعت لتحقيق هذه المقاصد الأساسية الخمسة في حياة الإنسان والعلاقات الاجتماعية كما جاءت بها الشريعة المنزلة.
أما السياسة الشرعية فترغب في تحقيق المقاصد الخمسة المذكورة من خلال السياسة، ومعنى السياسة على أوسع التعريفات هو إدارة مجتمع وتسيير شؤونه بالعلم والفن والمهارة بطريقة رسمية أو مدنية لتحقيق غاية مشروعة، والسياسة بمعناها هذا تشمل الطرق والأساليب المتّبعة وتنظيم العلاقة مع السلطة، كما أن السياسة بمعناها هذا تعد من “نهج النبوة” أي الطرق والأساليب التي يتبعها الأنبياء والرسل.
وحتى تتمكن التيارات الإسلامية في تركيا من تحقيق المقاصد الخمسة الأساسية، يجب أن تلتزم بهذه المبادئ الخمسة وهي: الحرية، الأخلاق، القانون، العدالة، الاتحاد، وفي السطور التالية سنحاول الفهم هل العدالة والتنمية قد حققت هذه المقاصد أم لا
أولًا: الحرية؛ إن هناك اختلافًا بارزًا بين مفهوم الحرية لدى التيارات الإسلامية في تركيا وبين مفهوم الحرية الذي تتبناه التيارات الليبرالية، فأنصار التيارات الإسلامية في تركيا بينما يقرون بحرية الدين أو المعتقد والحرية الفكرية والسياسية، وحرية التعبير عن الرأي؛ في حين أنهم لا يسمحون بتحول حرية الحياة الاقتصادية إلى سوق همجية وحشية يسعى كل واحد للحصول على الأموال بطرق غير شرعية ووسائل غير أخلاقية، فأنا عندما أدرس أي حركة سياسية في تركيا أحاول البحث عن سؤال مفاده: مدى احترام هذه الحركة السياسية لحريات التعبير والرأي، وإذا وجهنا السؤال نفسه إلى حزب العدالة والتنمية نجد أنه منح الحرية للنفس الأمَّارة الموجودة عند أفراد المجتمع، في حين أنه قام بالحد من الحريات الفكرية والسياسية، وسلَّم الدولة مجددًا للكيانات العميقة في الدولة.
ثانيًا: الأخلاق؛ ما أفهمه من الأخلاق هو توجيه سلوكنا وتصرفاتنا وفق المعايير والقوانين السارية في النظام الكوني والفطري، والالتزام بالتقوى التي تشتمل على الانسجام الفكري والروحي، والاستقامة، والعطاء، والكرم، والجرأة على قول الحق، والتزام العفة أمام الشهوات والابتعاد عن المحرمات ومراعاة الحدود والتواضع والشعور بالمسؤولية والصداقة، ويمكن أن نلخص كل هذه المفاهيم الحسنة بكلمة واحدة وهي “التقوى”، ولا شك أن الإنسان الذي لم يلتزم بتقوى الله تعالى لا يهديه القرآن الكريم ونجد ذلك في مستهل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، هذا وهناك انتقادات يمكن لأي مواطن تركي أن يوجهها إلى السلطة الحاكمة انطلاقًا من هذه المعايير الأخلاقية.
ثالثًا: القانون؛ وأما القانون فهو التسليم بوجود القوانين التي تفوق الأشخاص والمسؤولين وحتى واضعي القوانين التشريعية، وهذا ما يُسمى اليوم بـ”مبدأ سيادة القانون”، ويجب احترام هذا المبدأ، بل إضافة إلى ذلك بجب تشريع قوانين موافقة للحقوق العامة والعدالة الاجتماعية وتنفيذ هذه القوانين دون تمييز بين أفراد المجتمع، ولا يمكن الادعاء بإقامة دولة القانون في بلد ما إذا كان الإداريون فيه يستغلون سلطتهم لوضع قوانين وفق هواهم، ويديرون المجلس التشريعي أو البرلماني كما يحلو لهم، ويتهربون من محاكمة عادلة عند تورطهم في الجرائم.
رابعًا: العدالة؛ وهي أن يحصل كل ذي حق على حقه، وثمة نوعان للعدالة: أحدهما العدالة القانونية فيمكن تحقيقها من خلال اتخاذ النظام القضائي لقرارات فاعلة وسريعة وصحيحة، والآخر هو تقسيم الموارد الطبيعية والوظيفية والمادية بشكل عادل بين أفراد المجتمع، وأما تركيا اليوم لا نجد فيها شيئًا من أحد هذين النوعين من العدالة، إذ هناك ملايين المتضررين من النظام السياسي، وثمة هوة في تقسيم الدخل القومي، وتوزيع موارد الدولة على مؤيدي الحكومة وحدهم، والتباهي بإنشاء القصور الفاخرة، والإسراف على نطاق واسع، واضطهاد الطبقة الوسطى من المجتمع.
خامسًا: الاتحاد؛ إن ما أقصده من الاتحاد هو السياسة التي تهدف إلى الاتحاد بين العالم الإسلامي، وإنقاذ السياسة العالمية بتعاليم “السلام الإسلامي” سعيًا لتحقيق السلام والمصالحة، ولكن ما رأيناه في السياسات المبنية على مشروع “العثمانيين الجدد” والتي انتهجها حزب العدالة والتنمية على الصعيد الإقليمي تسببت في توتر علاقاتها مع غالبية دول منطقة الشرق الأوسط.
ومن معاني الاتحاد أيضًا؛ السلام الاجتماعي الداخلي في ظل العدالة والمشاركة وتبادل الحوار والتعاون، ولكن مع الأسف الشديد فإن المجتمع التركي في الوقت الراهن تم استقطابه بشكل تام.
وعودة إلى مسألة التدين في الحياة السياسية للحزب الحاكم فإن هناك جهات محلية ودولية توجه انتقاداتها إلى الحزب الحاكم في تركيا من زاوية الإسلام السياسي، إذ إن هذه الجهات تعتقد أن حزب العدالة والتنمية يتبنى فكرة الإسلام السياسي، فالحقيقة أن هناك وجهة نظر شائعة بين أطراف المعارضة في تركيا أن الإسلام السياسي هو عبارة عن عنف وتطرف وإرهاب، وهكذا يتعرض الحزب لانتقادات شديدة بوصفه الممثل للإسلام السياسي في تركيا، وعلى الجانب الآخر، تزعم بعض القوى الداخلية أن العدالة والتنمية آل بتركيا إلى هذه الوضعية بسبب ممارسته للإسلام السياسي، وأن الإسلام السياسي أفلس في جميع الأمور بدءًا من شيوع النزعات الاستبدادية وصولًا إلى الفشل الذريع على صعيد السياسة الخارجية، فيما يقول البعض الآخر إن العدالة والتنمية قد قضى على الإسلام السياسي نفسه.
وثمة قضايا لطالما كنتُ أشير إليها في كل نقاش يدور حول الإسلام السياسي، يمكن ذكرها على النحو الآتي:
في البداية لا بد أن أؤكد على أن حزب العدالة والتنمية دخل المسرح السياسي بعدما أعلن تخليه عن الحركة الإسلامية السياسية التي كان يقودها رئيس الوزراء الراحل نجم الدين “أربكان” المقرب من السياسة الإسلاميّة وتنصل منها، وأنه ليس حزبًا إسلاميًّا، ولن ينتهج المرجعية الدينية في السياسات التي سيتبعها، مؤكدًا أنه يتبنى هويّة محافظة وديمقراطيّة، ومن أجل الحكم على أدبيات حزب ما، يلزم بالضرورة النظر إلى ثلاث نقاط، أولاها: الهوية السياسية والاسم الذي يتبناه الحزب، وثانيتها؛ الفلسفة السياسية أو المبدأ الذي يتخذه مرجعًا له، وآخرها؛ السياسات التي ينتهجها.
وانطلاقًا من هذه النقاط، يتضح لنا أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميًّا ولا يتخذ الإسلام مرجعيّة في سياساته، ومن ثمّ فإن أولئك الذين يتعاطفون مع حزب العدالة والتنمية على أنه حزب اسلامي يقعون في خطإ جسيم، إذ الجميع يعرف أن حزب العدالة والتنمية الذي يدير البلاد منذ 13 عامًا؛ يتعرض لانتقادات شديدة منذ تأسيسه من قبل بعض فئات المجتمع التركي، أبرزها؛ العلمانيون ذوو الميول الغربيّة والليبراليون واليساريون والقوميون وبعض المنتسبين لجماعة النور والحركات الإسلاميّة، وهذه المجموعات تعارض الإسلام السياسي منذ أمد بعيد في تركيا.
وفي واقع الأمر فإن انتقادات كل مجموعة من تلك المجموعات تستند إلى أسباب ودواع مختلفة؛ إذ ترى مجموعة العلمانيين ذات الميول الغربية أن العدالة والتنمية ينسلخ بتركيا عن الغرب وتقاليده، ويدمر مرحلة مفاوضات الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، فيما يرى الليبراليون أن الحزب لا يهتم بالقدر الكافي باقتصاد السوق أو ما يسمى بالاقتصاد الرأسمالي إلى جانب تدهور علاقاته مع الغرب، فيما يزعم اليساريون أن الحزب يستند في الأساس إلى الدين ويحد جميع الحريات التي تتنافى مع هذا الدين من التوجه الجنسي وغيرها على حد تعبيرهم، في حين يرى القوميون الأتراك أن الحزب يسعى لتقريب تركيا إلى إيران والدول العربية، بينما يرى الكماليون الأصوليون أن العدالة والتنمية يضر بالتعاليم التي جاء بها “أتاتورك”، وأنه يخدم مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يتم التخطيط له في منطقة الشرق الأوسط، أما بعض منتسبي جماعة النور فيذهبون إلى أنه ينتهج “الإسلام السياسي” في جميع سياساته، وما إلى ذلك.
إنني أتفق في الرأي مع الكاتب الصحفي في جريدة “زمان” التركية الأستاذ الدكتور “ممتاز أر تُركونه (Mümtaz’erTürköne)”، حول مسألة أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبًا إسلاميًّا كما يزعم البعض في تركيا بل على العكس من ذلك تمامًا أنه يضر بسمعة الإسلام، ويرى السيد “تُركونه” أن الحزب قضى على مفهوم الإسلام السياسي، وأما أنا فأرى أن هذا الحزب عرقل مسيرة الإسلام السياسي في تركيا كما تسبب في قطع الطريق أمام الجيل الثالث من الإسلاميين في البلاد.
إن حزب العدالة والتنمية ليس هو في صلب قضية الإسلام السياسي؛ بل يمكن توصيفه على أنه “محطة” مر عليها الإسلام السياسي في تاريخه السياسي الحديث، وهو بمثابة “فاصلة” في مسيرته، فالحزب بذاته، وساسة الحزب، ومناصروه يمارسون عملهم السياسي اليوم، إلا أنهم زائلون ولن يدوم بقاؤهم، لكن الدين الإسلامي سيدوم حتى قيام الساعة، صحيح أن تركيا اليوم لا يمكن لها أن تخرج من الفوضى والاضطرابات التي تعصف بها في الوقت الراهن باللجوء والفرار إلى عطف وشفقة الغرب والمبادئ السياسية والإدارية التي ولدت ونشأت من تاريخه، ذلك أن القاسم المشترك لهذا البلد هو التمسك بمبادئ الإسلام.
وفي النهاية أود أن أؤكد أن حزب العدالة والتنمية لديه أخطاء تحجمه وتكبله، وهذه الأخطاء على درجة كبيرة من الأهمية من ناحية التعرف عليها، ولكن الأهم من ذلك هو وضع الحزب تحت مجهر الانتقادات العميقة النابعة من حسن نية، فنحن مضطرون إلى الوقوف على أسباب هذه الأخطاء وسبر أغوارها دون الانسياق إلى المجادلات والمهاترات الراهنة، وهذا ما سننوه به لاحقًا إن شاء الله…
“العدالة والتنمية” وضرورة محاسبة النفس
11 يونيو/حزيران (2015م)
لا شك أن محاسبة النفس تعد من أهم المفاهيم التي جاء بها الإسلام، فالإنسان الذي يحاسب نفسه يبحث دائمًا عن أوجه القصور والأخطاء في أقواله وأفعاله، صحيح أن هناك عوامل وقوى خارجية تلعب دورًا في وقوع الإنسان في الأخطاء ولكن المؤمن الحقيقي هو من ينسب هذا الخطأ إلى نفسه دون أن يلتفت إلى عوامل أخرى.
من المعلوم أن حزب العدالة والتنمية تعرض لإخفاق كبير في الانتخابات التي أجريت مؤخرًا في 7 يونيو/حزيران (2015م)، ولكن إذا نظرنا إلى نتائح الانتخابات من الناحية السياسية فإننا نجد أن حزب العدالة والتنمية ما زال يحظى بتأييد كبير من الشعب مما جعله يلعب دورًا محوريًّا في تشكيل حكومة جديدة في البلاد، ولا أعني بذلك أن باقي الأحزاب الثلاثة لن تستطيع أن تتوافق فيما بينها لتشكيل حكومة جديدة في البلاد.
ولا شك أن نتائج الانتخابات التي أجريت في تركيا مؤخرًا كانت بمثابة بطاقة صفراء وجهها الشعب التركي إلى الحزب الحاكم؛ وذلك بسبب سياسته الخاطئة التي انتهجها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وفي حالة استمرار ارتكاب الحزب لهذه الأخطاء فإن الشعب التركي
لن يتردد في الانتخابات المقبلة أن يوجه إليه بطاقة حمراء تطرده من الساحة السياسية.
إذن فالسؤال هنا؛ ما الذي يجب أن يفعله حزب العدالة والتنمية أمام هذا الوضع؟ أولًا وقبل كل شيء يجب على الحزب الحاكم أن يستخرج الدروس والعبر من نتائج الانتخابات التي أجريت مؤخرًا في تركيا بشكل جاد، ويستمع إلى الانتقادات الموجهة إليه برحابة صدر، وقد تحدثت في موضوع آخر عن عشرة بنود أدت إلى إخفاق الحزب الحاكم في الإنتخابات؛ ولذا أرى أنه لا داعي هنا لذكرها مجددًا، ولكن لا بد أن أقول هنا إن المشاكل التي يعاني منها الحزب لها أبعاد عميقة يجب تحديدها ودراستها بشكل مُوَسَّع حتى يتسنى للحزب أن يضع حلولًا جذريةً لتلك المشاكل، وفي الوقت الحالي ليس هناك في الحزب من يستطيع أن يُقَيِّم هذا الوضع بشكل صحيح سوى بضعة أشخاص فقط، حيث يبدو أن البؤر العميقة قد ضيقت الخناق على قيادات الحزب الحاكم وخاصة السيد رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان”، وفي هذا الصدد نود أن نذكر ثلاث طرق لتضليل وإغواء أي زعيم أو رئيس.
أولًا: إيهامه بأن كل ما يقوم به صحيح ويدل على الحكمة.
ثانيًا: تشجيعه على الأعمال والأدوار التي تفوق أداءه وقدرته.
ثالثًا: إخافته باستمرار، وتصوير -حتى أصدقاءه الحقيقيين- على أنهم أعداء وخونة، والسيد “أردوغان” الذي أتابع توجهه السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي في الآونة الأخيرة بكل أسف يخضع لإحدى عمليات التشويه الفكري التي ذكرناها آنفًا وهو بذلك ينساق إلى هاوية مجهولة، ورأيي الشخصي أن هذه العمليات التي تقودها القوى الخارجية لا تستهدف شخصية “أردوغان” بعينه بل تستهدف كذلك إلحاق الضرر بالمجتمع التركي بأكمله بما في ذلك الحركات الإسلامية والحركات الدينية التي تقدم خدمات جليلة للمجتمع التركي، ولا شك أن انتهاج تركيا في الآونة الأخيرة سياسة تحمل في طياتها آمال “الاتحاد والترقي” والتي تنتهج المغامرة في السياسة الخارجية والتي تهدف إلى أن تتركز سياسات المنطقة كلها في يدها، قد أسهمت في انهيار سورية وكذلك ألحقت الأضرار الجسيمة بالقضية الفلسطينية.
وقد عبر الجنرال “تشفيك بير (ÇevikBir)” في تركيا عما وصلنا إليه الآن في السياسة الداخلية بقوله: “إن القرارات التي كانت تُتخذ في مرحلة انقلاب ما بعد الحداثة “28 فبراير” يتخذها الآن مجلس الأمن القومي في ظل حكومة العدالة والتنمية”.
أرى أن الحزب الحاكم في تركيا الذي كان ينادي بتأسيس “تركيا الحديثة” القائمة على مراعاة الدستور والقانون وتطبيق العدل والمساواة بين جميع طوائف الشعب التركي بغض النظر عن العرق والتوجهات السياسية والمذهبية إلا أنه بسبب أخطائه الجسيمة في سياسته الداخلية التي تتبنى الاستقطاب والتفرقة العنصرية يعيد البلاد إلى تركيا القديمة، ومن أجل دراسة هذه المسألة بشكل أوسع يمكننا أن نذكر هنا أهم خصائص تركيا القديمة حتى يتسنى لنا معرفة القواسم المشتركة بين تركيا القديمة وتركيا الحديثة، ففي تركيا القديمة كان هناك: مجلس الأمن القومي وأحكامه وقراراته التي تم تسجيلها ضمن ما يسمى بالكتاب الأحمر وهو الدستور السري للدولة، وكان يتم طرد بعض القيادات العسكرية بقرار من مجلس الشورى العسكري بتهمة “الرجعية” وكانت هناك العتبة الانتخابية (10%)، كما كان الصحفيون والجرائد يتعرضون للمضايقات من قبل الحزب الحاكم، وكانت الجمعيات أو المؤسسات المعارضة تخضع لتفتيش كبير بهدف التضييق عليها، وكانت بعض الصحف يُمنع توزيعها في طائرات الخطوط الجوية التركية، وكان هناك إسراف وهدر لموارد الدولة ورشوة وفساد على نطاق واسع، وكان هناك ظلم في توزيع الدخل، وكان الفقراء بالملايين، وكانت العائلة مفككة، كما كانت الحياة الأخلاقية في تدهور…إلخ. ولا شك أن كل هذه الممارسات تطبق بالحرفية في هذه الفترة التي يسميها الحزب الحاكم بـ”تركيا الحديثة”.
وقد حاز حزب العدالة والتنمية المركز الأول في الانتخابات التي أجريت في تركيا مؤخرًا في السابع من يونيو/حزيران (2015م)، وعندما ننظر إلى الخريطة الانتخابية نجد أن هذا الحزب هو الحزب الوحيد الذي قد أخذ الأصوات من جميع المناطق سواء غرب تركيا أو شرقها وشمالها وجنوبها، إلا أن هذه النتائج أثبت لنا كذلك أن الحزب الحاكم بدأ يفقد مكانته المرموقة التي كان يتمتع بها في الماضي حيث حصل على 41% من مجموع أصوات الناخبين في هذه الانتخابات فيما حصل في الانتخابات البرلمانية التي أجريت قبل خمس سنوات على 50% وهذا يعني أن الحزب قد خسر خلال هذه المدة 9% من أصوات الناخبين، فالحزب خلال الفترة الأخيرة توقفت لديه عجلة النمو والتطور ويبني سياسته على الرعب والتخويف والتكبر والديكتاتورية وانتهاك القانون ومعاقبة معارضيه، كما لا يتوانى من أجل استمرارية سلطته والتورط في إجراءات قاسية -قد تخلت عنها الدول المتقدمة- ضد معارضيه، ويتبع كذلك في هذا السبيل أساليب الانتقام والبطش والتأديب والمعاقبة، وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بجبروت السلطة.
وقد كتبتُ في وقت سابق في إحدى مقالاتي التي نشرت في جريدة “زمان” التركية والتي تحمل عنوان “أربعة رجال مؤمنين” في إشارة إلى السيد “أردوغان” و”عبد الله جول” و”نعمان كورتولموش (NumanKurtulmuş)” وبولند أرنج (BülentArınç)”، والآن مع أنه خاب أملي بدرجة كبيرة في هذا الحزب ورجاله السياسيين البارزين إلا أنني لا أزال أؤمن بأن الحزب إذا خضع لعملية إصلاح وتجديد وإحياء بشكل جذري يمكن أن يعود إلى مساره الصحيح، وهناك عاملان يجب اتباعهما في هذه العملية: الأول هو الاستعانة بالإستعاذة في طرد الشياطين المُندسِّين داخل الحزب وأما العامل الثاني فهو محاسبة النفس بحساسية المؤمن المرهف الحس صاحب المسؤولية.
نقد ذاتي
30 ديسمبر/كانون الأول (2013م)
إن قرائي الكرام الذين يتابعون عمودي في جريدة “زمان” يعلمون جيدًّا أنني قد وقفت مع الحزب الحاكم في أوقات الأزمات التي مر بها في فترات معينة من تاريخه، وهؤلاء القراء يعلمون كذلك أنني أنتقد حزب العدالة والتنمية منذ تأسيسه بسبب مبادئه السياسية وبرنامجه ورؤيته الإقليمية.
وقد دونتُ انتقاداتي حول الحزب الحاكم في كتابي الذي سميته “سلطة الهجرة والمدينة، حزب العدالة والتنمية من حركة الرؤية الدينية إلى الديمقراطية المحافِظة” .
إن العنصر الأساسي في الانتقادات التي وجهتها إلى الحزب الحاكم في الكتاب الذي ذكرته آنفًا تدور حول الهوية الإسلامية الخاطئة التي تبناها الحزب الحاكم، وغايتي الوحيدة من هذه الانتقادات البناءة هي أن تسير تركيا على مسار إسلامي صحيح، ويمكن تلخيص هذه الانتقادات التي يحتويها الكتاب على ثلاثة نقاط أساسية وهي:
أولًا: حاول حزب العدالة والتنمية تبني فكرة “السلطة الحديثة”دون أن يخضعها لتحليل دقيق يتوافق مع رؤيته العامة، ومن المعلوم أن “السلطة الحديثة” تقتضي عدم المساواة والظلم والانحطاط الأخلاقي، وهي بمثابة مسطرة معوجة لن يستطيع أحدٌ أن يرسم بها خطًّا مستقيمًا، وعلى ذلك يمكن القول إن هذه الفكرة ستدفع الحزب الحاكم إلى الظلم وإثارة روح العداوة والبغضاء فيمن يأتي من بعدكم، ومما يزيد الطين بلة أن يتبنى هؤلاء هذه الفكرة بهويتهم الدينية المحافظة بعد إعلان تخليهم عن هوية الإسلامي السياسي وهذا لا شك سيتسبب في إلحاق الضرر بالإسلام عامة وفكرة الأسلمة خاصة.
ثانيًا: إن الحركات الإسلامية والطرق الصوفية والجمعيات الأهلية ذات الطابع الإسلامي في تركيا قد باشرت جميع أعمالها الخيرية من خلال ميزانيتها الخاصة ومواردها الذاتية عبر القرن العشرين الميلادي وذلك دون تلقي الدعم المالي من السلطات الحاكمة طوال هذه الفترة، وكانت مواردهم الأساسية تنحصر في الأموال التي جمعوها من الطبقة الوسطى من المجتمع وحتى الطبقة الفقيرة منه، هذا وقد كانت تقوم هذه الحركات بجمع أموال الزكاة والصدقات وجلود الأضاحي، وقد ساهمت هذه الحركات الإسلامية في تركيا في الحفاظ على هوية الإسلام من خلال فتح المؤسسات الوقفية والمدارس الخاصة، وأكثر ما كان يفتخر به المنتسبون إلى هذه الحركات أنهم لم يتلقوا أي دعم مادي من ميزانية الدولة خلال هذه الفترة، وما إن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سُدة الحكم حتى بدأ جزء من هذه الجمعيات الخيرية والمؤسسات الوقفية في الحصول على الدعم المادي من ميزانية الدولة، في حين إنه من المعلوم أن الدولة لا تنفق قرشًا واحدًا إلى أي جهة دون أن تأخذ في المقابل أضعافًا مضاعفة، وهذا مما يضر المال العام بما في ذلك الفقراء ذوو الحاجة من المجتمع، أضف إلى ذلك ما نراه اليوم من تشكيل صناديق خيرية بطرق غير مشروعة وذلك لإنشاء المساجد ومدارس الأئمة والخطباء، فإن هذا الوضع سيؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان هذه الجمعيات لهويتها المدنية وتصير رهينة ميزانية الدولة، مثلها في ذلك كمثل رجل تذوق طعامًا لذيذًا لا يستطيع أن يمنع نفسه عنه، كما أن هذه الحركات والجمعيات الأهلية كلما استفادت من ميزانية الدولة ستفقد هويتها “المدنية” وبعد مدة تصير خاضعة للدولة، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الوتيرة تجعل هذه المؤسسة تتسامح وتتغاضى عن الإجراءات التعسفية والتصرفات المخالفة للقوانين والفسادَ والرشوةَ والمظالم التي قد تنتهجها الدولة، وهذا يعني إعلان انتهاء المهمة الأصلية والصحيحة لهذه المؤسسات الدينية.
ثالثًا: لا شك إن حزب العدالة والتنمية لم يؤسس ليتخذ موقفًا معارضًا لسياسات حلفاء تركيا الغربيين وحلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي وخاصة طموحات الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ونحن نعلم جيدًا كيف أن الدول الغربية والقوى العالمية فَتحت أبوابَها على مصاريعها أمام السيد “رجب طيب أردوغان” أثناء تأسيس الحزب وبعد الانتخابات التي أجريت في عام (2002م)، كما نعلم أن أكثر اللوبيهات اليهودية تأثيرًا في الولايات المتحدة كرمته بـ”جائزة الشجاعة”، وهناك عدة وثائق تثبت أن حزب العدالة والتنمية قطع مع القوى العالمية عدة وعود منها انتهاج سياسة متوافقة مع السياسات الأمريكية الإقليمية والدولية ومساندة التطلعات الغربية في منطقة الشرق الأوسط وآسيا، ومَن يشكك في هذا الأمر يمكن له الرجوع إلى الأرشيفات التي تحتوي على معلومات قاطعة تؤكد ما نقوله.
وكان من المقرر أن يتبنى حزب العدالة والتنمية مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال الحيلولة دون انتشار التطرف في منطقة الشرق الأوسط، وقد أكدت في عدة مناسبات سواء في عمودي في جريدة “زمان” أو في مناسبات أخرى أن الحزب الحاكم لن يستطيع تحقيق تلك الوعود التي قطعها مع القوى العالمية، وقبول هذه الوعود في حد ذاته مسؤولية كبيرة على عاتق قادة الحزب، وأكدت كذلك في حال عدول الحزب عن تحقيق هذه المطالب سيكون مستهدفًا من قبل القوى العالمية التي هي بمثابة رب العمل بالنسبة لهم.
أعتقد أن طمع قادة الحزب في الحكم هو الذي دفعهم إلى السير على هذا الطريق دون أن يحللوا هذه الوتيرة تحليلًا دقيقًا، وهذا ما سيتسبب في إلحاق الضرر بهؤلاء الناس.
وهذا ما حدث بالفعل، فانتهاج تركيا سياسة التحدي لـ”رب العمل” منذ عام (2011م) جلبت لها المصائب بل للمنطقة بأسرها.
لماذا رفضتُ خدمة الحزب الحاكم؟
6 يوليو/تموز (2014م)
يَروي الكاتب الصحفي السيد “ممتاز أر تُوركونه” في مقال له في جريدة “زمان”؛ قصة واقعية سمعها من أحد الشخصيات المتضررة من الممارسات الأمنية ضد المتدينين في السبعينيات من القرن العشرين في تركيا، وإليكم هذه القصة كما ذكرها السيد ” توركونه”: “في السبعينيات من القرن العشرين وعندما ارتفعت وتيرة الضغط على المتدينين والملاحقة الأمنية ضدهم في تركيا كان هناك شخص يدرس في الجامعة اعتقلته الشرطة واقتادته إلى شعبة الجرائم السياسية دون أي سبب وخضع هذا الشخص لتحقيق مخيف من قبل شرطيين أحدهما يلعب دور شرطي طيب وآخر سيئ، وأخيرًا قال له شخص ثالث: نريد منك أن تعمل لصالحنا، ولكن هذا الشخص رفض أن يعمل لصالحهم إلا أنه علم فيما بعد أن هناك العديد من أصدقائه قبلوا هذا العرض وباشروا أعمال التجسس لصالح الدولة في تلك السنوات.
لأشبع نهم قرائي الكرام، فإن الشخص الذي تحدث عنه السيد ” ممتاز أر تُوركونه” في مقاله هو أنا، وفي السطور التالية سأحكي لكم تلك القصة بشيء من التفصيل ولكن في البداية أريد أن أقول إنني لعبت دورًا في النضال الإسلامي الذي ظهر في تركيا منذ نصف قرن من الزمان بصفتي مشاركًا وشاهد عيان للأحداث التي وقعت طيلة هذه الفترة، وأول تعرف لي على فكرة الإسلام السياسي كانت أثناء دراستي في ثانوية “الأئمة والخطباء”، ولم أنتَمِ في أي فترة من حياتي إلى التيار اليميني أو اليساري، ولم أقتنع كذلك بما سميت بـ”قومية أتاتورك”، وحاولت أن أفهم ما يسمى بـ”قومية الأناضول” والتي تدعو إلى توحيد صفوف جميع طوائف الأناضول تحت راية واحدة، ولكني أقف بعيدًا عن القومية التركية والكردية والفارسية بنفس القدر الذي أقف فيه بعيدًا عن القومية العربية، ورأيي الشخصي أن أخطر الأمراض التي يعاني منها أبناء العالم الإسلامي هو تمسكهم بالقومية والمذهبية والميل إلى الدنيا وملذاتها، وأرى كذلك أن تخلصه من هذه الأمراض يبدو صعبًا للغاية.
كما أنني لم أتعاطف قط مع الرأسمالية والفاشية والشيوعية، وأتمنى من الله أن يوفقني في أن أنهي حياتي على هذا النهج.
بدأت بكتاباتي في الصحف المحلية عندما كنتُ في الخامسة عشرة من العمر، وأعيش في خضم هذا المجال منذ نصف قرن من الزمان، ولم أشعر بمثل هذه الضغوط الشديدة التي عشتها في الفترة الأخيرة في أية مرحلة من حياتي، وفي الحقيقة إنني تعرضت في عدة مرات من حياتي إلى مساءلات قضائية وتحقيقات أمنية ولكن لم أكن أتوقع يومًا واحدًا أنه سيأتي يوم أتعرض فيه إلى ضغوط شديدة من قبل رفقاء دربي الذين وصلوا إلى سدة الحكم معلنين هويتهم الإسلامية، ومع أنني خسرت في مسيرة الأحداث هذه عددًا من أصدقائي الذين كنت أحسبهم رفاق دربي منذ 40 عامًا إلا أنني لا أشعر بالندم قط بسبب تمسكي بموقفي حيال نقد أخطاء السلطة الحاكمة، ولكن يساورني الحزن والأسى عندما أرى الإسلاميين وهم يتخلون عن كثير من المبادئ الإسلامية في سبيل الحفاظ على سلطة دنيوية زائلة، وأشعر كذلك ببالغ الحزن والأسى على من يساند هذه السلطة القائمة على الظلم.
وعودة إلى القصة التي ذكر جزء منها السيد “توركونه” في مقاله، عام (1972م) أو (1973م) استدعاني مدير المدرسة إلى مكتبه وطلب مني الذهاب إلى قسم شرطة “غَيْرَتْ تَبَه (Gayrettepe)” بإسطنبول لألتقي هناك مع أحد أفراد الأمن، وذهبت للقائه في اليوم التالي، وما أن رآني الشرطي حتى نزل بي بعنف إلى الطابق السفلي وأجلسني أمام طاولة ذات إنارة خافتة، وبدأ ثلاثة من رجال الأمن يحققون معي، وقد كان أحدهم فظا غليظًا جدًّا يلقي عليّ بالتهم جزافًا، وكان يتهمني بأنني شخص خطير جدًّا ويريد الزج بي في السجن، وأما الثاني فكان يلعب دور الشرطي الطيب ويقول لصديقه: “لا يا عزيزي إن “علي” شاب طيب وأنت مخطئ في حقه”، في حين أن ثالثًا يراقب سير التحقيق ويكتفي بإلقاء جمل قصيرة من حين لآخر، استمر التحقيق قرابة ساعتين، وفي النهاية قالوا لي لنفترض أن ما تقوله صحيح، لكن عليك أن تساعدنا، فقلت لهم كيف أساعدكم؟ فقالوا: “بأن تقدم لنا معلومات عن أتباع حركة النور الإسلامية بين فترة وأخرى”، ولكني رفضت هذا العرض، فقالوا: “إننا نعلم أن أباك لا يستطيع أن يرسل لك المال ونحن سنؤمن لك منحة دراسية، فلا تكن عنيدًا”، وعندئذ توجهت إلى الله بالدعاء في نفسي قائلًا: “يا رب إن هؤلاء يريدون استخدامي ضد المسلمين فامنحني القوة للصمود”، ثم استجمعت قواي وقلت لهم: “اعفوني من هذه المهمة فأنا لن أُقْدِم على ذلك”، فقال الشرطي الذي يلعب دور الطيب منهم مشيرًا إلى الشرطي الذي يلعب الدور السيئ: “أنت حر.. ولكنك ترى أنه يصر على الزج بك في السجن”، لكنني بقيت صامدًا، وفي النهاية أطلقوا سراحي، إلا أنني علمت لاحقًا أنهم استدعوا أشخاصًا آخرين واتفقوا معهم، وقد تولى هؤلاء الأشخاص مناصب مرموقة في الدولة فيما بعد.
وفي عام (1977م) حذرني أحد زملائي بأخذ الحيطة والحذر تجاه شخص كنت أحسبه من رفقاء دربي لأنه يعمل لصالح الجهات الأمنية للتجسس بين المتدينين، ولم أصدق هذا القول في بادئ الأمر ولكن تأكدت فيما بعد أنه فعلًا يعمل لصالح جهات معينة للتجسس، وقد ترقى هذا الشخص خلال فترة قصيرة إلى مناصب عالية في الدولة، وفي أحد الأيام طلب مني أحد أصدقائي أن أهتم بشاب يافع ليلقي تعليمًا جيدًّا ليكون مثقفًا ومحبًّا للوطن في المستقبل، ولكن هذا الشاب كذلك ترقى في مناصب في الدولة بفضل أعماله التجسسية بين المتدينين، وهو يعلن الآن صراحة أنه يعمل لصالح الاستخبارات التركية.
وقد سألت يومًا أحد أبرز الشخصيات الناشطة في حركات الإسلام السياسي في تركيا عن سبب وقوفه مع جهات الاستخبارات التركية فقال لي: عليك ألا تخاف منهم، إذا وثقت في نفسك وعملت لصالحهم ستستفيد منهم كما يستفيدون منك، وعندئذ تأكدت أن عناصر الدولة العميقة قد تسللت إلى بنية الإسلاميين ولمّا حان الوقت عُهِد لهم بالسلطة.
وفي النهاية أود أن أقول إنني أؤيد وجهة نظر “ممتاز أر تُوركونه” بشيء من التحفظ حيث يقول السيد “توركونه”:
“إن الدولة زادت قوة وانتصبت قامتها بواسطة الإسلاميين في وقت أصابها ضعف شديد”.
وهذا صحيح، لكن لا بد أن أضيف على حديثه أن ما يفعله هؤلاء الإسلاميون الذين يُمسكون بالسلطة في أيديهم في الوقت الحاضر لا يتماشى مع مبادئ الإسلام.
انتخابات الفرصة الأخيرة؟
29 أغسطس/آب (2015م)
لقد تحدثت في إحدى مقالاتي التي نشرت في جريدة “زمان” التركية حول عشرة أسباب أدت إلى هبوط التأييد الشعبي لحزب العدالة والتنمية مما جعله عقب الانتخابات البرلمانية التي أجريت مؤخرًا في تركيا في 7 يونيو/حزيران (2015م) عاجزًا عن تشكيل الحكومة منفردًا أو تشكيل حكومة ائتلافية، وفي نهاية تلك المقالة أشرت إلى أن حزب العدالة والتنمية ما زال يحتل المكانة الأولى من بين الأحزاب الأخرى في تركيا، إلا أنني أكدتُ أن نتائج الانتخابات التي أجريت في تركيا مؤخرًا كانت بمثابة بطاقة صفراء وجهها الشعب التركي إلى الحزب الحاكم وذلك بسبب سياسته الخاطئة التي انتهجها الحزب على الصعيد الداخلي والخارجي، وفي حالة مواصلة الحزب هذه الأخطاء فإن الشعب التركي لن يتردد في الانتخابات المقبلة أن يوجه إليه بطاقة حمراء تطرده من الساحة السياسية تمامًا، وأعربتُ كذلك عن أمنيتي في أن يستخلص المسؤولون الكبار من الحزب الدروس والعبر من تلك النتائج حتى لا تساق تركيا إلى حالة من الفوضى العارمة.
وقد تمنيت كثيرًا تشكيل حكومة تجمع تيارات سياسية مختلفة تعمل لصالح الوطن والمواطن وذلك عقب الانتخابات التي أجريت مؤخرًا في 7 يونو/حزيران عام (2015م) إلا أن الأحزاب التي استحقت الدخول إلى البرلمان التركي لم تتوصل إلى تشكيل حكومة خلال اللقاءات التي استمرت 45 يومًا وهو الوقت الذي حدده الدستور التركي، ولا يمكن لنا الآن تخمين ما الذي ستتمخض عنه الانتخابات المبكرة التي أعلن عنها والتي ستجرى في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني عام (2015م)، وهناك ثلاثة احتمالات تنتظر تركيا عقب الانتخابات المبكرة، إما أن يستولي حزب العدالة والتنمية على السلطة بمفرده، أو أن يتم تشكيل حكومة ائتلافية أو أن تجرى انتخابات برلمانية للمرة الثالثة على التوالي.
وعندما ننظر إلى الأوضاع في تركيا نجد أنها لا تبشر بخير حيث إن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتضخم يومًا بعد يوم، والنزاعات القائمة بين بعض أطراف المجتمع والعمليات العسكرية خارج حدود البلاد، وحالة الاستقطاب الشديد التي ظهرت بين بعض فئات المجتمع، والضغوط الأمريكية على الحكومة لقيام عمليات عسكرية ضد تنظيم “داعش” الإرهابي في سورية والعراق، وسوء الأوضاع الاقتصادية ما هي إلا جزء من الأوضاع السيئة التي تمر بها تركيا في الوقت الراهن، كما نجد أن أحزاب المعارضة تُحمل السيد “رجب طيب أردوغان” رئيس الجمهورية وحزب العدالة والتنمية المسؤولية الكاملة عن عدم تشكيل حكومة عقب الانتخابات البرلمانية التي أجريت مؤخرًا مما تسبب في حالة من الفوضى وعدم استقرار الأوضاع في البلاد.
ولا شك أن أهم مفاجأة ظهرت جراء الانتخابات البرلمانية التي أجريت مؤخرًا في تركيا هي حزب الشعوب الديمقراطية الذي حصل على 13% بالمائة من مجموع أصوات الناخبين مما أدى إلى دخوله البرلمان بثمانين مقعدًا وهي نسبة توازي عدد مقاعد حزب الحركة القومية، وهناك عاملان مهمان لعبا دورًا في حصول هذا الحزب الذي يمثل الأكراد في المقام الأول على هذه النسبة الكبيرة من مقاعد البرلمان وذلك لأول مرة في تاريخ الأحزاب الكردية، فالعامل الأول: انفصال الأكراد المتدينين المحافظين عن حزب العدالة والتنمية وذلك بعد انزعاجهم الشديد من إعلان المسؤولين الكبار في الحزب الحاكم انتهاء الهدنة التي توصل إليها كل من السلطة الحاكمة وحزب العمال الكردستاني، علمًا بأن الناخبين الأكراد في تركيا الذين يصل عددهم إلى ما يقرب من 15 مليونًا والذين يشكل المرتبة الثالثة من مجموع الناخبين بعد الفئة المتدينة والمحافظة والطبقة الفقيرة، فالناخبين الأكراد المتدينون الذين كانوا يؤيدون في جميع الانتخابات الماضية منذ عام (1969م) الأحزاب المحافظة وحزب “الرفاه” الذي كان يتزعمه الزعيم الإسلامي الراحل “نجم الدين أربكان” قد غيروا وجهتهم في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من يونيو/تشرين الأول (2015م)، ومن غير المحتمل أن يغيروا وجهتهم مرة أخرى في الانتخابات القادمة، والعامل الثاني: هو انتهاج حزب الشعوب القومية في انتخابات السابع من يونيو سياسة ترمي إلى استهداف السيد “أردوغان” بشكل غير مسبوق معلنًا أنه لن يسمح بأن يحقق “أردوغان” طموحاته في احتكار السلطة، وهذه الإستراتيجية قد أكسبته الحصول على تأييد من الناخبين الأتراك فضلًا عن الناخبين ذوي الأصول الكردية.
كما أن الأحزاب المعارضة إذا نجحت في الحصول على تأييد الجماهير بمقولة “إن “أردوغان” حال دون تشكيل الحكومة الائتلافية في البلاد عقب الانتخابات البرلمانية مؤخرًا خوفًا من عدم وصوله إلي طموحاته في احتكار السلطة” فسوف تتمكن من وضع حزب العدالة والتنمية في موقف صعب، بالإضافة إلى ذلك إذا استغلت المعارضة موقف الحكومة حيال الأزمة السورية والصراعات الداخلية فإنها ستنجحُ في تحجيمِ حزب العدالةِ وتضييقِ الخناق على آماله السياسية.
وعندما نحلل المشهد العام في تركيا نجد أن حزب العدالة والتنمية ما زال يحتل المركز الأول من بين الأحزاب السياسية الأخرى على الرغم من هبوطه النسبي الذي تعرض له في انتخابات 7 يونيو نظرًا لعدم تأييد الناخبين ذوي الأصول الكردية المقيمين في شرق وجنوب شرق تركيا، وأعتقد أن المشهد العام إن لم يتغير في الأول من نوفمبر عما كان عليه في السابع من يونيو واضطرت الدولة إلى إجراء انتخابات ثالثة فإن هذا من شأنه أن يجر البلاد إلى حالة من الفوضى لا تحمد عقباها.
ولكن هناك حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي أن السيد “أردوغان” لن يتخلى عن طموحاته في “النظام الرئاسي”، ورأيي الشخصي أنه يمكن قبول طموحات الرئيس حول مسألة “النظام الرئاسي” شريطة أن تُدرس هذه المسألة من قبل الشخصيات المعنية بشكل موسع ليتم تحديد صلاحيات الرئيس، ويجب ألا يتم طبخ نظام رئاسي طبخًا سريعًا والزج بتركيا في آتونه، ولا شك أن حزب العدالة والتنمية يمكن أن يدعم السيد “أردوغان” في هذه المسألة، وفي هذه النقطة لديّ اقتراحان حول هذه المسألة:
أولهما: إذا افترضنا أن حزب العدالة والتنمية قد فاز في الانتخابات المبكرة التي من المقرر إجراؤها في مطلع نوفمبر عام (2015م) واستطاع تشكيل حكومة موحدة، فإن ما يجب على الحزب في هذه الحالة الإسراع في التشاور حول مسألة “النظام الرئاسي” مع الأكاديمين المتخصصين في علوم السياسة وكبار المفكرين والمتابعة عن كثب للنقاشات الدائرة في وسائل الإعلام حول هذه المسألة وعرضها على الرأي العام ثم الانتقال إلى هذا النظام بعد إجراء تعديلات جذرية في الدستور الحالي، وإذا لم يتبع الحزب الخطوات التي ذكرناها آنفا وراح يغير نظام الدولة مستغلًا أغلبية مقاعده في البرلمان سيؤدي ذلك بداهة إلى استمرار الاستقطاب والصراعات القائمة في البلاد.
وأما ثانيهما: فإذا افترضنا عكس ذلك وهو عدم فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المبكرة وبالتالي لن يتمكن من تشكيل حكومة موحّدة، فإن ما يجب عليه فعله في هذه الحالة هو السعي إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع أحد الأحزاب التي استحقت الدخول في البرلمان شريطة وضع دستور جديد للبلاد، ولا شك أن الدستور الجديد الذي يحمي الحريات سينقذ البلاد من الوِصاية العسكرية والمدنية، ويمكن مناقشة مسألة “النظام الرئاسي” أثناء إعداد الدستور الجديد شريطة أن تعرض هذه المسألة لاستفتاء شعبي، وإذا لم يتحقق التوافق الوطني في حل القضية الكردية والمسألة العلوية، وتسوية النزاع القائم بين الحكومة وحركة “الخدمة” لا يمكن عندئذ الحفاظ على السلام الاجتماعي الذي يتعرض منذ وقت طويل للتفسخ.
أعتقد أن الانتخابات البرلمانية التي من المزمع إجراؤها في مطلع نوفمبر (2015م) هي الفرصة الأخيرة أمام تركيا للخروج من عنق الزجاجة، ولو كنت أنا في مكان المسؤولين بحزب العدالة والتنمية لركّزت في حملتي الانتخابية على “وضع دستور جديد للبلاد يحمي الحقوق والحريات”.