بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. مبدع الأكوان، خالق الإنسانومنزل القرآن، هدى ونورا وشفاء لما في الصدور. والصلاة والسلام على خير الورى شرفا، صاحب الخلق العظيم المبعوث رحمة للعالمين، محمد الأمين، عليه أزكى الصلاة والتسليم، وعلى من اهتدى بهديه إلى يوم الدين، آمين.
أما بعد،
قبل ولوج بحر كتاب الأستاذ “محمد فتح الله كولن” (أضواء قرآنية في سماء الوجدان) و السباحة في لُججه، لا يفوتني التذكير بأن هذا الرجل شيد صرحا عجيبا نرى عبر أسواره العالية فهمه لما أحدثه القرآن من انقلاب في حياة الناس عبر آثاره في العقول و النفوس.و أن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوه النوراني، كانت معجزة قائمة بذاتها لا نحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من معجزاته.لقدقدموا نظرة فريدة وتفسيرا جديدا لموقع الإنسان في الكون بين الموجودات. كما يُفهمنا الأستاذ “كولن” أن القرآن قد أنشأ – يقول- جيلا من الصحابة لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة. وما كان هناك أي مجتمع آخر يمكن مقارنته بمجتمعهم الفريد هذا، وإلى اليوم ما يزال القرآن ينير قلوب المتوجهين إليه الناهلين من نبعه، ويهمس في أرواحهم أسرار الوجود.
هكذا يرى الأستاذ فتح الله أن “إيضاح القرآن ضمن هذا الإطار بالأمثلة يحتاج إلى مجلدات. بينما ما حاولنا تقديمه في هذا الكتيب مجرد مقتطفات من الأجوبة الارتجالية على الأسئلة التي طرحت في مجالس ومسامرات مختلفة وحسب مناسباتها. ولا نكتم هنا أن هذه الأجوبة صدرت من شخص تبهت في شروحه جميع الأفكار والأحاسيس مهما كانت رائعة وسامية” .
إن الأستاذ كولن وهو يتدرج في تقريب بعض معان الآي الكريمة إلى القارئ والسامع، إنما يقوم بذلك بمنطق الطبيب الجراح العالمي الذي خبر الداء والدواء معا. لكن الذي ينتبه إلى شدة حرصه وكبير اهتمامه بنجاح كل عملياتهالإنسانية، سيعلم حينها سبب استعمال الأستاذ فتح الله لوابل من العلوم و التقنيات و الأدوات و الأساليب، لإقناع كل الناس بما يقدمه من أدوية لتجاوز العلل المنتشرة في جسد الأمة الإنسانية المنهك والمثخن بالجراح الغائرة في كل جز من أعضائها.
إن المعاني القرآنية التي جعلت جيل الصحابة يتألق عبر التاريخ، لازالت ترفرف حتى اليوم علينا و حوالينا، حتى أن الأستاذ فتح الله يعتقد ويرى أن العديد من الحقائق السماوية ربما لبست هنا لباسا أرضيا لتظهر في تجليات على الإنسانية التي نسيت عهد أبيها آدم. لكن ربنا الكريم رحمنا بتجليات عظيمة كما رحم أبانا آدم فتاب عليه. “لذا كان على كل من قرر صرف بضع ساعات مع القرآن بقراءة هذا الكتاب أن يضع هذا نصب عينيه لكي لا تهتز مهابة القرآن في ذهنه. ومع أن هذا العمل والجهد مهماحاول أمرا مستحيلا، لأنه يشبه محاولة شرح البحر بقطرة واحدة، أو إراءة الشمس بذرة واحدة، إلا أننا نقول بأن لحن ناي من قبل راعي غنم قد يجد له مكانا في عالم الموسيقى مهما كان متواضعا. لذا نتمنى أن تحوز هذه السطور -التي يمكن أن تصدع الرؤوس- بعض القبول.”
تفسيرُ كلام الله وفهم مراميه يعد مدخلا مهما للتعرف على الأمراض المستشرية في جسم البشرية اليوم، ونورا ساطعا يضيء درب العلاقات المتشابكة بين الخالق العظيم والمخلوق الضعيف. وإن السعي إلى ذلك المرمى كان ديدن كبار العلماء ولا يزال. ويعبر الأستاذ كولن عن ذلك بالقول:”التفسير بالنسبة لنا بحر بذاته، ولكنه يعد قطرة في بحره صلى الله عليهوسلمو… إنه القطرة التي تمثل البحر وتشير إليه. فابتداء من علي رضي الله عنه إلى ابن عباس رضي الله عنه ثم إلى مجاهد وسعيد بن جبير ثم إلى ابن جرير وفخر الدين الرازي وابن كثير إلى المفسرين الأعلام في عهدنا الحالي نرى سلسلة نورانية متصلة الحلقات من كبار الدهاة والعباقرة الذين يشكلون وحدهم -بانتسابهم إليه- أكبر دليل على نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكونه سيد الإنسانية وسيد المرسلين.”
لقد أخذ الأستاذ فتح الله على عاتقه مهمة تطبيب الإنسانية جمعاء طوعا، وتحمل مشقة حملالمشعل
لإضاءة طريقها، تخطيطا وتزيلا. حيث نجح في إعداد مشروع جديد، وتخريج جيل فريد، أصبح لخدمة الإنسانية عنوانا، وللتضحية برهانا. لقداتسع شعور الأستاذ كولن بالمسؤولية صوب كل الانحرافات والخلافات والظلمات التي سادت عالمنا.
وكما جاءت الرسالة المحمدية عالميةلكافة الناس، فإن الأستاذ كولن أخذ على عاتقه مهمة التبليغ والنصح لكافة البشر. ولأن المهمة خطيرة، فالأخطر منها إيجاد الوسائل والآليات للوصول إلى هذه الغاية العظمى، وعلى رأسها تخريج جيل جديد بمواصفات عالية تمكنه من التصدي لهذا الدور الإنساني النموذجي.
وقد تواترت الشهادات للدلالة على إنسانية الأستاذ كولن العالية، حتى غدا العديد من الباحثين يقارنوه بأعلام الفلسفة و الفكر الإنساني عبر التاريخ.
وتأكيدا لهذا التوجه الإنساني في المشروع الإصلاحي، فقد استصحب الأستاذ فتح الله هذا المنهج طيلة إضاءاته لعدد من الآيات القرآنية في كتابه موضوع دراستنا”أضواء قرآنية في سماء الوجدان”. وهذا عمل يؤكد هذا المنهج الإنساني الذي أراه جدير بالتأمل و التحقيق.
قد يبدو لقارئ هذا الكتاب أن الأستاذ يسلك منحى التفسير الاجتماعي، لما له من وقفات طويلة يعانق فيها هموم الناس، ويجزي لهم النصح في سبيل استنهاض الهمم من أجل عالم جديد، ومن أجل ذلك دخلت بستان هذا الكتاب، متمتما باحثا عن الألفاظ متلمساللعبارات الكفيلة بحمل شيء من نسمات معانيه إلى القارئ الكريم عبر هذه التساؤلات:
o كيف تلمس الأستاذ كولن نور القرآن الكريم وشفاءه؟
o وما هو الدرب الجديد الذي وصل إليه؟
o ثم ما هي معالم هذا الطريق ؟
o و أخيرا كيف شرع الأستاذ كولن في نحث منهج إنساني في التفسير؟
بناء على ما سلف قدرت أن تكون هذه الدراسة العجلى تحت عنوان:
“فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم”