• التفسير بين القصد والتكلف:
حين التأمل في تعاطي المسلمين مع القرآن الكريم فهما وتفسيرا وتنزيلا، سنجد أن كل جيل تعامل معه بما يستجيب لحاجاته المعاصرة وقضاياه المطروحة وتحدياته المعاشة. يقول الإمام الذهبي:” ظل المسلمون على هذا يفهمون القرآن على حقيقته وصفائه، ويعملون به على بيِّنة من هَدْيه وضيائه، فكانوا من أجل ذلك أعزَّاء لا يقبلون الذل، أقوياء لا يعرفون الضعف، كرماء لا يرضون الضيم، حتى دانت لهم الشعوب وخضعت لهم الدول. ثم خَلَف من بعدهم خَلْفٌ تفرَّقوا في الدين شيعاً، وأحدثوا فيه بَدعاً وبِدعاً…وكان من بين المسلمين مَن أهمل هداية القرآن، وركب رأسه في طريق الغواية، فَلم ينهج هذا المنهج الواضح القويم الذي سلكه سَلَفه الصالح في فهم القرآن الكريم والأخذ به، فأخذ يتأوَّل القرآن على غير تأويله، وسلك في شرح نصوصه طريقاً ملتوية، فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول، وكان الذي رمى به في هذه الطريق الملتوية التي باعدت بينه وبين هداية القرآن، هو تسلط العقيدة على عقله وقلبه، وسمعه وبصره، فحاول أن يأخذ من القرآن شاهداً على صدق بدعته، وتحايل على نصوصه الصريحة لتكون دعامة يقيم عليها أصول عقيدته ونزعته، فحرَّف القرآن عن مواضعه، وفسّر ألفاظه على تحمل ما لا تدل عليه، فكان من وراء ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير!!. وكان بجوار هذا الفريق من المسلمين، فريق آخر منهم، برع في علوم حدثت في المِلَّة، ولم يكن للعرب بها عهد من قبل، فحاولوا أن يصلوا بينها وبين القرآن، وأن يربطوا بين ما عندهم من قواعد ونظريات وبين ما في الدوافع ولحافز على هذا العمل، منهم مَن قصد حذق هذه العلوم وترويجها على حساب القرآن، ومنهم مَن أراد خدمة الدين وتفهم القرآن على ضوء هذه العلوم، وأخيراً خرج هذا الفريق على الناس بتفاسير كثيرة، فيها خير وشر، وبينها تفاوت في المنهج، واختلاف في طريقة الشرح ووسيلة البيان…”
هكذا تعامل المسلمون على مر العصور مع هذا الكتاب المعجز، واليوم يطلع علينا من بين الناس رجل لا كسائر الناس ليدلي بدلوه في الموضوع. لا ليقول هذا هو التفسير النموذجي للقرآن الكريم، فلم نسمع منه ذلك ولا أقل منه، حتى أنه سمى كتابه موضوع درسنا”أضواء” ولم يسمه تفسيرا، لكني وجدته متميزا في غي رما مجال.فهو إضافة إلى حرصه على تبيين آي الذكر الحكيم بما أثر في هذا الكتاب العظيم من آي مفسرة، كان شعور الأستاذ فتح الله و همه حاضرا متعلقا بما روي عن سيد المرسلين، فاستمع إليه حين يقول:
“وبعد هذا الذي عرضناه آنفاً في هذه المسألة لم يعد من الصواب إثارة تساؤلات أو الدخول في متاهات لم يشر إليها الكتاب أو السنة في هذه المسالة مثل تعيين موقع معين للكهف، أو تعيين أسماء الحكام الظالمين الذين ظلموا أصحاب الكهف وقومهم إنّ مثل هذا يُعَّد رجما بالغيب وفتات معلومات لا تكسب الروح والإيمان أي معرفة روحانية أو قلبية أو شوقية.”
إن الأستاذ فتح الله لم يسهب في النقول فيمل، ولم يتجاوزها فيخل، ولكنه كان بين ذلك قواما. وإذا كان الهدف من إنزال القرآن وبيان النبي العدنان هو هداية الإنسان، كما ذكر الذهبي وغيره من سلف الأمة وخلفها، فإن هذا الهدف الأسمى وجدته حاضرا و قويا ليس في هذه الأضواء فقط، بل كذلك هو في كل كتاباته. ولأن المناسبة شرط، فلم يكن مقبولا أن يتسابق الناس في العالم اليوم للبحث عن الطر ق الكفيلة بالرجوع بالإنسان إلى حياته الطبيعية بصفته إنسانا، فيظل الأستاذ فتح الله وهو حامل لواء هذا المشروع خارج الحلبة. وإذا كان العالم اليوم يستعمل كل ما تيسر من أدوات لإقناع الناس بما يدعو إليه، فإن الأستاذ فتح الله قد اختار أدواته أيضا. يقول الشيخ الفاضل ابن عاشور عن نهضة العالم الغربي نقلا عن حافظ إبراهيم:
(فالتقت دولة العجب ، بدولة الدب، واجتمعت بدائع الاختراع ببدائع اليراع، و اخضل ظل هاتين الدولتين، وامتد من المغربين إلى المشرقين، وأضحى الناس بين نعيم الحرية ونعيم المدنية) ثم يقول:وإذا أثر ذلك أن الذين فزعوا من نومهم مذعورين ، وهم أبناء الشرق الإسلامي، لما نظروا إلى هذا العالم الإنساني فاز بسعادته الدنيوية أيقنوا أن مضاجعهم من آلام لم يكن ناشئا إلا من الصولة التي صال بها عليهم قرنهم الغربي، فأقبلوا يعدون أنفسهم لأن يفوزوا بما فاز به، ويتلمسون مواقع الأدواء منهم وانتهى بذلك دور الانتفاضات التي ختم بها القرن الثالث عشر، ومثّل تفسير الآلوسي منها شيئا ضئيلا، على نحو ما يمثل أثر فكري انتفاضات لا يحكمها العزم، و يمليها الوعي، وأقبلوا على حركات تمليها العزائم الواعية، وتتقدم الجهود الفكرية لتسييرها في فروع الحياة الإسلامية عامة منطلقة بسيرها ذلك من أصل الحياة وقوامها وهو التفسير الديني المؤسس على القرآن وتفسيره.”
بناء على ما سلف نرجع لنؤكد أن الأستاذ كولن وهو يكتب أو يشرح أو يحاضر همه معلوم وهدفه مرسوم، وهو التطلع إلى إنسان جديد من أجل هدفه الأسمى الذي لا يمل من ترداده ألا وهو نيل رضى الله تعالى. لذلك فهو في كتابه هذا “أضواء قرآنية” لا يحيد عن هذه الأهداف المعلومة، ولا يزيد في هذا الكتاب عن كونه يعبر عنها بطرق أخرى وعبر إضاءات جديدة وهي إضاءات معاني آي الذكر الحكيم. فاستمع إليه وهو يقول بمناسبة إضاءته لمعالم الآية 34 من سورة الرعد : “…ولكن سبب نـزول القرآن ليس لهذه الأمور. فحكمة تنـزيل القرآن هي إنشاء نمط جديد من هذا الإنسان الحالي الموجود، والنفوذ إلى القلوب التي لايمكن لغيره النفوذ فيها، وإنشاء حاكمية الإيمان فيها، وإظهار وتعيين طرق الخلود والبقاء أمام الإنسان الفاني. ووعده بتحقيق جميع أمانيه وآماله، بل جعله يستطيع التفرج من نافذة قلبه ووجدانه على الخلود وعلى السعادة الخالدة وهو لم ينتقل بعد إلى العالم الآخر. إذن فأن الأهم معرفة هذه النواحي من حكمة تنـزيل القرآن.”
من أجل كل ما سلف أعتقد أن الأستاذ فتح الله لم يصرح بمنهج تفصيلي خلال إضاءته في هذا الكتاب كما هو الحال عند كثير من المفسرين. فلم يشغل نفسه للتذكير بكيفية إدراجه للآي ولا ما قيل حولها من طرف السلف أو الخلف ولم يلزم نفسه بذكر ما أثر أن الرسول الأكرم، كما لم يهتم بالتذكير بمنهجه في أسباب النزول ولا الناسخ والمنسوخ أو الوجوه القرائية ولا اللغوية ولا الخلافات الفقهية….الخ فقد ضرب صفحا عن كل ذلك ولم يشر إليه لا من قريب ولا من بعيد. ولعل ذلك راجع في نظري القصير إلى أمرين:
أن كلام الأستاذ في هذا الكتاب جاء عارضا كما بيناه سابقا بناء على ما ورد بصدر الكتاب. فالكتاب عبارة عن جملة أجوبة مرتجلة للأستاذ على أسئلة متفرقة كان يتقدم بها الناس إلا الأستاذ فيجيبهم عنها،ثم قام بعض الفضلاء من تلاميذ الأستاذ بجمعها.
أن منهج الأستاذ فتح الله في الكتابة كمنهجه في الكلام ليس كما يظن الكثير من الناس الذين لا يعرفون هذا الرجل.
فهو لا يكتب من أجل الكتابة ولكن يكتب من أجل أهداف محددة و في موضوع معينة وبمسؤولية عالية. أما الأشكال والصيغ وأما الأساليب والتراكيب وأما البلاغة والبيان وأما المناهج والأدوات فكل ذلك يأتي عند الأستاذ فتح الله تبعا لا يلقي له بالا ولا يحمل من أجله هما. ولعل مثالا واحدا كفيل بتوضيح ما قد أجد عنتا في توضيحه وفقرا في توصيفه. إنه مثال عجيب لرجل يصرخ في صمت من أجل هذه الأمة التائهة بل من أجل الإنسانية الحائرة. إنها رواية منقولة عن أحد تلاميذ الأستاذ المبرزين الأستاذ جمال ترك، ولعها كفيلة بتوضيح قليل من المعاني السامية في قصة هذا الرجل الظاهرة إذ يقول: “الأستاذ قبل الذهاب إلى المسجد أو الدرس بيومية كان يتغير كأنه يدخل في بعد ٍ آخر، يقل العلاقات بالناس كأنه يدخل إلى اعتكاف واستعداد روحي وقلبي وفكري قبل الموعظة. وكان يقول لنا الاستعداد العلمي الفكري هذا استعداد بسيط لكن الاستعداد الحقيقي أن تستيقظ في ظلام الليل وتتوجه إلى الله وتدعوه يا رب أنا جمعت المعلومات ولكن تأثيرها ونفاذها إلى القلوب وفائدتها أنا لا أستطيع هذا، أرجو منك يا رب التأثير. قبل كل موعظة يعيش آلام المخاض، آلام الولادة قبل كل موعظة معانات. لكن الأستاذ حين يرجع من الموعظة فهو كأم وضعت ولدها فاستراحت. إن ماء عجين هذه الخدمة الإيمانية هموم الأستاذ ودموعه. و عند الأستاذ مصطلح عجيب جدا وهو: “تأشيرة الوجدان”. كان يقول يا أخي إذا أردت أن تقول شيئا عليك أن يكون لك، على كل شيء تقوله تأشيرة الوجدان، وإلا يا أخي لا تكذب. الأستاذ حين يكتب شيئا يعطينا الدفتر ويقول: أنا سودت بعض الأشياء، وأنا معه حوالي 13 سنة ما سمعته يوما قال كتبت ولكن يقول أنا سودت، أنا سودت بعض الأشياء إذا رأيتم فيها شيئا خاطا أنتم تصححونه وإذا وجدتم فراغا فكريا أنتم تملأونه، وبعدما ننقل من دفتره إلى الورقات نحن نقابل وهو يقرأ من الدفتر، لكن أثنا هذه المقابلة كنا نعيش طوفانا من المشاعر، الأستاذ لا يستطيع أن يقرأ لأن كل كلمة عنده تنبثق من وجدانه وإلا فالكلام عنده كذب قال لنا مرة 🙁 إذا أردت أن تقول سبحان الله وأردت أن تذكر الله ولكن قلت سب ونظرت إلى داخلك فلم تجدها منبثقة من القلب فاسكت يا أخي.) تأشيرة الوجدان مصطلح مهم عند الأستاذ..”
قد بدا لي وأنا أطالع بعض مناهج المدارس التفسيرية أن منهج الأستاذ فتح الله قد يتوافق مع واحد منها، لكني قلبت الأمر من كل الوجوه فلم أستطع إدراجه في واحد منها. وقد يبدو للكثير من المهتمين وهم يطالعون شيئا مما كتبه الأستاذ في كتابه “أضواء قرآنية” موضوع درسنا، أن الأستاذ من أصحاب المدرسة الاجتماعية في التفسير،نظرا للقواسم المشتركة بينه وأصحاب هذه المدرسة، وقد بدالي الأمر كذلك في قراءتي الأولى، لكني حين قلبت صفحات الكتاب وتأملت مقالات الأستاذ ووعيت كيف أن الرجل بالفعل فارس المجال الاجتماعي، لكني آمنت كذلك بكونه فارس في ميادين عديدة، وبأسلحة جديدة، وبعصابة فريدة. إنه فارس حسبت أنه قد ينتمي إلى الاتجاه المدرسة الموسوعية في التفسير، خاصة وأنه لم يشترط على نفسه نوعا من أنواع العلوم أو الاتجاهات، بل أكثر من ذلك ستجد الرجل يطرق كل السماع لينبه إلى كل العلوم والقضايا من ير تكلف أو تصنع. فهو تارة يضيء معاني القرآن بالقرآن، وتارة يرجع إلى الأحاديث النبوية مرة باللفظ وأخرى بالمعاني. ومرات كثيرة تجده غارقا في السيرة النبوية العطرة يرتشف من أحداثها عبرا، وينقلها خبرا خبرا. وأحيانا يحيلك على بعض المفسرين، ولعل خلق الوفاء جعله يكثر من الإحالة على شيخه النحرير سعيد النورسي. وتارة يسبحك بك في عبق التاريخ لا ليسكن فيه كما يفعل بعض الفاضل، ولكن ليذكرنا بالخبر وينوه إلى العبر. وكم راقتني جولاته مع أصحاب الفلسفات والملل العصرية، وما يخلص إليه من يخلص إليه من عبق فلسفتنا الملية. وقد كانت العلوم الإنسانية بالنسبة إليه مركبا، و كان يرى العلوم الطبيعية والرياضية والفيزيائية مجالا مبددا….قبل كل هذا وذاك لم يغب عن وهو الأستاذ فتح الله ترديد أمرين عنده عظيمين الأول السعي الحثيث إلى رجوع الأمة لزاهر عهدها وإنقاذ الإنسان من براثين الملل المحرفة والفلسفات الضالة. والثاني ومن خلال الأول تحقيق رضى الله تعالى.
وممن اشتهر من أعلام المفسرين بهذا التوجه الإمام فخر الدين الرازي والإمام أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ، من علماء القرن الثالث عشر الهجري. وعليه وبالرغم من كل ما ذكرت، لابد من التنويه إلى:
– أن الأستاذ لم يسم ما جُمع في هذا الكتاب تفسيرا، ومن ثم فإن مقارنته بغيره من التفاسير فيه كثير من التجوز.
– أن قيمة هذا العمل تكمن في كونه عملا مرتجلا غير مهيأ له، فما بالك لو تم الإعداد له والقصد فيه.
– أن سياحتنا العلمية العجولة وسط هذا العمل المتميز القاصد، تمت في ظل هذه الظروف واستحضارا لها.
– أن ما سنورده من الأدوات التي توسل بها الأستاذ إلى مراميه السامية في هذا الكتاب، ليست إلا إشارات يجب
أن نفهم من خلالها حقيقة التفسير وعمقه عند الأستاذ فتح الله، والذي شرع فعلا في عمله وقد تجاوز فيه سورة الكهف كما روى بعض الأفاضل من تلاميذه.
الاستناد إلى القرآن والسنة:
توسل الأستاذ بآي الذكر الحكيم، وسنة النبي الأمين، لإضاءة بعض المعاني كان حاضرا وقويا في عدد مهم من الآيات التي توقف عندها في هذا الكتاب. وكثيرا ما يحيل على المعاني دون ذكر النصوص، الشيء الذي يعني أن عدد النصوص المستعملة في هذا الكتاب أكثر بكثير من المنصوص عليها. وفي ذلك إشارة بليغة إلى ما نبهنا إليه في السطور أعلا، بخصوص عدم قصد الأستاذ في كتابه إلى وضع تفسير كما هو متعارف عليه، و‘نما هي إضاءات. وفي ما يلي تفصيل ذلك:
o القرآن الكريم:
• يقول الأستاذ بمناسبة إضاءته لقوله تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَكَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (الأعراف: 179).إن الإنسان إنسان بمقياس تبنيه للقيم الإنسانية. وعندما يفقد هذه القيم يكون وهذا الموضوع وارد في آيات عديدة تعطي إيضاحا أكثر. كالتي في الفرقان الآية 44- ومحمد الآية12.
• ﴿وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأَنْفَال:42)
والحقيقة أنه حسب آية ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾ (يونس: 99) كان من الممكن أن يكون هناك نظام معين آخر في الدنيا. غير أن الإرادة الإلهية قضت بوجود صراع أزلي بين الإيمان وبين الكفر طوال الحياة في الدنيا. ويمكن مشاهدة هذه الحقيقة السافرة عند النظر إلى التاريخ الإنساني منذ آدم عليه السلام حتى اليوم. لذا فما دمنا نريد العيش في دنيا الإيمان علينا ألا ننسى لحظة أننا سنتعرض إلى أذى الكفر وجبروته وتسلطه وخيانته وعدائه. إن عداء الكفر المتأصل ضد الإيمان يدفع جبهة الكفر إلى ممارسة العدوان على المؤمنين بشكل مستمر، يجب ألاّ يحصل لديهم إحساس أنـهم يمشون بين أموات لا يحسون ولا يشعرون بشيء ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة لكي لا يكون لأحد أي عذر عندما يمثل أمام الله تعالى، ولا يستطيع أن يقول: لماذا؟ ولأي سبب؟ ص148.
o وبمناسبة إضاءته حول الآية: ﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾(مَرْيَم:5) يقول: وفي
هذه الآية نرى دعاء زكريا عليه السلام وطلبه ذرية تخلفه لخشيته البقاء وحيداً دون معاون أو نصير من أهله في أمور الدين والدنيا. لذا نرى سورة آل عمران وهي تسجل دعاءه ﴿قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرّيةً طَيّبَة﴾ (آل عمران: 38)ويرد هذا الدعاء أيضاً في سورة الأنبياء: ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِين﴾ (الأنبياء: 89). أي طلب ذرية من صلبه يكون وارثاً له في النبوة وفي آل يعقوب .
o ثم قال في الآية ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(الأَنْبِيَاء:10) يبين الله تعالى مخاطباً الأوائل الذين أنـزل إليهم الكتاب، ثم الذين من بعدهم عن طريق الدلالة والإشارة إلى أنه أنـزل إليهم كتابا فيه شرفهم ورفعتهم، ويذكرهم بهذا بصيغة تأكيدية ليوجههم إلى آفاق الشكر والحمد. نستطيع ذكر ما يرد للخاطر من هذا الذكر:
1. التذكير بالوسائل الحقة وبالوسائل الصحيحة كالأوامر والنواهي المتوجهة لأهداف حقة. ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ (الزخرف: 44).
2. قد يكون الذكر بمعنى الوعظ والنصيحة لأن “الدين النصيحة” كما جاء في الحديث الشريف الشامل الذي يشير إلى هذا الخصوص. والآية الكريمة في سورة الذاريات تؤيد هذا ﴿وَذَكّرْ فَإنّ الذّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55).
3. في غياب الأمم المحيطة بكم عن مسرح التاريخ بعد استكمال أعمارها الطبيعية واستهلاكها، فإنكم مرشحون -بفضل هذا الذكر
النازل عليكم- للبقاء طوال التاريخ، ﴿أوَلَم يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطْرَافِهَا وَالله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ (الرعد: 41). ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيَتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: 67).
o تقول الآية ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ﴾، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل “وابتغ” هنا يعني شيئا أكثر من “واطلب”، لأنه يعني: اطلب واستعمل ما آتاك الله من قلب وحس وشعور وإدراك وصحة ومال وولد… الخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية ﴿وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ لموازنة المسألة. أجل علينا أن نضع الغد وما بعد الغد أمام أنظارنا على الدوام، وفي الوقت نفسه لا ننسى ما يعود للدنيا من أمور وأشياء. إذن فتناول الشق الثاني من الآية فقط وتوجيه الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط خطأ فاحش. لأن مثل هذا المعنى يتعارض مع الآية الكريمة ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَّنّةُ﴾ (التوبة: 111). ومن يقل به يجعل القرآن كتابا ينقض بعضه بعضا والعياذ بالله.
• ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾(سَبَأ:12)
ويفهم من هذا أن الله تعالى قد يكون علم كل نبي أسماء مختلفة. ومن المحتمل أن سليمان عليه السلام كان يسخر الجن بقراءة هذه الأسماء. وفي المعنى الحقيقي فالله تعالى هو الذي سـخر الجن والشياطين في خدمة النبي سليمان عليه السلام. ويتبين هذا الأمر بشكل أوضح في (سورة الأنبياء. ).
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾(يُونُس:88)
قام بعضهم بتفسير ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ كما يأتي: يا رب أأعطيت فرعون وملأه زينة وثروات وأموالا لكي يضلوا عن سبيلك؟ ولكن هذا المعنى ليس تاماً.اللام في ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ هو “لام العاقبة” وموسى عليه السلام أفضل من يعرف أن الله تعالى أعطاهم هذه الأموال الطائلة لغاية سبحانية وأن العاقبة التي سينتهي إليها أعطاء هذه الأموال عاقبة معلومة. لذا يتساءل موسى عليه السلام: أأعطيت لهم هذه الأموال لكي يضلوا الناس عن سبيلك؟ صحيح أن الله تعالى لا يحب الكفر والضلال والمعصية ولا يريدها، ولو فرضنا العكس لكان معنى هذا أن هؤلاء عندما يقترفون هذه الأمور يكونون قد أطاعوا الله. بل يبدو وكأن إرسال الأنبياء قد تم من أجل هذا الغرض. ولكن الأمر ليس كذلك أبدا فهناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم فيها “لام العاقبة” مثل: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً﴾ (القصص: 8) ولو لم نفهم الآيات بـهذا الشكل لكان معنى الآية أعلاه أن فرعون التقط موسى عليه السلام لكي يكون لهم عدوا ومصدر حزن. وهذا تفسير غير مقبول. وهذا ما ذهب إليه جمهور المفسرين كما هو عند الفخر الرازي في تفسيره للآية.
o الاستناد إلى السيرة النبويةالعطرة :
من لا يعرف هذا الرجل لا يمكنه تقدير مدى حبه للسنة النبوية العطرة. ومن يرغب في ذلك فليرتع في خطبه وليتأمل عظمة الهم الذي يحمله هذا الرجل تجاه الأمة، ورهافة الإحساس الذي قل ما يجتمع مع عمق الفكر وقوة البرهان لدى العلماء. و من تتبع مختلف أعمال الأستاذ فتح الله سيعلم أي مكانة تحتلها السنة النبوية عنده. فإذا كان بعض أعلام أمتنا من السلف، وكثير من الخلف، يورد الروايات ليسند رأيه بأقوال غيره من العلماء، فإن الأستاذ فتح الله قل ما يفعل ذلك وكثيرا ما يطير بك مباشرة من حيث هو إلى أحداث السيرة العطرة ومواقف الصحابة الكرام وأقوال النبي العدنان. بل لقد ساورني إحساس بمحاولة الرجل جاهدا لمقارنة نفسه بذلك الجيل الفريد ويزاحمهم في الفعل والتمثل كلما وجد لذلك مدخلا.
لا يمكن فهم موقع السيرة العطرة في حياة هذا الرجل العظيم دون توطئة كهته وإن لم ترق إلى التعبير الدقيق عن حقيقة ساطعة يراها ويلمسها كل من تعرف على هذا الرجل من قريب أو من بعيد. أما في علاقة المشرفة بالقرآن العظيم فيقول:”…السنة روح حياتنا، والقرآن الكريم يقرر السنة ويؤكدها، لا بل يعدها أساساً في الإسلام لا يجوز الاستغناء عنه أبداً، وإليكم بعض الآيات في هذا الشأن: ترد عدة آيات تشبه إحداها الأخرى مع وجود فوارق قليلة بينها وبالمعنى التالي: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ ثم يقول:والكثرة الغالبة من المفسرين الكرام فسروا الكلمة “الحكمة” بـ”السنة”. ذلك لأن القرآن ليس كتاباً تحشر فيه الكلمات كيفما اتفق، أو يُستعمل فيه الإطناب والتطويل دون معنى أو غاية، ولا يمكن أن يكون المقصود من “الحكمة” في الآية الكريمة هو “الكتاب” أو جزء منه، لأنه ما كان يجوز آنذاك عطف “الحكمة” على “الكتاب”. والمقصود من “الكتاب” هنا -كما ورد في أماكن أخرى عديدة- هو القرآن الكريم. أما الحكمة فالمقصود منها هو السنة الصادرة من النبي صلى الله عليه وسلم التي تفصل مجمل الكتاب أو تفسر مبهمه، أو تخصص عمومه، أو تقيد مطلقه.
وبخصوص تفسير السنة للقرآن الكريم، فقد أورد الأستاذ كولن نصوصا غاية في الدقة بمناسبات عدة من إضاءاته لعدد من الآيات الكريمة في كتابه أضواء موضوع درسنا، وهي لا تخلو كعادته من لمساته المتميزة، أحيانا بالإحالة على ما ذكره أعلام التفسير الأجلاء وأحيانا مما أفاء الله عليه من لفتات دقيقة ونكت عجيبة. فالأستاذ كولن حين يرجع إلى أحداث السنة المشرفة ونصوصها لايرجع لإسناد آراءه فحسب، بل للتأمل في هذه النصوص من جديد وشرحها وفق دلالاتها الظاهرة حينا والخفية أحيانا. يقول الأستاذ بمناسبة حديثه عن السنة وتفسير القرآن الكريم:”نقرأ كل يوم في صلاتنا سورة الفاتحة ونتضرع إلى الله تعالى بأن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ومع أن صفة المغضوب عليهم وصفة الضالين صفتان عامتان فهناك حديث شريف يقول: «فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضُلاّل”. ثم يضيف : “وهكذا يقوم الحديث بتفسير القرآن. فاليهود استحقوا الغضب منذ تاريخهم الماضي المظلم وفي أثناء العهد النبوي، وهم أول من يتبادرون إلى الذهن في هذا الخصوص على قاعدة أن “مطلق الذكر ينصرف نحو الكمال”، لأنه لا يوجد أحد مثلهم يستحقون الغضب، وذلك بقتلهم الأنبياء وبأخلاقهم الخسيسة وعاداتهم السيئة وعبادتهم للمال وكونهم حتى الآن ممثلي المادية في القرن العشرين، لذا فلا يملك الإنسان إلا الموافقة على هذا التفسير النبوي الشريف. و لا شك أن هذا الغضب الإلهي يشمل كل من اتصف بهذه الأخلاق اليهودية”.
ولولى خشية الإطناب لتوسعنا في هذا الجانب أكثر، ولكن فلنرجع إلى صلب موضوعنا ولنتأمل حضور نماذج من هذا الجانب في إضاءات الأستاذ القيمة في كتابه موضوع الدراسة، مكتفيا بكلامه دون تعليق.
o الحديث الشريف:
• بمناسبة إضاءة الأستاذ لقوله تعالى﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾(يُونُس:98) ذكر كلاما يمكن أن نستشف من خلاله جزءا مهما من منهجه في هذه الأضواء وهو اعتماده على السنة النبوية في إضاءة وتفسير آي القرآن الكريم حيث يقول: ” وكون هذا القوم قرب مدينة الموصل وفي قرية نينوى، ليس مهماً ولا يغير من جوهر الحقيقة أو نتيجتها. فالمهم هنا التقييم الصحيح للتقديرات الإلهية والنبوية، وتفسير الأمارات والإشارات التي ينير طريقها “تأويل الأحاديث”، والعيش في يقظة وانتباه ضد جميع الأخطار المحتملة والتوجه نحو الله في جميع الأحوال.
• وفي حديثه عن قوله تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى…)قال:
… ففي أحد الأحاديث يورد رسول الله صلى الله عليه وسلم حالات خاصة كالتوضؤ في شروط صعبة، والذهاب إلى مساجد بعيدة بحيث يكثر عدد خطواته، وانتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد ويختم الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: “فذلكم الرباط… فذلكم الرباط… فذلكم الرباط”.
• وفي قوله تعالى:﴿وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾(مَرْيَم:5).يقول:
..ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول:”إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة”. أي أن الأنبياء لا يحملون أي هم من هموم الميراث لأولادهم أو لأقربائهم. لذا فالدعاء هنا من أجل ميراث النبوة. وقد قبل خير الوارثين هذا الدعاء واستجاب له بإحسان منه وفضل. وقد جعل الله تعالى -إظهاراً لعزته وعظمته- شيخاً كبيراً وامرأة عاقراً ستاراً لإحسانه وفضله.
• ثم في قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مَرْيَم:96) يضيف: ..والحديث
الآتي يوضح هذا الأمر إيضاحاً تاماً، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إذا أحَبَّ اللهُ العَبدَ نادى جبريلَ إنّ اللهَ يحِبُّ فلاناً فأَحْبِبْه فَيحبُّه جبريل فيُنادي جبريل في أهل السماء إنّ اللهَ يُحِبُّ فلاناً فأحِبُّوه فيُحبُّه أهلُ السماء ثمّ يُوضعُ له القَبولُ في الأرض”
• وفي سورة طه ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾(طَه:58-59) ثم يقول الأستاذ: …وبينما يذكرنا القرآن الكريم بكل هذا، تقوم السنة النبوية بتعميق هذا الموضوع بمثال آخر ، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أريد قتل غلام لم يدخل في دين أحد الملوك. ألقوه من فوق قمة جبل عال، فرجع إليهم ماشياً. أرادوا أن يغرقوه في اليم فتخلص من أمواج البحر العاتية ورجع إليهم سالماً. ومهما حاولوا قتله فلم يفلحوا وتخلص الغلام في كل مرة. وأخيراً “فقال الغلامُ للملكِ إنّك لا تقتُلني حتّى تصلبني وترميني وتقولَ إذا رميتني “بسمِ اللَّهِ ربِّ هَذَا الغُلامِ”. قال فأمَر به فصُلبَ ثُمّ رماهُ فقال “بسمِ الله ربِّ هَذَا الغلام”. قال فوضعَ الغلامُ يدهُ عَلَى صدغهِ حين رُميَ ثُمّ ماتَ، فقال أناسٌ “لقدْ علمَ هذا الغلامُ علماً ما علمَهُ أحدٌ فإنَّا نؤمنُ بربِّ هَذَا الغلامِ”. قال فقيلَ للملكِ “أجزعتَ أنْ خالفكَ ثلاثةٌ فهَذَا العالمُ كُلُّهمْ قدْ خالفوكَ”. قَالَ فخدَّ أخدوداً ثُمَّ ألقى فيهَا الحطبَ والنَّار ثُمَّ جمعَ الناسَ فقال “منْ رجَعَ عَن دينهِ تركناهُ ومنْ لمْ يرجعْ ألقيناهُ في هَذِهِ النَّارِ”. فجعلَ يلقيهمْ في تلكَ الأخدودِ”. .
• وفي قوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(الأَعْرَاف: 190) قال: …ومع ذلك فيجب أن نفعل كل ما في وسعنا للتطهر من الشرك، وبذل كل عناية لعدم الاقتراب من أماكن تشم على البعد منها رائحة الشرك. فإن فعلنا هذا يأتي دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كوصفة مهمة وضرورية “اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم”.
• وفي سورة الأنبياء في قوله تعالى:﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ﴾(الأَنْبِيَاء:87) …والحقيقة أن كل نبي صدرت منه هفوة أو زلة. ثم يقول: …سرعان ما كان يتوب أو يؤُوب إلى الله ويستغفره. فهذا آدم عليه السلام يقول هو وزوجه: ﴿قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسَنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين﴾ (الأعراف: 23). وقال موسى عليه السلام متضرعاً: ﴿رَبّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لي﴾ (القصص: 28). ولا أعلم شيئاً في هذا الخصوص عن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم. ولكن هناك دعاء علمه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق الصديق رضي الله عنه استعمل فيه الكلمات نفسها: ” اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً”.
• وله وقفة لطيفة حين كلامه حول قوله تعالى:﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾(النَّحْل:90) ‘ذ يقول: …هذه الآية الكريمة آية جامعة تحتوي على ستة أسس منها أسس ايجابية، وأخرى سلبية. … فلا يمكن توقع وجوه الخير الأخرى لا في الإنسان ولا في المجتمع. فلا إحسان دون عدالة، ولا يمكن إسداء الخير لذي القربى من دونها، ولاسيما إن قرأنا التعريف المدهش للإحسان الوارد في الحديث النبوي الشريف “أنْ تَعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكنْ تراه فهو يراك”.
• وفي قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾(الإِسْرَاء:13) قال: ……الطائر المذكور هو عمل الإنسان وهو -كما ورد في الأحاديث النبوية- يظهر أمام الإنسان بشكل إنسان حسن الوجه إن كانت أعماله حسنة وبشكل إنسان قبيح الوجه إن كانت أعماله قبيحة.
• ونختم بقوله تعليقا على الآية:﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾(الشُّورَى:30)….. في حديث شريف يرويه ابن أبي حاتم يقول رسولنا الطاهر المطهر صلى الله عليه وسلم: “لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر”.
o السيرة النبوية:
لا أريد أن أثقل على القارئ الكريم بالإسهاب في تعاطي الأستاذ كولن مع أحداث السيرة النبوية شكلا
ومضمونا. ‘ذ الرجل كما قلت سابقا لا يرجع للسيرة من أجل البرهنة والدفاع عن المواقف كما عهدنا الكثير من الناس، بل ليتخذها نهجا وطريقا في حياته الخاصة كما العامة. و الذين يعرفون الأستاذ كولن يجمعون على أنه يتلمس سيرة النبي كما أصحابه في كل صغيرة وكبيرة من أعماله ومشاريعه. لكل ذلك فالرجل حين يتحدث عن السيرة فله معها علاقة خاصة تتجاوز الإيمان إلى عشق عجيب يتلمسهألستاذ كلما وجد إلى ذلك سبيلا.
ولنرجع إلى نماذج من الأمثلة التي أوردها في كتابه محل الدرس.
• يقول بمناسبة إضاءاته لقوله تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ
قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾(الْكَهْف:13-14) …تأمل حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: ألم يقض مدة ستة أشهر في تأمل وتحنث في مغارة لأجل استكمال الاستعداد اللازم لتلقي الوحي؟ ونجد أن من جاء من بعده صلى الله عليه وسلم ممن ساروا على نهجه لا بد وأن في حياتهم فترة غار أو كهف. أجل هناك فترة غار في حياة الإمام الغزالي والإمام السرهندي ومولانا خالد والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي…
• وفي قوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ (النمل:
18). قال: …ومثل هذا التبسم المعبر عن الرضا نجده في السيرة السنية لرسولنا صلى الله عليه وسلم أيضاً. “عن أنس قال أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يخطبنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاءُ فادع الله أن يسقينا، فمد صلى الله عليه وسلم يديه ودعا. قال أنس وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله تهدمت البيوت فادع الله أن يحبسه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حوالينا ولا علينا فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل” وفي رواية “رفع رسول الله ، يديه بحذاء وجهه فقال: اللهم اسقنا” أي تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم كعنوان شكر لله تعالى وكتصديق لرسالته وكونه نبيا مستجاب الدعوة.
• وفي قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾(يس:20) قال:…ويذكر
القرآن الكريم حادثة أخرى جرت في عهد موسى عليه السلام أيضا. وتحمل تلك الحادثة وهذه الحادثة خطوطاً عامة مشتركة. في تلك الحادثة نرى فرداً من آل فرعون، أي من المنتسبين للقصر الفرعوني ومن الطبقة الأرستقراطية عندما يعرف نيتهم في قتل موسى عليه السلام لا يملك نفسه من الصراخ: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ﴾ (غافر: 28). ففي ذلك الوسط لم يكن من الممكن لشخص من عامة الشعب الوقوف ضد قتل موسى واغتياله عليه السلام. وفي تاريخ السيرة النبوية نرى البطولة نفسها عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ففي أثناء قيام المشركين بتعذيب المسلمين حتى الموت، كان أبو بكر الصديق -وكان من الطبقة الأرستقراطية لمكة- يقول العبارة نفسها: “أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله”.
ذكر أسباب النزول:
حديث الأستاذ عن علوم القرآن كثير، لكنه لم يفرده بتأليف –حسب علمي المتواضع- ولكن القارئ لمؤلفات الأستاذ كثيرا ما يجده يتحدث عن أسباب النزول والمتشابه والعموم والخصوص والمجمل والمقيد والناسخ والمنسوخ والإسرائيليات. كل ذلك يفيد أن الأستاذ له من الدراية بهذا الفنون ما يكفي ليؤلف ويفصل فيها القول- إن لم يكن قد فعل- لكني أعتقد أن هذا الرجل و طبيعة وهمومه وأولوياته، ليس من النوع الذي يؤلف ويكتب من أجل التأليف والكتابة فقط، بل إن لم يوجد دافع وحاجة إلى موضوع ما أو هدف محدد فهو لا يلتفت إلى ذلك. ولعل جل مؤلفاته من هذا القبيل. فهي إما مجموع أجوبة على سؤالات الناس، أو دروس توجيهية لتلاميذه أو رسائل محددة لمحبيه أو خطب منبرية دعت إلها الحاجة كما هو الشأن في أسباب موضوعات كل خطيب نحرير.
كل ما سلف لا يمنع من ذكر أمثلة عديدة من التي أوردها بخصوص أسباب النزول. وذلك تجلية لمكانة هذا العلم العظيم وأهميته في تفسير القرآن الكريم وبيان بعض من معاني الذكر الحكيم، دون تعليق منا.
• يقول الأستاذ فتح الله حين كلامه عن قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ﴾البَقَرَة:114. “إن حصرنا معنى هذه الآية بسبب نـزولها، وقلنا إنـها تشير إلى النصارى الذين كانوا يمنعون الناس من الوصول إلى بيت المقدس واستخرجنا منها هذا المعنى نكون بذلك قد ضيقنا واسعاً. لأن سبب النـزول يعد خاصاً، أما الحكم فيكون عاماً وذلك في العديد من الأمور. إذن فإن الذين حاولوا صلب المسيح عليه السلام سواء في ذلك العهد أو فيما بعد يعدون اظلم الناس. كذلك الذين وقفوا بوجه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديبية ومنعوه من دخول الكعبة والذين ظاهروهم عليه يعدون كذلك من أظلم الناس. وكذلك من يعطل الجوامع ومساجد الله. فمن يتدخل في الحياة الدينية للناس إلى درجة وضع الحظر على المساجد هم أيضاً من أظلم الناس…الخ. وما دام القرآن كتاباً كونياً إذن يجب تناول هذه الآية وتفسيرها من جميع هذه الأوجه، فهذا هو الأنسب والأكثر ملاءمة لروح القرآن.
• وقال في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ يس:20. …ثانياً إن الله تعالى بقصه علينا هذه
القصص يشير إلى بعض الحقائق الكونية الجارية حتى قيام الساعة. أي هي جارية منذ وجود آدم عليه السلام حتى آخر رجل في هذه الدنيا. لأننا عندما ننظر إلى العناصر التي يستعملها القرآن نراها غير مختصة بزمن معلوم أو مكان معلوم. وهذا هو المنتظر أصلا من كتاب كوني. ولكن لكي نستطيع النظر إلى القرآن هذه النظرة يجب متابعة آياته ضمن إطار خاص. بل يمكننا القول إن هذا هو الشرط الوحيد للاستفادة الحقيقية من القرآن. والشيء الآخر إن الآيات سواء كانت في حق الكافر أو المنافق أو اليهود أو النصارى، وكانت أسباب النـزول تشير إلى هذا الأمر أو ذاك، فـإن كل فـرد -وهو يقيم علاقات عقلية ومنطقية وشعورية ووجدانية مع نفسه ومحيطه في زمان أو في مكان معين- يستطيع تلقي رسائل غضة وجديدة من القرآن ويحسها في أعماق نفسه.
• وتأكيدا منه على أهمية هذا العلم في فهم آي الذكر الحكيم يقول بمناسبة حديثه عن قوله تعالى:﴿فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى﴾(الأَعْلَى:9): ” من لا يضع نصب عينيه أسباب نـزول مثل هذه الآيات قد يفهمها بشكل خاطئ فيقول: “إن نصائحي لم تفد ولم تأت بخير” أو: “لقد ذكّرتهم خمسين مرة فلم تنفعهم الذكرى” أو: “هؤلاء غير مؤهلين للإيمان”… الخ. وهكذا تصاب وظيفة الدعوة والتبليغ بالفتور. بينما الحقيقة التي تشير إليها هذه الآية حقيقة أخرى تماماً ومغايرة لهذا المفهوم ولهذا المعنى لأن هذه الآية الكريمة تقوم بتعليم أصحاب الدعوة وظيفتهم في الإرشاد وفي الدعوة والآية ﴿فَذَكّرْ إنْ نَفَعَتِ الذّكْرَى﴾ توصي هؤلاء وتقول لهم إن كان تذكيرك مفيدا فداوم عليه. علماً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من آية ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6) فإنه داوم على تذكير قساة القلوب من قريش من أمثـال أبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم. ولا يعلم إلا الله وحده كم من مرة ذهب إليهم وذكّرهم ودعاهم إلى الله. ولو أعطاه الله تعالى فرصة وفسحة أخرى لما توانى عن تذكيرهم ودعوتهم.
أقوال المفسرين:
الأستاذ فتح الله قليلا ما يرجع إلى أقوال وآراء المفسرين. وقد يبدو في هذا المنهج شيء من الغرابة، لكنها تزول إن استحضرنا ما قلنا بخصوص شخصية هذا الرجل المجدد. إن استحضار القرآن الكريم والسيرة النبوية نجده يستغرق جزئيات أفكاره وأعماله اليومية، الى الحد الذي لا يكاد يجد معها مكانا لغيرهما. قد يبدو هذا الأمر غريبا بعض الشيء، إلا أن هذا هو منهج الأستاذ فتح الله كولن. فهو كلما جد مستجد إلا ويطير بك إلى ذلك الزمن الذهبي ليجول بك وسط الأحداث وداخل المشاهد، حتى تجد نفسك أمام هالة من الأدلة الواقعية والصور المشرقة دون حاجة إلى البحث عن غيرها. فتأمل قوله مثلا: “…فيلزم لوراثة الأرض السعي الجـاد في الصالحات ابتداءً. بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسـنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه. ولنتذكر دائماً أن المجتمعات التي لا تلتفت إلى “الشريعة الفطرية” المتجلية من “القدرة” و”الإرادة”، وإلى “مجموعة” القوانين الإلهية الظاهرة من صفة “الكلام” في الكائنات، وإن الأمم والشعوب التي تتعرض إلى التبدل داخليا في حياتها المعنوية، مصيرها إلى الخذلان غداً، مهما كانت ظاهرةً اليوم…أرجوكم التفكر ملياً. هل نجرأ على القول بأن الذين ادّعوا تمثيل الإسلام في مرحلة تعيسة من حياة شعبنا هم أصحاب حياة قلبية وروحية عميقة الغور بمقاييس الأوائل؟وهل نشهد أن مسلمي تلك المرحلة كانوا في توتر وانشداد وحماس من أجل ديمومة نمط الحياة للصحابة الكرام، بله الرغب إلى حياة كحياة الصحابة؟ كم وجهاً بهياً نلقى في تلك المرحلة، يختار أن يموت عزيزاً على أن يعيش ذليلاً كما في القول الذي سار مثلاً: “إما الدولة في الأمجاد أو الغِربـان على الأجساد؟” وكم روحاً منوراً لم يستسلم أبداً لأعدائنا ولم يحد مطلقاً عن استقامة دربه؟
نعم إن له منهجا خاصا في الرجوع إلى أقوال المفسرين، إن هو رجع. ذلك أن الرجل أحيانا يورد الأقوال دون ذكر الأسماء، وأحيانا أخرى يذكر المفسرين وأقوالهم. ومن منهجه في ذلك ما أورده في سورة الشعراء بالآية 61 والتي بعدها ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ قال: يجري القاضي البيضاوي في تفسيره عند تحليل هذه الآية مقارنة بين موسى عليه السلام وبين محمد صلىالله عليه وسلم ، فيقول إن موسى عليه السلام قال في لحظة اقتراب الخطر ﴿إِنَّ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، أي عبر بصيغة المستقبل. بينما قال رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه يطمئنه عندما كانا في الغار واقترب المشركون منهما: ﴿لاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (التوبة: 40). فأظهر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ثقته التي لا تعرف الحدود بالله تعالى.
• قال في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾البَقَرَة:25: “يقول الأستاذ: يقول فخر الدين الرازي بأن هذه الأمثلة تُعطى في القرآن الكريم لكي يتم فهم المسائل بشكل أفضل، وليس هناك من شيء مستبعد. أما الماهية الحقيقية للشيء فستظهر بكل خطوطها وتفاصيلها الحقيقية هناك، وعند ذلك يقول المؤمنون من أصحاب الأعمال الصالحة، “لقد رأينا هذا الشيء في الدنيا” أو “رأيناه قبل قليل في الجنة”.
• ومن ذلك ما أورده في سورة البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾الآية 65،المسخ الوارد في هذه الآية الكريمة -والله أعلم- هو كما قال مجاهد مسخ في الأخلاق والسيرة أكثر من كونه مسخاً للصورة. أي أصبحوا من ناحية الأخلاق والطبع ودناءته كالقرود. والمسخ الأخلاقي يفتح الباب لانتقال هذا المسخ إلى أجيال عديدة. ويمكن مشاهدة هذا المسخ الأخلاقي في بعض المجتمعات الحالية.
• وكثرا ما كان الأستاذ يورد أقوال المفسرين دون ذكر أسمائهم، ربما لكثرتهم أو قد يكون الأمر راجعا إلى تشابه أقوالهم. وهاهو حين تأملاته في سورة التوبة بالآية 72: ﴿وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾يورد قول الأمام ابن كثير دون ذكر اسمه وذلك حين قال: إن جنة عدن كما تبدو في هذه الآية الكريمة وكما وصفت في أحاديث نبوية عديدة، جنة فيها بعض النعم الروحانية ولكن أكثر نعمها جسدية ومادية.
• وفي معرض حديثه عن قوله تعالى: ﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأَنْعَام:124)…قال:” لقد بحث العديدون وكتبوا حول الناحية الأدبية للقرآن الكريم، وقد ظهر عباقرة عديدون في هذا الموضوع من أمثال عبد القاهر الجرجاني والسكاكي والزمخشري في الماضي وحتى مصطفى صادق الرافعي وسيد قطب في عصرنا الحالي والعلامة سعيد النورسي صاحب كتاب “إشارات الإعجاز”.
• الأستاذ بديع الزمان النورسي:
لعل خلق الوفاء الذي يتحلى به جل الناس وخاصة العلما، كان حاضرا في جل كتابات الأستاذ فتح الله، كما في الكتاب موضوع درسنا. فكثيرا ما يورد الأستاذ فتح الله أقوال شيخه ويعول عليه.
• وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البَقَرَة:25.
إن آيـة ﴿وأُتُوا بِـهِ مُتَشَابِهاً﴾ تشير إلى مشابهة من زاوية نيل النعم والألطاف، وحسب تشبيه الأستاذ سعيد النورسي فهذه النعم المتشابهة قد تكون من ألطاف هذه الدنيا، أو من ألطاف الآخرة.
• ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾البَقَرَة:15 و قوله تعالى:﴿مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ النِّسَاء:147. نرى في هاتين الآيتين أن الله تعالى يقدم نفسه بصفة “شـاكر” مع أنه “مشكور”… فإن تذكرنا الحقيقة التي أشار إليها الإمام بديع الزمان النورسي في الكلمة الأولى من أن الإنسان يعطي البقال أو بائع الفواكه دراهم مقابل ما يشتريه منه. حسناً… ولكن ماذا نفعل تجاه الله تعالى مالك وخالق كل شيء وواهبه؟ أو ماذا يريد هو منا؟ طبعاً يجب أن تكون مقابلتنا لنعمه هذه حسب ما أراده منا.
• كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾البَقَرَة:213. يقول بعض المفسرين في تفسير ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ بأن بني آدم كانوا بأجمعهم كفاراً فأرسل الله تعالى نوحاً عليه السلام ثم الأنبياء الآخرين. ولكن هذا التفسير ليس صحيحاً على الإطلاق. فقد وجد الناس منذ عهد آدم عليه السلام حتى الآن في كل عهد إمكانية الاهتداء بأحد الأنبياء واتباع طريقه والسمو بنفسه، أي وُجدت هذه الفرصة على الدوام…وحسب رأي بديع الزمان النورسي فانـه لو عاشت عشر فسائل من ضمن مائة فسيلة وأصبحت أشجاراً باسقة فلا يقال بأن صاحبها الزارع قد خسر. كذلك لو اهتدى عشرة من ضمن مائة من الناس وآمنوا وعاشوا وهم يدركون سبب خلقهم وغايته فهذا يكفي لكي يتخلص عموم الناس من عبثية الخلق .
• وهكذا ذكر الأستاذ كثيرا من أقوال شيخه في عدد من المناسبات منها حديثه حول الآيات: بآلِ عِمْرَان:21 و 64 و154- وبالمائدة 54 وغيرها.
القضايا الفقهية :
o النهي عن الفحشاء والمنكر والبغي:
– قال في قوله تعالى:﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ﴾(النَّحْل:90) “… إن إيتاء ذي القربى، وبشكل اشمل عمل المعروف للناس جميعا، يعني انتشار مبدأ الإحسان وفلسفته. وإذا قمنا بتحليل هذه الآية من هذه الزاوية نرى أن العدالة هي منبع الإحسان وقاعدته، والإحسان هو منبع الخير والبر وقاعدته.
وإذا انتقلنا إلى الأسس السلبية نرى أن النهي الأول هو عن الفحشاء. وقد يكون السبب في هذا أن الفحشاء هي بداية جميع المنكرات عند الإنسان كفرد وعند المجتمع ككل، لذا تم تقديمه. فكما يعلم الجميع أن أي مجتمع تسود فيه الفحشاء تبدأ جميع المنكرات الأخرى بالانتشار فيه واحدة تلو الأخرى فينحرف هذا المجتمع انحرافا كبيرا. لذا لا يمكن التقليل من خطورتها في أي وقت من الأوقات.
ومعنى المنكر هو إتيان ما حرمه الله تعالى واقترافه بشكل علني. وهو يأتي بمعنى العصيان على منظومة الحقائق الكونية والتمرد عليها وهو شيء مردود في كل دين وفي كل أمة وملة.
أما البغي فيعني تجاوز الحد. وتظهر هذه الخصلة السيئة في الحياة الفردية وفي الحياة الاجتماعية أيضاً في أشكال وصور مختلفة من ظلم الإنسان لنفسه إلى عصيان الوالدين، إلى رفع راية العصيان ضد الدولة والإخلال بطمأنينة المجتمع، إلى إنكار الله تعالى والجحود به.
وكما رأينا في موضوع العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والبر فإن الفحشاء هي أساس ومنبع المنكر، والمنكر هو أساس البغي ومنبعه.
ولكن المذهب الحنفي يرى أن الواو هنا يفيد الجمع المطلق، والعطف بحرف الواو في الآية الكريمة للصفات الإيجابية وكذلك للصفات السلبية، لذا يجوز أن الترتيب والتقديم والتأخير قد لا يكون واردا هنا. بينما يرى المذهب الشافعي أن الواو هنا يفيد الترتيب أيضا، ومن هذه الزاوية فإن تسلسل السبب والنتيجة -الذي ذكرناه آنفا- قد يكون واردا ومثل هذا الارتباط قد يكون موجودا.
والخلاصة أن هذه الآية هي أجمع آية في القرآن الكريم حول الخير والشر كما قال ابن مسعود رضي الله عنه. وهي تتضمن معاني يمكن شرحها في مجلدات.”
o قضية القبلة:
– يقول في قوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾(الشُّعَرَاء:218-219) : “…أليس هذا هو
ما يقوله القرآن الكريم عندما يذكر: ﴿فَأيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ الله﴾ (البقرة: 115). وأنا أرى أن هذه الآية مهمة جداً وذات معان عميقة في وصف الوضع العام للمؤمن الكامل، وفي عكس مقاييس علاقة المؤمن بالله تعالى وارتباطه به. يقول الفقهاء بأن الإنسان عندما لا يعرف جهة القبلة يسأل ويستفسر عنها ويحاول بإمكانياته العثور عليها. وتكون صلاته مقبولة في هذه الحالة حتى وإن صلى إلى جهة معاكسة للقبلة. ولكن ليس من الصحيح قصر معنى الآية على هذا فقط. فالإنسان في جميع أحواله: عندما يأكل وعندما يشرب… عندما يقوم وعندما ينام … عندما يكون بين أهله… عندما يتنـزه… في كل أحواله هذه عليه أن يكون متوجها لله تعالى مراقبا إياه، شاعراً به. أجل!… إن الآية تشير إلى هذه المعاني أيضاً.
o اختلاف الدار واختلاف الدين يمنع التوارث:
– يقول: قال الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾
(الأَنْفَال:73) في الآيـة السابقة “الأنفال: 72” جاءت الآيـة بقرار أن الأنصار والمهاجرين يرث أحدهم الآخر على الرغم من عدم وجود آصرة القربى فيما بينهم. ثم تأتي هذه الآية التي نريد شرحها بحكم أن المسلمين والكفار لا يجوز أن يرث أحدهم الآخر، وأن الكافرين بعضهم أولياء بعض أي يرث أحدهم الآخر. وهناك حديث شـريف يشرح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية: «وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله لِمَ؟ قال: لا تراءى ناراهما». أي على الرغم من إيمانـهم فإن النار التي يوقدونـها لا تنير، ولا يتميز العالمان المختلفان بعضهما عن البعض الآخر… والأهم من كل هذا أن الملحد والمؤمن -خارج نطاق التسامح المتقابل وقبول أحدهما لوضع الآخر- إن بـهتت الخلافات الأساسية الموجودة بينهما في النواحي الملية والأخلاقية والفكرية غابت الفروق التي يجب وجودها بينهما. ولو استمر هذا الوضع لأصاب التعفن كلا الطرفين، ولاسيما الطرف الذي يرغب بإنشاء وتطوير عالمه الخاص على مكتسباته التاريخية. كما أن التوارث لا يجري بين المؤمن والكافر من زاوية قانون المواريث بسبب “اختلاف الملتين”. ولو قمنا بالتعبير عن هذا بلسان الفقهاء لقلنا بأن اختلاف الدار واختلاف الدين يمنع التوارث. ففي جانب المحبة الإنسانية والتفاهم إن لم تتم المحافظة على تمايز الخطوط، وإذا تم الاختلاط دون أي حساب أو ميعاد وغض الطرف عن بعض المبادئ القانونية نكون -بأفعالنا وتصرفاتنا التي رجونا منها الإصلاح- سـببا في الفتنة وفي الفساد بينما يعدّ اكبر فتنة وفساد هي الفتنة والفساد النابع عن الأعمال التي تمت في الأصل بنية الإصلاح والخير. لأن الشرور الناتجة من النيـات الحسنة قد تكون لها صفة الدوام، والجماهير غير الواعية عندما تدخل في هذه الدوامة يصعب عليها التراجع.
o الأجر والثواب رهين بالنية:
– يقول الأستاذ فتح الله : “…إن كان أصحاب الكهف قد قرروا الالتجاء إلى الكهف والبقاء فيه حتى يموت الملك
ويزول ظلم الدولة وإرهابها ليرجعوا بعد ذلك إلى الناس من جديد والدعوة إلى دينهم الحق فإن مدة بقائهم في الكهف (أي مدة 309 سنوات “ثلاثمائة سنينَ وازدادوا تسعاً”) بمثابة عبادة لهم ينالون ثوابها بسبب نيتهم الصالحة وعمق هذه النية، لذا يعدون فائزين على أي حال من الأحوال. لأن الشخص المتعب الذي ينام على نية القيام لأداء صلاة العشاء بشكل أفضل وفي حالة راحة فإن نومه يعد له عبادة. لذا يجب النظر إلى قيام أصحاب الكهف بالاختفاء بأن نيتهم كانت الرجوع مرة أخرى إلى نشر دعوتهم بعد انكسار حدة الكفر. فلو كنت متعودا على الحياة المرفهة للقصر والنوم على الفرش الوثيرة الناعمة وتركت تلك الحياة وفضلت عليها النوم على الصخور الصلدة، وفضلت صحبة كلب على صحبة أناس عديدين رجالا ونساء يقفون لك تحية وتبجيلا… إن كنت هكذا أليس من الطبيعي أن تنتظر مثل هذا الثواب؟… بلى…. لذا فمن الطبيعي أن يهبهم الله تعالى جزاء مكافئ عمق نيتهم الصالحة. ويشهد لذلك حديث النبي عليه السلام:: ” لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ” .
العقائد والملل:
رغم النفحة الصوفية التي تعلو كل خطب الأستاذ وجل كتبه فقد وجدته رجلا أعطى للتصوف مذاق خاصا، لاعلاقة له بما داع وشاع من بدع وسقطات رجال يحسبون على التصوف. والأحوط فيه عندي تسميته زهدا وتقشفا، تأسيا بما علمناه عن سيرة السلف الصالح.
و تمييزا له عما يحز في الخاطر صوب ثلة ممن اتصفوا بهذه الصفات فلم يرعوها حق رعايتها. وحتى ننصف هذا الرجل فإني أفضل تصنيف الشيخ القيم ابن قيم الجوزية في كتابه الرائع ” تلبيس إبليس” ووصفه لما كان عليه السلف الصالح وكذا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حيث كان الرجل منهم شديد الشوق إلى الدار الأخرى شديد الاحتياط من الدار الأولى. ونظرا لحرصهم على الأخرى كانوا يؤمنون بأن الأولى هي مزرعتها، فكانوا يتنافسون فيها بوصفها مسلكا ومنبعا لحصاد لا ينضب. هكذا أحب أن أصف هذا الرجل إنصافا له من كل وصف قد يحشره في زمرة لا ينتمي إليها. وإن لم يسعفنا الوقت للتوسع في هذا المبحث فلا أقل من إيراد جملة أمثلة توضح هذا الغرض.
o في التوحيد:
– قال حين توضيحه لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾(الْكَهْف:110) : “…هذه
الآية رد وجواب في الوقت نفسه على الغلو الذي حدث لأنبياء كرام مثل عيسى وعزير عليهما السلام حيث تم رفعهما إلى مقام الألوهية. ولا شك أن من الطبيعي أن يكون لإنسان -ولاسيما إن كان نبياً كريماً- قريب من الله تعالى ولكن هذا القرب لا يكون مبررا ولا مسوغا لرفع أي إنسان إلى مقام الألوهية. ومن أجل التنبيه على هذا الأمر الدقيق يقول الرسول صلى الله عليه وسلم -على الرغم من كمالاته العديدة- “إنني بشر مثلكم”. ولكن هناك فارق واحد بيني وبينكم وهو انه “يوحى إلي” ولكن إلهكم اله واحد. أي تم التأكيد على المساواة في العبودية أمام المعبود الواحد ضمن هذه الفروق. وهكذا نرى أن هذه الآية إلى جانب الرد على من قام بتأليه عيسى وعزير عليهما السلام فإنـها تنبه المسلمين إلى الوضع الحقيقي لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
o توحيد الصفات:
حين إيراده قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ قال: “…ويجب ألا يفهم من كلامنا هذا بأننا نقول بأن النور المذكور في هذه الآية مخلوق. ولكي لا أدع مجالا لهذا الفهم الخاطئ استعملت كلمة: “كأن” عن قصد. أجل!… إن الأنوار الأخرى مخلوقة وخالقها هو الله تعالى منور الأنوار. و نستطيع في هذا الضوء ذكر الحديث النبوي: “أول ما خلق الله نوري” أي أن النواة الأولى التي قذفت إلى رحم الوجود كانت النور المحمدي.
دلالات الألفاظ و التراكيب:
للأستاذ فتح الله إنتاج فكري وعلمي وتربوي متميز، إلا أن تميز الأستاذ كولن في الكتابات الأديبة قليلا ما يعلمه الناس. إن للرجل كتابات في هذا الباب غاية في الدقة والجودة، بداية من الكلام المنثور سواء في باب التأليف أو الخطابة، وانتهاء بالكلام المنظوم. وقد سمعت من كبار تلاميذ الأستاذ عنه أنه قال:” في بعض الحالات يمكنني أن أقول شعرا لمدة ثمانية عشرة ساعة بدون توقف”
إن الأستاذ كولن ملك ناصية المعنى ومن خلاله يروض المباني جملا وتراكيب، حتى غدت لديه عناقيد أفكار متدلية في كل واحات المباني التي يؤلفها تأليفا رقراقا يتسلل إلى القارئ كما إلى السامع بشكل عجيب. فتأمل كلامه: (الكلمة أهم واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى آخر. والذين يحسنون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إيداعها في القلوب وفي الأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود. أما الذين لا يحسنون هذا ولا يستطيعونه فإنهم يقضون أعمارهم في معاناة فكرية ثم يرحلون عن هذه الدنيا دون أن يتركوا أثراً فيها العنصر الأساسي في الأدب هو المعنى. لذا يجب أن تكون الكلمات المذكورة قليلة وقصيرة وغنية بالمعاني. ومع أن البعض حاولوا شرح هذا الأمر كما تناوله القدماء بمواضيع البيان والبديع، أي بفنون التشبيه والاستعارة والكناية والتلميح والجناس…الخ إلا أنني أرى أننا يجب أن نبحث عن الكلام العميق عند المفكرين من ذوي القلوب الملهمة التي تحيط بالوجود وتعرف كيف تتسع قلوبها للوجود كله، وذوي الخيال الواسع الذين نجحوا في رؤية الدنيا والآخرة وجهين لحقيقة واحدة، والذين يملكون إيماناً عميقاً وفكراً تركيبياً قوياً) .
هذا النثر الأدبي البليغ لا يضاهيه في الحسن إلا نمط آخر لاحت به مهج هذا الرجل الهائم بحثا عن رضى الله تعالى،والمجاهد في خدمة البشر من أجل الوصول. لذلك فهو يخطب ويدعو ويتفلسف ويشعر، لم يترك بابا إلا ولجه ولا ساحة إلا طاف بأرجائها. وفي باب النظم له همسات حبلى بالأسرار وصرخات مليئة بالأشعار ، نذكر منها للتمثيل فقط:
((وحيدًا في طريقكَ اِمْضِ،بإرادة كالحديد،وبعزم لا يلين…فإنْ أخفقتَ، فلْيتوارَ العالَمُ خجَلاً…لأنه إليكَ لم يصغِ،
وقلبَه إليكَ لم يَفتح…والقلمُ الذي ينكص عن عَونك،فلْيتكسَّرْ شظايا،وليتحولْ للنار طعامًا،وليذبْ كمدًا وحزنًا..!. الخ ))
وفي كتاب الأضواء موضوع دراستنا يقول الأستاذ فتح الله: “هناك أهمية كبيرة للكلمات وللأفعال وللأساليب التي يختارها القرآن لبيان قصده وهدفه. فقد يأتي بمعانٍ يحتاج بيانها إلى صفحات كما هو وارد في هذه الآيات”.
فهو حين يتكلم عن الكلمات يحكي عن معاناته وتذوقه لتلك الكلمات وما تولده لديه من معاني جزيلة سواء تعلق الأمر بصفاتها المفردة في النظم أو مواضعها ومواقعها في التركيب. وفي هذا الصدد نختار نماذج مضيئة في هذا المنوال.
يقول في إضاته لقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾(الشُّعَرَاء:218-219)
“تَقَلّبَ” من باب “تَفَعَّلَ”، وهذا يشير إلى تكلف شيء وبذل الجهد فيه. أي قيام الإنسان في أمر ما ببذل ما يستطيع وبالإصرار عليه. وهذه هي الصيغة التي يرسمها الله تعالى في وصف سجود رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبذل غاية ما في وسعه لإظهار عبوديته لربه وهو ساجد أي وهو أقرب ما يكون إليه، ويكاد أن يذوب في سجوده. ولكن هناك أمر تجب الإشارة إليه، وهو إن لم يكن هناك شعور قلبي غامر فلا يمكن الوصول إلى مثل هذه الذرى أبدًا. ومن لا يملك مثل هذا الشعور فتظاهره بالخشوع في السجود ليس إلا رياء.ص249.
• و يقول في قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطَّلاَق:2) وهذا الإنسان المحصور في ذلك الوضع الصعب يستخدم كل شي في عالم الأسباب. ولا يبقى هناك باب لا يطرقه، ولكنه مع كل هذا لا يجد سبيل الخلاص. وفي هذه الأثناء يلتجئ إلى الله تعالى مسبب الأسباب فينجده في الحال. وعندما يسند الله تعالى في هذه الآية “الخروج والمخرج” إليه إنما يشير إلى مثل هذه العناية المفاجئة. لأن “المخرج” هنا مصدر ميمي، ويعني الإخراج. وهو في الوقت نفسه اسم مكان ويعني مكان الخروج أو مكان الإخراج. إذن فهذا الإخراج ليس من الأمور العادية، بل هو من الخوارق، وعمل يسند إلى الله تعالى فقط..
• ومنها أيضا ما قاله في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾(مَرْيَم:96) الفعل في
اللغة العربية يفيد التجدد ويدل عليه و﴿آمَنُوا﴾ فعل. إذن فالمؤمنون بعد إيمانهم لا يعرفون الركود، بل يجددون أنفسهم وإيمانهم على الدوام بكشف جديد وفكر جديد وتأمل جديد، فيتوجهون على الدوام إلى آفاق جديدة ومتقدمة. ولا يكتفون بهذا بل ﴿وَعَمِلُوا﴾ أي يعملون ما يوافق إيمانهم هذا. أي يقضون أعمارهم في عمل الصالحات. إذن فهؤلاء الناس المؤمنون ثم العاملون ما يرضاه وما يريده ربهم منهم سيفوزون أولا بحب الله تعالى ثم بحب الناس، أي ﴿سَيَجْعَل لَهُم الرّحْمنُ وُدّاً﴾.
• وفي قوله تعالى :(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾(القَصَص:77) قال: …فٌهمت
هذه الآية الكريمة من قبل الكثيرين على أنها تشير إلى طلب الدنيا على الدوام. ولكن من يعرف شيئا قليلا من اللغة العربية يعرف خطأ هذا الرأي. فمن يدقق في سياق الآية وبدايتها يرى المعنى الآتي: تقول الآية ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ اْلآخِرَةَ﴾، أي اجعل كل ما أعطاك الله وسيلة للدار الآخرة. وفعل “وابتغ” هنا يعني شيئا أكثر من “واطلب”، لأنه يعني: اطلب واستعمل ما آتاك الله من قلب وحس وشعور وإدراك وصحة ومال وولد… الخ -بل وحتى كل استعداداتك الفعلية والكامنة- واستخدمها في طلب الدار الآخرة. ثم تأتي الآية ﴿وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ لموازنة المسألة. .. إذن فتناول الشق الثاني من الآية فقط وتوجيه الأنظار إلى الدنيا فقط وجعلها هي وحدها محور النشاط خطأ فاحش. لأن مثل هذا المعنى يتعارض مع الآية الكريمة ﴿إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَّنّةُ﴾
• وفي قوله تعالى:(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾(هُود:70-71) قال : …كانت قائمة لأنـها كانت تريد خدمة الضيوف. … أو أن الأطوار الغريبة للضيوف جعلتها قلقة ووجلة فبقيت قائمة … حتى تقديم الضيوف البشرى لها، أو حتى إحساسها بالتغيير الذي طرأ عليها وعلى بدنـها. أو أنـها أصبحت حاملاً منذ رؤيتها الملائكة بمعجزة من الله تعالى مثلما حملت مريم عليها السلام. والاحتمال القوى أن سارة عليها السلام كانت آيسة، “أي في سن اليأس”، أي منقطعة عن الحيض لأنـها كانت مسنة. .. لذا فيحتمل أن الحيض بدأ آنذاك وخرج الدم… وفي اللغة العربية تأتي جملة “ضحكت المرأة” بمعنى “حاضت المرأة” وهذا يقوي هذه الملاحظة وهذا الاحتمال والله اعلم.
• ومن عجيب تلمس الأستاذ فتح الله للدلالات اللفظية والتركيبية ما أورد حين حديثه عن قوله تعالى: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(مَرْيَم:17) .
و نظرا لما لاحظته من قول طريف للأستاذ فتح الله في هذه الآية قدرت أن يكون في بعض التفصيل بخصوصها شيء من الإفادة. وقد آثرت أن أقدم كلام ثلة من الأعلام الأخيار ثم أختم برأي الأستاذ فتح الله في القضية.
قال الإمام الطبري في معنى قوله تعالى(روحنا): حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
{فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا} قال: أرسل إلـيها فـيـما ذُكر لنا جبريـل.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: وجدت عندها جبريـل قد مثله الله بشراً سوياً.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قوله: فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا قال: جبريـل. حدثنـي مـحمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيـل بن عبد الكريـم، قال: ثنـي عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب، قال: سمعت وهب بن منبه، قال: أرسل الله جبريـل إلـى مريـم، فَمَثَلَ لها بشراً سوياً. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ، قال: فلـما طهرت، يعنـي مريـم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهو قوله: { فأرْسَلْنا إلَـيْها رُوحَنا فَتَـمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا } يقول تعالـى ذكره: فتشبه لها فـي صورة آدميّ سويّ الـخـلق منهم، يعنـي فـي صورة رجل من بنـي آدم معتدل الـخـلق.
– و قال مكي بن أي طالب القيسي : ثم قال تعالى: { فَأَرْسَلْنَآإِلَيْهَآ رُوحَنَا} .قال قتادة وابن جريج ووهب بن منبه:
هو جبريل صلى الله عليه وسلم. وقيل: الروح: عيسى، لأنه روح الله وكلمته أَلقاها إلى مريم. وقيل: معناه، فدخل الروح في مريم فتمثل لها بشراً سوياً. أي تمثل فيها، يعني عيسى. قال أبي بن كعب: ” كان روح عيسى بن مريم من الأرواح التي أخذ الله تعالى ذكره عليها الميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل من فيها، فحملت بعيسى عليه السلام”. والله أعلم بذلك كله.
والصحيح أنه جبريل عليه السلام لقوله: ” فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً ” لأن عيسى بشر، ومعناه فتشبه لها في صورة آدمي، سوي الخلق، معتدله. وإنما سمي جبريل صلى الله عليه وسلم روحاً، لأنه يأتي بما يحيي به العباد من الوحي، ولهذا سمي عيسى أيضاً روحاً، وسمي القرآن روحا..
– قال ابن عطية: ” الروح ” جبريل، وقيل عيسى، حكى الزجاج القولين. فمن قال إنه جبريل قدر الكلام فتمثل هو
لها. ومن قال إنه عيسى قدر الكلام فتمثل الملك لها، قال النقاش ومن قرأ ” روحنّا ” مشددة النون جعله اسم ملك من الملائكة ولم أر هذه القراءة لغيره. .
وقال جلال الدين السيوطي: وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن أبي صالح رضي الله عنه في
قوله: { فأرسلنا إليها روحنا } قال: بعث الله إليها ملكاً فنفخ في جيبها، فدخل في الفرج. وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة رضي الله عنه في قوله: { فأرسلنا إليها روحنا } قال: جبريل. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر، عن سعيد بن جبير في قوله: { فأرسلنا إليها روحنا } الآية قال: نفخ جبريل في درعها، فبلغت حيث شاء الله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطاء بن يسار: إن جبريل أتاها في صورة رجل فكشف الحجاب، فلما رأته تعوذت منه، فنفخ في جيب درعها فبلغت، فذكر ذلك في المدينة، فهجر زكريا وترك، وكان قبل ذلك يستفتى ويأتيه الناس، حتى إن كان ليسلم على الرجل فما يكلمه..
– و قال الأستاذ فتح الله كولن في هذه الآية مدرجا معنى جديدا من معاني الروح الوارد في الآية الكريمة: “ماذا كان هذا الروح؟
تقول معظم التفاسير بأن كلمة “روحنا” الواردة في هذه الآية تشير إلى جبريل عليه السلام. وهناك خلاف في تعيين المقصود من الروح. وحدود الاحتمالات تتجاوز إطار الخلاف، وهي واسعة إلى درجة أنـها تستوعب روح رسولنا صلى الله عليه وسلم أيضاً. أجل!… هذا محتمل أيضاً. لأن مريم العذراء عليها السلام كانت امرأة عفيفة جداً ونـزيهة جداً. لذا لم يراود مخبلتها أيُّ خيال يمكن أن يقدح بـهذه العِفّة والنـزاهة، وما كان يجوز لها ذلك. وما كان يجوز أن ينظر لها إلا محرم لها. وهذا المحرم هو نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه أشار في أحد أحاديثه أنه عقد نكاحه على مريم. لذا كان ضمن الاحتمالات الواردة أن هذا الروح المتمثل لها كان روح نبينا. ولكن هذا ليس شيئاً قطعياً. وما لم تتقو الاحتمالات بالأدلة فهي تبقى مجرد احتمالات لا غير.
– ونختم بقوله في الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾(الأَنْبِيَاء:10) حيث توسع في الدلالات المحتملة للآية حيث قال: “يبين الله تعالى مخاطباً الأوائل الذين أنـزل إليهم الكتاب، ثم الذين من بعدهم عن طريق الدلالة والإشارة إلى أنه أنـزل إليهم كتابا فيه شرفهم ورفعتهم، ويذكرهم بهذا بصيغة تأكيدية ليوجههم إلى آفاق الشكر والحمد. نستطيع ذكر ما يرد للخاطر من هذا الذكر:
1- التذكير بالوسائل الحقة وبالوسائل الصحيحة كالأوامر والنواهي المتوجهة لأهداف حقة. ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ (الزخرف: 44).
2- قد يكون الذكر بمعنى الوعظ والنصيحة لأن “الدين النصيحة” كما جاء في الحديث الشريف الشامل الذي يشير إلى هذا الخصوص. والآية الكريمة في سورة الذاريات تؤيد هذا ﴿وَذَكّرْ فَإنّ الذّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55).
3- في غياب الأمم المحيطة بكم عن مسرح التاريخ بعد استكمال أعمارها الطبيعية واستهلاكها، فإنكم مرشحون -بفضل هذا الذكر النازل عليكم- للبقاء طوال التاريخ، ﴿أوَلَم يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أطْرَافِهَا وَالله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ (الرعد: 41). ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيَتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (العنكبوت: 67) ففي هاتين الآيتين إيماءتان إلى هذا.
4- وهذه الآية الكريمة تشير لمخاطبيها آنذاك بالوضع الذي سيتبوأونه في المستقبل وتقول إنكم ستشغلون في المستقبل موقعا مشرفا لن تستطيع أمة أخرى بلوغه؛ وإن هذا القرآن سيحفظ لسانكم ولغتكم من الضياع والسقوط، ويبقى مرجعا لكل من يريد فهم دينه. ونجد هذا المعنى في كلمة “ذكركم”. وهي كلمة لا تفيد معنى الموعظة فحسب، بل تشمل أيضاً معنى بقاء ذكركم وعدم نسيانه، وعدم زواله.”
وفي تنبيه منه عزيز، إلى أهمية التأمل في القريب والبعيد من الدلالات يقول:” والسبيل إلى تفادي الالتباس
في هذا الإدراك العقلي، أو هذه المعرفة التي يمكن أن نطلق عليها اسم البصيرة الوجدانية هي القيام في أثناء السياحة بين الأدلة والإشارات والمؤشرين -علاوة على إلقاء نظرات جانبية على الوجود وعلى الحوادث- بالتوجه نحو منور الأنوار ومصور الأنوار، لكي تستطيع العلوم أن تنقلب إلى معارف، ولكي لا تلتبس على الإنسان مشاعره. والسبيل إلى التوجه والنظر إلى نور الأنوار هو النظر إلى القرآن الكريم الذي هو شمس الشموس ﴿قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُم﴾ (النساء: 174) وإلى مشكاة النبوة لسيد الأنبياء والرسل التي هي قمر أدمغتنا وشمس وجداننا ونظير الشمس والقمر في السماء ﴿وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً﴾
إن عناية الأستاذ كولن بسياق الكلام إفرادا وتركيبا لاتحتاج إلى كبير جهد لملامستها، فهو في جل أضوائه
ينحو هذا المسلك، بل نجد له التفاتات عجيبة تومئ إلى عمق فهمه وبعد مقصده لآي الذكر الحكيم. يقول في سورة النمل وسورة “ص”:﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ﴾
قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية: “سنرى هل ستهتدي الملكة إلى الإيمان أم تبقى ضالة وبعيدة عن الهداية”. وأنا أرى أن هذا غير منسجم مع سياق الآية. وتفسير الآية كما أرى هو: غيروا معالم عرشها لنرى هل ستعرف أنه عرشها أم لا”.
ولكن كلمة “الهداية” هنا لا تعني مجرد معرفة بسيطة بأن المعروض أمامها هو عرشها. فالسياق لا يلائم هذا. فهل هذا العرش -الذي تعرض للتبديل- هو عرشها، أم عرش جديد؟…؟… نرى أن الاحتمال الثاني هو الأقوى، وهو إزالة كل ما يشير إلى الوثنية من صور وزينات. ثم الانتظار ومشاهدة عما إن كانت ستفهم الرسالة والإشارة الموجهة لها عندما ترى عرشها وتهتدي أم لا.
وكان له ذات المسلك في عدد كبير من الآيات الكريمة، نكتفي برأيه حين حديثه عن سورة “ص” في قوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ . فبعد سرده لبعض الأقوال الواردة في معنى قوله تعالى (وَفَصْلَ الْخِطَابِ) يقول مخالفا لتلك الآراء معتمدا على سياق الكلام أيضا حيث يقول: “ولكن ورد في التفاسير الكلاسيكية بأن “فصل الخطاب” يعني قول: “أما بعد!”. ولكن لا يمكن أن يذكر القرآن هذا الأمر في معرض المنة وإعطاء النعمة ويقصد منه مثل هذه الكلمة التي يستطيع كل واحد تقريبا ذكرها. أجل إن هذا فضل من الله ونعمة آتاها داود عليه السلام. لذا فالأولى أن نقول بأن فصل الخطاب هنا يعني القابلية على الحديث حسب عقول الناس وقابلية الخطابة المثلى، واستعمال أسلوب حديث مقنع للجميع لا يدع مجالا للاعتراض والنقاش. ونستطيع أيضا القول بأنه قابلية شرح كل مسألة بشكل واضح بجميع تفاصيلها وفروعها”.