كما قلت آنفا فإن التحديات التي اعترضت مسيرة الأمة الإسلامية ومن خلالها كل بني البشر، إنها وإن اختلفت أشكالها، فإنها تتجدد وتطفو كل حين لكن في حلل جديدة. إلا أن معانات أمتنا كانت أكبر وجروحها أضحت أغور. وهذا ما حرك أعلام الأمة عبر العصور للتصدي لهذه التحديات. وفي هذا يقول الأستاذ ولن:”نعم، إن التداول التاريخي مافتئ يعيد نفسه في تشابه يقترب من التماثل.. .وكذلك هو الحال الذي نحن فيه اليوم؛ ففي العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، ترى شعوبا في بلاد من الأرض يسابقون العصر ويسبقون غيرهم بأشواط تذهل العقول؛ فيطأون بقَدمٍ القَمَرَ، وبأخرى كوكبا غيره… في حين أن آلافا من الذين خاب حظهم في بلاد مظلمة من الأرض، يئنّون وجعًا في براثنِ بداوةٍ وبؤس موروثٍ من ألف عام”.
إلا أن الأستاذ كولن يتميز بصفة قليلة الحظ عند غيره وهي نفس الأمل واليقين العجيب الذي لا يغيب في كل مكتوباته، بل أكاد أجزم أنها روح تخالط منهجه المكتوب والمسموع. منهج مشفوع بالنظر بعين العطف على كل الناس آملا في ألا يحرموا مما قد يصيب أمة الإسلام من خير. مبشرا بجيل جديد وبعصر جديد عبر انبعاث إيماني زاه متعدد الألوان بفضل المستوى الفكري والثقافي للإنسان المعاصر. حيث يقول:”وينبغيأن لا نرتاب في أن إنساننا وبخاصة الأجيال الفتية منه، سيكونون في القابل القريب أصحاب القول الفصل في سنوات الألفية الثالثة… وحينما يحل الموسم سيؤتي الإيمانُ والعزم والثبات وعشقُ الحقيقة والفكرُ المنهجي بثماره -علما بأن كلا منها طاقة كامنة للقوة في حد ذاته- وسنعيش “انبعاثات عديدةً” تحتضن وحدات الحياة كلها. إن الذي سيحدد ملامح هذا “الانبعاث” القديم قِدَمَ التاريخ البشري والذي يُعَدُّ قَدَرَه الأبيض السعيد… هو المستوى الفكري والثقافي للإنسان المعاصر وأعماقُه الإنسانية وسعتُه الميتافيزيقية ورحابته الروحية …
ولأن تزامن أسباب ذاتية وموضوعية قد خولت فئة من الأنانيين وأرباب المصالح الخاصة تسلق مراكز القرار وقيادة الناس بدعاوى زائفة، ويتحكمون في رقابهم بشعارات براقة فإن المعاركة لازالت بيننا طاحنة. هكذا يرى الأستاذ فتح الله واقع الأمة:” وما زالت المعارك دائرة في ميادين للسياسة، وساحات للمصالح، وممرات للمنافع… وما زال قوم يمنحون نصيباً للأطماع والرغبات ويوقعون الشعب في حيص بيص بادعاء إنقاذ الوطن وتثقيف الشعب والارتقاء بالوطن… لكن أرجوكم أن تدلوني على زمن لم يكن فيه من يشبه هؤلاء! فهم موجودون في كل زمان. وسنجدهم غداً كما نجدهم اليوم! فالتاريخ هو تاريخ الذين يتشاتمون ويفترسون وينصبون الفخاخ ويخونون ويفترون الكذب، كما هو تاريخ الصالحين والطيبين. وهل من حاجة إلى الإسهاب، إذ يكفينا أن نطلع على ماضينا القريب لنمتلئ رعبا؟ فكم من روح اغتيلت بشعار الديمقراطية!.
انطلاقا من هذا التوصيف الدقيق، عقد الأستاذ كولن العزم على التصدي لهذا الواقع المرير، من خلال حرب باردة وعبر معركة قلبها مشاريعنا الذاتية، ورأس حربتها جيل جديد هم أبطال العزيمة وأطباء الفكر والروح، و ميمنتها الشعور بالهم المقدس تجاه الأمة، وميسرتها مؤسسات ملية لا تستجدي أحدا في كل مجالاتنا العلمية والاقتصادية والأسرية وغيرها. فتأمل هذا الكم الطافح بالمسؤولية المشفوع بالهم العظيم:” لقد آن الأوان، بل يكاد يفوت، لكي نتحمل مسؤولياتنا إزاء مؤسساتنا في كل مجال مثل الدين والعلم والفن والأخلاق والاقتصاد والأسرة، ونسمو بها إلى مواقعها الحقيقية في مسيرة التاريخ. ونحن -كأمة- ننتظر ونترقب طريق أبطال العزيمة والإرادة والجهد الذين يحملون هذه المسؤولية. فنحن لسنا بحاجة إلى حسنات ونُظُم فكرية تُستجدَى من الخارج أو الداخل، بل حاجتنا الماسة هي إلى أطباء روح وفكر يحفّزون في كافة أبناء أمتنا حس المسؤولية وشعور الهمّ المقدس… أطباء روح وفكر يُمَكّنون أرواحنا من الانفتاح إلى أعماق الماوراء وآفاق الغيوب بدلاً عن وعود السعادة المؤقة الزائلة، ويرفعوننا بخطوة واحدة إلى مراتب نرى فيها المبدأ والمنتهى معًا وسوية.
بعد ذلك لم يكتف الأستاذ كولن بالتوصيف الدقيق كما يفعل العديد من الناس، بل ينطلق مسرعا وكأنه يسابق الزمن من أجل إعداد هذا الجيل الموعود، وتخريج هذا الفوج النموذجي الذي قلده مهمة استرجاع إرث الأمة الضائع. الشيء الذي كلفه إعلان النفير العام من أجل إنقاذ الناس من اللوثيات التي ملأت كل المساحات في هذا العصر. نعم إن سبيل الخلاص من الاضمحلال والهدر في شِباك كل هذه السلبيات، هو إعلان النفير العام لإعداد أطبّاء الروح والمعنى، الذين يملؤون كل الفراغات في كياننا، ويزيلون نقاط الضعف في نفوسنا، وينقذوننا من عبودية الجسم والبدن ويقودوننا إلى مستوى الحياة القلبية والروحية.. هذا الفريق يسع صدره لكل الناس؛ من الطفل الملتزم والمؤدب في المدارس، إلى أبناء الوطن السائبين وغير المنضبطين في الأزقة والشوارع. ويُفرِغ في كل صدرٍ إلهاماتِ روحه، ويربّيهم دهاة مؤهلين بعلوم الغد ومهاراته ويُعِدّهم لفائدة المجتمع، ويرفع كل إنسان وكل شريحة إلى الكمالات الإنسانية بالتطهر من لوثات العصر في صفاء مآوي النور ومجمّعات إقامة الطلاب وبيوت الطلبة والمدارس والجامعات والمعابد والتكايا.
ولأن السفر طويل والحمل ثقيل كان لابد من زاد يناسب طبيعة ومهمة هؤلاء الورثة. ولله ضر ها الرجل، حين قام بتوصيف دقيق لما يجب أن يكون عليه أولئك الورثة من خصال، ثم سعيه المستميت في تجسيدها واقعا بعد فكر. أوصافا وإن تحدث عنها غير مامرة في غير ما مكان إلا أنه توسع في الحديث عنها وأعارها من الاهتمام حيث جعلها واسطة عقد مشروعه الكبير. ولولى خشية الإطالة لنقلتها مفصلة إلى القراء الأفاضل، لكني سأختصرها كما يلي:
الوصف الأول لوارث الأرض هو الإيمان الكامل. فالقرآن العظيم يضع “الإيمان” هدفا لخلق الإنسان؛ ذلك الإيمان المشتمل على الأفق العرفاني وروح المحبة وبُعدَي العشق والشوق وألوان لانهائية من الأذواق الروحية… فالإنسان لا يستطيع أن يستشعر ذاته، والأعماق في ذاته، ومقاصد الوجود وغاياته، ويطلع على كنه الكائنات والحوادث وما وراء ستار الأشياء… إلاّ في ضياء الإيمان.
الوصف الثاني للوارث هو العشق الذي يُعد أهم إكسير للحياة في الانبعاث من جديد. إنّ من يُعَمِّر ويجهِّز قلبه بالإيمان بالله وبمعرفته، يحس حسب درجته بمحبة عميقة وعشق أصيل لكل البشر، بل لكل الوجود.
الوصف الثالث للوارث هو الإقبال إلى العلم بميزان ثلاثية العقل والمنطق والشعور. وهذا الإقبال يأتي في أوانه إذ يشكّل استجابة لمطلب بشري عام في وقت انجرفت فيه البشرية وراء فرضيات غامضة مظلمة وإنها لخطوة خطيرة نحو خلاص الإنسانية عامة.
الوصف الرابع للوارث هو إعادة النظر في قراءته للكون والإنسان والحياة، وبالتالي مراجعة تصوراته الصحيحة منها والخاطئة.
الوصف الخامس للوارث هو أن يكون حرًّا في التفكير وموقِّرًا لحرية التفكير. إن التحرر وتذوق حس الحرية عمقٌ مهم لإرادة الإنسان وباب سحري ينفتح على أسرار الذات. ومن العسير أن نصف بـ”الإنسان” مَن لم ينطلق في ذاك العمق ولم يلج من ذاك الباب. ومنذ سنين وسنين ونحن نلتوي ألَمًا في طوق الأسر الخارجي والداخلي الرهيب.
الوصف السادس علينا إذن أن نكون أفسح في حرية الفكر وحرية الإرادة في مسيرتنا نحو عوالم مختلفة، سواء في سلوكنا مع الآخرين، أو من زاوية أنانيتنا الذاتية وتمسكنا برغباتنا. فالحاجة ماسة اليوم إلى صدور متسعة تحيط بالتفكير الحر وتنفتح على العلم والبحث العلمي وتستشعر التوافق بين القرآن وسنّة الله على الخط الممتد من الكائنات إلى الحياة.
الوصف السابع للوارث هو الفكر الرياضي. لقد حقق الأوائل في آسيا في الزمن الماضي، ثم الغربيون، نهضتهم بفكر القوانين الرياضية. ولقد كشفت الإنسانية في تاريخها كثيرًا من المجاهيل والمغلقات بعالَم الرياضيات المفعمة بالأسرار. فإذا تركنا التصرف المفرط للحروفية جانبًا، فإنه لولا الرياضيات لَما توضحت المناسبات بين البشر ولا بين الأشياء.
الوصف الثامن وهو رؤيتنا الفنّية. لكني بناء على ملاحظات معيّنة، أكتفي هنا بقول جولفر: “بعض الأوساط ليست على استعداد حتى الآن للانخراط في هذه المسيرة بمقاييسنا.”
هكذا حدد الأستاذ كولن صفات دقيقة لمن يلج هذه الحرب الباردة التي أتعبت جل الأبطال منذ عهد بعيد. وسيرا على نفس الخطى لازلنا في هذا الزمان نجد من يعتبر الوصول إلى النهوض بأحوال الأمة بله الإنسانية جمعاء، قد تكون من أي طريق إلا طريق الإيمان والقرآن. ودع عنك تعبير الركيك واستمع مباشرة إلى الأستاذ وهو ينبع إلى هذه الأمور:”قد يمط بعضهم شفتيه استخفافًا إذا ما ذُكِرتْ القيم الأخلاقية والأعماق الداخلية للإنسان وأهمية الحياة القلبية والروحية؛ لكن ما من شك في أن السبيل الواصلة إلى الإنسانية الحقيقية تمر عبر هذه القيم والحركيات السامية. ومهما كانت ظنون وتصورات البعض منا، فإنه ليس اليوم أمام إنساننا المعاصر الذي انقصم ظهره، …إلا هذا النمط من الشعور بالمسؤولية وعزيمة الهمة العالية وإرادة القيادة الإرشادية… والتي تشكل أكثر المقومات حيوية في النظام الشامل للعالم كلاًّ وجمعًا، وأهمّ مصدر للأمان الكوني.. هذه المسؤولية والعزيمة والإرادة هي الأساس الوحيد لخلاصنا، كما هي الصوت النافذ واللسان البليغ الذي ينشر الروح والمعنى اللذين تحتاج إليهما الإنسانية جمعاء” .
هكذا ينطلق الأستاذ في مشروعه غير آبه بمنتقديه ولا راد على معارضيه، ثابت الخطى شديد العزم قوي الإيمان بما وعد الله أوليائه المخلصين. متسلحا بحب للجميع متسامحا إلى أبعد الحدود، في كل الاتجاهات وفي شتى المجالات وكأنه أمة لوحده.
“واليوم، هـذا النفير التربوي بأسمائه وعناوينه المتنوعة، وهذا الجهد المنصرف إلى الحب والتسامح والحوار، هِمّة مهمة في سبيل لملمة شعث المجتمع وتحريك مصادر قوته المعنوية… همة تفي بإنقاذ سفينة الشعب الجانحة بالساحل، على أيدي أجيال مؤمنة مشدودة الأوتار بالميتافيزيقي الغيبي… ورجائي أن يكون كل جهد وهمة، وكل قطرة دمع، بعد الآن كما كان من قبل، شفاءً لجروحنا التي بدت مستعصية على الدواء، وضياءً للمستقبل الذي بدا مظلما في عيون البعض منا.
العجيب في منهج هذا الرجل العملاق هو أنه لايحمل هم الأمة فحسب بل هو مهموم بما تعانيه الإنسانية في كل أقطار المعمور . ذلك أنه يعتقد جازما في صلاحية فكرنا الملي وغنانا الثقافي وفلسفتنا الأخلاقية وغر ذلك كثير، دواء لما تعانيه الإنسانية من أدواء. حين يقول:” ثم يكون فكرنا الحضاري وغنانا الثقافي كسلعة رائجة في كل أقطار الأرض، فنغدو اليد المعطاء التي تقدم في ارتياح هبات فكرنا الإنساني وفلسفتنا الأخلاقية وفهمنا للفضيلة ومتلقياتنا للعدالة. وبفضل هذا الوضع والمستوى أيضاً، تنبجس الحركيات الإدارية والأصول الاجتماعية والاقتصادية في الدولة، كما في مصادرها الأخرى، من الروح الذاتية للأمة، فتتحرر من أنواع “المقيِّدات” كلها.
وهذا الدور الريادي ليس ادعاء من الأستاذ، بل هو مؤمن بأن الإنسان المؤهل للقيام بهذا الدور العظيم، هو الذي يفيض بالأوصاف العالية التي أطال الحديث عنها في كثير من كتاباته كما في دروسه. فاستمع إليه: ” الإنسان الحقيقي هو الإنسان الذي يعرف النقاط المشتركة بينه وبين الأحياء الأخرى. ويؤدي وظيفته في إدامة النسل بشعور من المسؤولية وبالبقاء ضمن الحدود الضرورية لأداء هذه المهمة. أما الإنسان الذي يركض وراء رغباته الجسدية وشهواتها فإنه يكون قد قلص المسافة بينه وبين الأحياء الأخرى…افتح صدرك للجميع… افتحه أكثر ما تستطيع… ليكن كالبحر… لتمتلئ بالإيمان وبمحبة الإنسان… لا تُبق خارج اهتمامك أي قلب حزين لا تمد له يدك”.
لكنك قد لا تستغرب من طموح هذا الرجل اللامحدود إن علمت أنه هائم برجل هو قدوته في هذا الدرب، ونموذجه في هذا البناء، رجل مصطفى، هو رمز الصمود والوفاء، صاحب الرسالة والشفاء، إنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم.”هو باني الإنسانية من جديدٍ ، ولا يزال، وسيبقى بانياً، في أمسها ويومها وغدها. وكما بدل في عصره بجملة واحدة، وبنفخة واحدة، مفاهيمَ ضالةً، وسلوكيات غير إنسانية، وانحرافاتِ سوءِ الأخلاق والمزاج المغروسة في الطبائع من آلاف السنين، فسيُسمِع صوته -يقيناً وحقاً- للجموع المنفلتة، المنفرط عقدها اليوم، ويضبطهم بضوابطه إن عاجلاً أو آجلاً، ويظهر قوة رسالته… وسمِّه -إن شئت- تجديد القراءة السديدة والتفسير الصائب في حقيقة (الإنسان والكون والألوهية) مرة أخرى.
هكذا يعلنها مدوية: “تجديد القراءة السديدة والتفسير الصائب في حقيقة الإنسان والكون والألوهية”. إنه مشروع طالما تشدق به بعض من ينتسبون للتنوير والحداثة. مشروع لم يكتف الأستاذ بالتنظير له، ولا التبشير بحلوله السحرية، ولا التهجم على الأفكار الملية، ولا الحط من المقدسات الإسلامية. مشروع نسغه القرآن الكريم وبيان محمد الأمين. مشروع تزاحمت المحاولات للنهوض به دون جدوى، حتى تعب الأولياء من كثرة انتظاره، وشمت الأعداء في غيابه. مشروع أبهت كل المشاريع المنافسة ولا يزال، وذلك لأنه يرتشف من بحر لا ساحل له. فقط يحتاج كل ذلك فهما لهذا القرآن جديد، وتفسير يتصدى له ورثة أطباء الروح والمعنى في هذا العصر الوليد، و يتمثله بين الناس وعبر الآفاق جيل فريد. ” وضع القرآن الكريم أفضل نظام اجتماعي لأفضل مجتمع قبل أربعة عشر قرناً، ولكننا لم نفهم نحن هذا بعد، لذا لم نستطع شرح هذه الوجهة الاجتماعية للقرآن كما يجب أمام المبادئ الأخرى من رأسمالية وشيوعية وفاشية وليبرالية. نحن لم نقصر فقط في فهم القرآن من ناحية المسائل الاجتماعية، بل لم نفهم كذلك المسائل الأخرى له فيما يتعلق بالحياة الإنسانية. ووظيفتنا الآن ومهمّتنا هي القيام بشرح كل هذه المسائل وتقديمها كوصفة علاج لأمراض الإنسانية وأدوائها…وعندما نقوم بهذا بإذن الله تعالى سيبدو واضحاً كيف أن القرآن الكريم آت من نبع عميق، قد لا يتم حدس مبلغ هذا العمق ظاهريًّا، ولكن سيرى الجميع كم من حقيقة علمية موجودة فيه.
وبعزم الصادقين ويقين المتقين يدعو الأستاذ فتح الله كل من يؤمن بهذا الدرب ويحمل هذا الهم أن يأخذ موقعه من أجل انبعاث جديد وإلا سنكون أمام موت أبدي. “والأمر الوحيد الذي ينبغي أن نعمله اليوم هو أن نهرع إلى أخذ موقعنا في التوازن الدولي بالشعور الجاد بالمسؤولية وبهويتنا الذاتية ومن غير هدر للزمن. فإن تَلَكَّأنا في تعيين هذا الهدف، فقد نعجز عن إدراك الغد، بَلْهَ التقدمَ والتطور. فنحن اليوم أمام أحد خيارين: إما الكفاح المصيري في الهمة والذي يؤدي بنا إلى “الانبعاث”… وإما الخلود إلى الراحة والاسترخاء الذي يعني “الاستسلام للموت الأبدي”.
يُعتبر الاعتماد على القرآن الكريم قراءة وفهما وتفسيرا وتمثلا، واسطة عقد هذا المشروع “الكولاني” النموذجي. وقد يكون فهم الأستاذ كولن الخاص للقرآن الكريم راجع إلى خصاله الناذرة، التي أهلته للارتشاف من معينه الذي لا ينضب، ويهتدي بهديه الذي لا يخيب، ويستعين بمعيته التي لا تقهر. فتأمل قوله:” إن القرآن الكريم يحثنا على تجديد الذات والحفاظِ على جدتنا بالعرض المتكرر لقضيةِ أن “نكون” أو “لا نكون”، بقوله تعالى: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ﴾ ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ وآيات كثيرة أخرى شَرَّفَتْنا بالنـزول، نكتفي بإيراد هذه النماذج منها لأنها -على ما أعتقد- تفي بالمقصود.ومن المحتمل بقوة أن الْمَعْنِيِّينَ اليوم في الآيات الكريمة بالإذهاب والاستبدال هم النفوس الميتة وسكانُ العالم الثالث الذين لم يجددوا أنفسهم وفشلوا في الحفاظ على حيويتهم وفرَّطوا في حق إيمانهم وتفحمت عوالمهم الداخلية -مع تقديرنا مبدئيا لجوهر الإيمان الذي يحملونه-. أما الآتون بدلا عنهم، فإنهم “الجيل الجديد” وكادر القدسيين، الذين أتموا التحفز المعنوي بطول الشحذ والتعبئة منذ قرون في دنيا المحزونين والمغمومين هذه، والمرشحون للارتقاء بإنساننا المستصغر والمستهان به إلى ذرى قيمٍ فوق القيم.”
تأمل أخي القارئ كيف تنساب الدلالات بعد العبارات وراء الكلمات، طيعة على لسان هذا الرجل؛ وتزداد انسيابا كلما تعلق الأمر بكلام رب العالمين. فالأستاذ كولن حين يفسر آيات القرآن ينتابك إحساس بأن علاقته به تتجاوز الزمان والمكان، و قبساته من معانيه تحتل القلوب دون استئذان. أما استحضاره في كل القضايا والمستجدات فلا يعجزه برهان. يقول:”إن الزمن كلما شاخ وتقدم في العمر ونضج وتكامل وقرب من أشراط الساعة ومن “آخر الزمان” كلما لمعت حقائق القرآن كالنجوم اللامعة في كبد السماء بالنسبة للمحققين والباحثين، وتبينت سلامته ومتانته وعمق تعاليمه، وأصبح أكثر إقناعاً لقلوب الناس. فبعبارة أخرى كلما تقدم الزمن تجدد شباب القرآن، وانفتحت أبواب جديدة أمام العقل من دون تعطيل للإرادة الإنسانية، وسيهتف عند ذلك الكثيرون: “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
قد أجد نفسي عاجزا عن الوفاء بالشهادة التي أومن بها صوب هذا الرجل حقا وصدقا، وقد يرى بعض الفضلاء غير الذي ظهر لي بخصوص أحواله وأقواله، لذا وإتماما للإفادة، قدرت أن إدراج أقوال بعض الباحثين الكبار ممن لا تربطهم بالأستاذ ومشاريعه غير المشترك العلمي؛ وحتى لا أطنب في الحديث سأقتصر على رأي الأكاديمية بجامعة “رايس” الأمريكية الدكتورة جيل كارول. وذلك في المبحث الموالي.
2. إقرار عدد من الباحثين بهذا التوجه.
قد نستأنس بما يقرره أصحاب التوجه الإنساني في العصور الأخيرة، من خلال محاولاتهم فهم الإنسان بشكل عميق عبر ما يحتضنه من نوازع تتحكم فيه انطلاقا من غريزتي المادة والسمو. ففي الأولى يشترك مع الحيوانو تخيم عليه الفردية والأنانية. وفي الثانية تسيطر عليه قيم الأخلاق والدين وحب الاستطلاع. حتى يتجاوز أنانيته ومصالحه الفردية، إلى قيم أخلاقية عقلية وعلمية بشكل فطري. حتى يتحرر من قيود الطبيعة نحو فهمها والسيطرة عليها. فيبلغ ذروة التحرر حين يوثق ارتباطه بالعقيدة والإيمان. وهكذا يكون الإنسان صاحب المبادرة وليس مجرد إنسان مدفوع.
إن أصحاب التوجهات الإنسانية متعددون في شتى مناحي الحياة، و أنا أقدر أن أصحاب التوجهات الفلسفية قد حازوا قصب السبق في هذا الاتجاه. وانسجاما مع موضوع دراستنا، “نحو تفسير إنساني” من خلال كتاب “أضواء قرآنية” للأستاذ فتح الله، وتأكيدا لهذا التوجه لدى الأستاذ، فقد شدني ما كتبه العديد من الباحثين في هذا الباب، إلا أن عمل الأكاديمية جيل كارول بالنسبة إلي، كان له طعم خاص. وذلك من زاويتين. الأولى مقارنتها من خلال منهج حواري حضاري بين نصوص بعض عمالقة الفكر الإصلاحي الفلسفي. والثانية رصدها للجانب الإنساني عند هؤلاء وعند الأستاذ فتح الله كولن،.
إلا أنها وقبل فتح الباب أمام هذه الحوارات النصية، حددت مقصدها من الفلسفة الإنسانية التي اتخذتها مطية منهجها مع توضيح دواعي اختيارها لهؤلاء الأعلام حيث قالت:”ويدفعني موقع أفكار كلٍّ من هذه الشخصيات في مجال الإنسانيات (في مقابل العلوم) إلى وصفهم – بمن فيهم كولن- كمفكرين إنسانيين،…وقد اخترت في هذا العمل أوسع تعريف ممكن للفلسفة الإنسانية،…فإن هذا الشكل من الفلسفة الإنسانية لا ينكِر بأي حال فكرةَ الدين أو الإيمان بالله، بل إن العلماء المسلمين – والعلماء المسيحيين السائرين على خطاهم- يعدون أمثلة كبرى على هذا الشكل الواسع من الفلسفة الإنسانية المتدينة… إن هؤلاء المفكرين يهتمون بالتساؤلات الأساسية عن طبيعة الواقع الإنساني والحياة الإنسانية الصالحة والدولة والمبادئ الأخلاقية، كما توصلوا إلى نتائج متشابهة في العديد من هذه القضايا.”
لقد غدا العالم في ظل التحديات المعاصرة التي زادها التطور التكنولوجي سرعة وتعقيدا، قرية صغيرة، تقلصت فيها المسافات واختلطت الأعراق واللغات، وتشابكت فيها المصالح والحاجات، مما جعل الكثير من النخب تفكر في المناهج والمشاريع الناجعة لمواكبة هذه التطورات وحل تلك المعضلات. وبذلك أبحت الإنسانية في أمس الحاجة إلى حوار هادئ يواكب طي المسافات ويصون المصالح والمكتسبات. وفي هذا الصدد تقول الدكتورة ” جيل كارول”: “والذي يهمني بشدة هو المحاورة بين أفراد لديهم وجهات نظر متباينة، كما أنني أُومِنُ بأن هذا النوع من الحوار هو ما نحتاج إليه في هذا العصر الذي دَفعت فيه العولمةُ ووسائل الاتصال والتكنولوجيا الأفرادَ والجماعاتِ إلى التجمع معًا بطريقة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل. فالبشر في القرن الحادي والعشرين يتفاعلون ويتأثرون أكثر من أي وقت مضى بأفراد وجماعات مختلفة عنهم تمام الاختلاف. ونحن نواجه بشكل متزايد أفرادًا وجماعات أفكارهم تختلف تمامًا عن أفكارنا … ففي هذا العصر الذي يتميز بترابط عالمي، يجب علينا تطوير القدرة على الحوار وإنشاء نقاط اتفاق مع من يختلفون عنا بشكل كبير. وجزء من هذا المشروع هو إيجاد أفكار ومعتقدات وأهداف ومشروعات”.
بناء على هذه الرؤية درست هذه الباحثة سيرة الأستاذ كولن، ورصدت أهم الأحداث التي ساهمت في تشكيل شخصيته ومنهجه الإنساني.لقد كان كولن خلال مسيرته كواعظ في تركيا وكعالم ومعلمٍ ومصدرِ إلهام للناس في جميع أنحاء تركيا وخارجها مناصرًا للحوار كالتزام ونشاط ضروري في العالم المعاصر، …فرغم أن حياةالبشر تختلف في تفاصيلها من عصر لآخر، فإن الطبيعة العميقة للحياة الإنسانية -وما تستثيره من تساؤل وقلق- لم تتغير.
بعد ذلك تصدح شاهدة على الإنسانية الدفينة لدى الأستاذ كولن و ترجع مصدرها إلى ارتباطه المتواصل بالقرآن الكريم، لتخلص إلى تشابه المنهج الإنساني لدى كل من الفيلسوف كانت والأستاذ كولن، رغم اختلاف منطلقات الرجلين. إذ تقول: “ويعتبر عمل كولن مثالاً للباحث الإسلامي الذي يؤكد على “الصوت” القرآني، مع الإصرار على الجمال والقيمة المميزين للبشر. وفي الحقيقة، يجد كولن في القرآن وغيره من المصادر الإسلامية إشارات قوية إلى الكرامة الإنسانية في المقام الأول، وهو لا يربط مثل هذه الإشاراتبالقرآن بعد تحديدها عن طريق وسائل أو مصادر مختلفة. ويشير كولن بشكل متكرر إلى أجزاء من القرآن عند الإجابة على أسئلة عن
الجهاد والعنف والإرهاب واحترام الحياة الإنسانية بشكل عام (وليس حياة المسلم فقط). وفي هذه الأقسام من أعماله، يتضح تناغم كولن مع أفكار كانط، رغم أن كلاً منهما يؤسس تعبيراته الخاصة عن القيمة الإنسانية الأصيلة والكرامة الأخلاقية من منظورات مختلفة اختلافًا كليًا.
ثم تنتقل هذه الباحثة للتقصي مكانة قيمة الإنسان في مختلف أعمال الأستاذ كولن. لتعلم بعدها أن الأستاذ يعتبر الإنسان سر الوجود، وذلك حين قوله:”إن البشر -وهم أعظم مرآة تعكس أسماء الله وصفاته وأعماله- يمثلون مرآة لامعة، وهم إحدى ثمار الحياة الرائعة، ومصدر للكون بأكمله، وبحر يبدو كقطرة صغيرة، وشمس تشكلت كبذرة ضئيلة، ولحن عظيم رغم مكانتهم المادية المتدنية، وهم سر الوجود كله مجموعًا في جسم صغير. إن البشر يحملون سرًا مقدسًا يجعلهم يساوون الكون بكامله بما يمتلكونه من ثراء في شخصيتهم، وهو ثراء يمكن أن يتطور إلى تفوق.” ويستمر كولن فيقول: “إن الوجود بكامله يصبح كتابًا مفتوحًا مع الفهم والبصيرة الإنسانية فقط…عندما يتصل هذا الكون غير المحدود -بكل ما فيه من ثروات ومقومات وتاريخ- مع الإنسانية، يتضح لماذا تتجاوز قيمة البشرية قيمة أي شيء آخر… فالبشر -في الإسلام- لهم السيادة ببساطة لأنهم بشر.
و يشير الأستاذ كولن إلى ذلك النفاق والعنف الموجودين في الكثير من حركات الحداثة التي تدعي أنها إنسانية، وقد ذكر بشكل عابر من يرتكبون فظائع مماثلة باسم الدين، وما نلاحظه في الحالتين هو غياب “عقيدة المحبة والإنسانية” الصادقة التي ينبني عليها كلاهما في شكلهما الحقيقي. هنا يأتي الإسلام -في رأيه- ليشترك مع “الفلسفة الإنسانية الحقيقية” في الالتزام بحب الإنسانية، مع الفارق في أن الإسلام يستمد ذلك الالتزام من القرآن الذي نزل به الوحي، بينما تستمده الفلسفة الإنسانية من مصادر أو طرق أخرى..ورغم كل شيء، يمكننا القول: إن تلك النظريات عن القيمة المتأصلة للكرامة الأخلاقية للبشر -سواء قال بها مفكرو التنوير الغربي أم علماء إسلاميون يتبعون تفسير القرآن أم غيرهم من أي مذهب كان- تلعب دورًا حيويًا في هذا العصر.
ويرى الأستاذ فتح الله أن الحفاظ على القيم الإنسانية يثمر السلام والاستقرار وإلا فمصيرها الاضطهاد والإبادة الإبادة. إن المجتمعات التي تُبقي القيمة الإنسانية المتأصلة حية في صميم وجودها السياسي والثقافي تسمح لأبنائها ومواطنيها بدرجة من السلام والاستقرار، وقد وُجدت هذه المجتمعات في كل زمان ومكان عبر التاريخ الإنساني. وعندما تُسقط تلك المجتمعاتُ نفسَها في الاضطهاد والإبادات الجماعية، يكون ذلك في أغلب الأحيان لأنها تركت مبادئ القيمة الإنسانية المتأصلة والكرامة الأخلاقية.
ويذهب الأستاذ كولن إلى أبعد مدى حين ينادي باستيعاب أصحاب الفكر الحر المتجرد المنفتحين على العلم والمعرفة.”علينا أن نكون أكثر حرية في الفكر والإرادة، فنحن بحاجة إلى تلك القلوب الكبيرة التي يُمْكنها استيعاب الفكر الحر المتجرد، والتي تظل منفتحة على العلم والمعرفة والبحث العلمي، والتي تستشعر التوافق بين القرآن وسنة الله في ذلك المدى الواسع الممتد من الكون إلى الحياة”.
هكذا تكون هذه الباحثة نموذجا حيا صارخا مؤكدا على المنهج الإنساني في فكر وسائر أعمال الأستاذ كولن. ونظرا للشرط الموضوعي فقد خصصنا الحديث عن التوجه الإنساني لدى الأستاذ من خلال كتابه “أضواء قرآنية”. و ليس هذا النموذج إلا واحدا من عشرات الآراء والكتابات التي تصب في هذا المنحى، نأمل من خلاله أن نكون قد قربنا الصورة أكثر للتدليل على المنهج الإنساني عند هذا الرجل.