لقد وجدت تركيا نفسها داخل طريق مسدود لا تستطيع الخروج منه، والعالم من حولنا يغلي حنقًا وغضبًا كلما عرض تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الإرهابي مقاطعَ مصورة تظهر وحشيته وعناصره يعدمون الرهائن بقطع رؤوسهم.
اجتمع الكل اليوم لمناقشة مسألة القضاء على خطر تنظيم داعش الذي لم يكن معروفًا لدى كثيرين حتى وقت قصير، وهناك شعور بالقلق إزاء دور تركيا في ظهور هذا التنظيم وتطوره وانتشاره، وبدأ العالم يطور إستراتيجية تحت عنوان: “مكافحة تنظيم داعش”، وتنص هذه الإستراتيجية على اتخاذ حزمة من التدابير لإضعاف التنظيم، منها تجفيف منابع تمويله ماديًّا، وتقييد إمكانيات السلاح لديه، والحيلولة دون ضمّه لمزيد من المقاتلين إلى صفوفه وغير ذلك، هذا فضلًا عن دعم الدول والتنظيمات التي تحارب ضد داعش، وسيتمّ بموجب هذه الإستراتيجية تقديم أسلحة بطريقة غير مباشرة إلى إيران وجنود “مسعود بارزاني” والتنظيمات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.
لقد وقَعت تركيا في موقف حرج للغاية لكونها موجودة في خضم المعمعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حاليًا، فهي من ناحية تتهَم بتقديم الدعم لداعش وغيره من التنظيمات الإرهابية، ومن ناحية أخرى توجَّه إليها أصابع الاتهام بعدم الانضمام لحلفٍ يضم عددًا كبيرًا من الدول الإسلامية التي ستلعب دورًا فعالًا في حرب الحلف ضد داعش، وكان السفير الأمريكي السابق في “أنقرة” “فرانسيس ريتشاردوني”، الذي انتهت مهمته في تركيا قبل أشهر قليلة، قد وجّه اتهامات ثقيلة لتركيا؛ إذ يرى أن الحكومة التركية، على الرغم من كل التحذيرات التي تلقتها من واشنطن، قد دعمت تنظيم جبهة النصرة الذي يعتبر امتدادًا لتنظيم القاعدة في سوريا، وهذا اتهام خطير، وقالت صحيفة “وول ستريت جورنال”الأمريكية في مقالها الافتتاحي: “لم تعد تركيا حليفة للولايات المتحدة”، وهو دليل على الغضب الذي أصاب الجميع إزاء امتناع تركيا عن الانضمام للحلف الذي سيكافح داعش، أما صحيفة “نيويورك تايمز”الأمريكية فقد طرحت ادعاءً أكثر خطورة من ذلك؛ إذ ألمحت إلى أن تركيا شريكة في مبيعات النفط التي يقوم بها داعش، ولهذا فإنها لا توقف تدفق النفط إليها على الرغم من الضغوط الممارسة عليها، ونفهم من ذلك أن تركيا توجَّه إليها من ناحيةٍ اتهاماتٌ بأنها سبب في تقوية شوكة التنظيمات الراديكالية في المنطقة، ومن ناحية أخرى تتهَم بالتواني عن تقديم المساعدة لمكافحة هذه التنظيمات، وهل هذه الاتهامات تأتي من جانب واشنطن فقط؟ لا.
كُشف النقاب قبيل قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأخيرة في ويلز، وهو أمر له مغزى، أن جهاز الاستخبارات الألماني تنصت على جميع المسؤولين في تركيا، واطلع على أشد أسرار الدولة، المتعلقة بالأمن، سريةً، وعندما نشرت الصحف الألمانية هذه الحقيقة، انتظر كثيرون أن يزأر المسؤولون الأتراك إزاء هذه الفضيحة، غير أنه أصابتنا خيبة أمل كبيرة، ذلك أن أنقرة لم تُبدِ رد فعل غاضب إزاء فضيحة التنصت التي اعترفت بها السلطات الرسمية الألمانية، ومن الواضح أنها لم تقدر على إظهار رد الفعل الغاضب هذا، وأفضى هذا الصمت إلى طرح سؤال مفاده: “مما تخاف تركيا حتى تفضل أن تصمت صمتًا عميقًا أمام هذه الواقعة؟”.
وفي الوقت الذي كان يستعد فيه الجميع لنسيان الصدمة القادمة من ألمانيا، ظهرت ادعاءات جديدة تشير إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة تنصتتا على تركيا، ووجَّهت أسئلة إلى المسؤولين الأمريكيين حول الواقعة، ولم يختلف ردهم عن ذلك الرد الذي قدمه نظراؤهم الألمان، ومرة ثانية انتظر الجميع سماع تصريحات شجاعة من المسؤولين الأتراك، وكان مَن انتظر هذه التصريحات محقًّا فيما يفكر به، ولم لا، وقد كان المسؤولون في الحكومة التركية عودونا على إطلاق التصريحات شديدة اللهجة لإلهاب حماس الجماهير وزيادة أصوات الحزب الحاكم في الانتخابات، وفي الوقت الذي وَجّه فيه مسؤولو الحزب الحاكم في تركيا اتهاماتٍ للأبرياء من أبناء حركة الخدمة بالانتماء لما يسمى “الكيان الموازي“، نجدهم قد ابتلعوا ألسنتهم وصاروا خُرسًا أمام المزاعم التي اعترفت بصحتها أمريكا وألمانيا بشأن تنصتهما على تركيا، فلماذا إذن؟ وقد كانت تركيا قد تحدَّت هاتين الدولتين وغيرهما في الماضي، فلماذا تصمت الآن أمام هذه الفضيحة الكبيرة؟
ويوضح مشهدُ قلة الحيلة والوقوع في زاوية ضيقة، الذي اتضح بشكل جليّ اليوم وأيقظ مشاعر الغضب لدى الجميع، سببًا واحدًا فقط كدليل على مسألة لماذا تضطرّ تركيا إلى الصمت أمام هذه الفضائح، ويقال إن هناك ما يجعل المسؤولين الأتراك بكمًا لا ينطقون، ولكنه يعتبر سرًّا في الوقت الراهن، لكن المشهد مفتوح على المستوى السياسي: بادرت تركيا إلى تنفيذ بعض الإجراءات من أجل “إسقاط نظام بشار الأسد” بغض النظر عن كيفية تحقيق هذا الهدف، إلا أنها لم تضع في حساباتها النتيجة المحتملة لهذه الإجراءات الخطيرة، واستطاع تنظيم داعش توفير الأموال والسلاح والمقاتلين من تركيا، ثم عاد ليكبّل يدي تركيا، وعمد إلى اختطاف 49 دبلوماسيًّا من القنصلية التركية في الموصل، وما حدث كان نتيجةَ لا مبالاة، أو حتى قل نتيجة إهمال، ولهذا السبب فإن دولة كبيرة كتركيا تقف مكتوفة الأيدي أمام داعش الذي يحتجز الرهائن الأتراك، بمن فيهم القنصل العام، منذ 95 يومًا، بيد أن جهاز الاستخبارات التركي كان يثق في هذا التنظيم في وقت من الأوقات لدرجة أنه كان يخطط بشكل سري ويقول: “نقول لهم أطلقوا صاروخًا أو صاروخين في تلك المنطقة أي المكان الذي يضم “ضريح الشاه سليمان” في سوريا لتبرير التدخل العسكري…”، في البداية كان المسؤولون الأتراك يقولون “إن رعايانا في الموصل لم يختطفوا كرهائن، بل هم محتجَزون فقط”، وبعد مرور زمن طويل، بدأت أنقرة تطلب العفو والرحمة من ذلك التنظيم قائلة لقادته “هل يصح أن يفعل المسلم هذا في أخيه المسلم؟”. يا للأسف والخسارة!
لقد أخطأت تركيا خطأ كبيرًا في بادئ الأمر، وكان ينبغي لها أن تراعي السياسة والقانون الدولي من أجل سقوط نظام الطاغية بشار الأسد، وتجرِّب جميع الطرق الدبلوماسية، ولا تقحم نفسها في مغامرة كهذه، فنجد من ناحية النظام السوري المجرم قد وضع نفسه ضمن تحالف قوي، ومن ناحية أخرى جرّ تركيا إلى شباك المخططات المشبوهة، ولا يبدو أنه سيكون من السهل أن يدرك من يديرون تركيا خطر الوضع الحالي، لأن البعض ممن نسوا مهامهم الأصلية، يبذلون أقصى جهودهم في سبيل تصفية أكفأ كوادر هذا البلد، وهم لا يفهمون أنهم بذلك يغرقون السفينة التي يقودونها بأنفسهم، وإن تصبح أسيرًا للغضب يُحكَمْ عليك ويلازمْك الخوف دومًا، إن المسألة بهذه البساطة والوضوح!
“لا يليق بشخصية تمثل مؤسسة الشؤون الدينية في تركيا أن تتحدث دون تفكير، ذلك أن السيد “جُورْمَزْ” رئيس الشؤون الدينية ليس مضطرًا لتبرئة ذمة فعل السرقة الذي عرّفه الدين، كما أنه ليس مجبرًا على اللجوء للتلاعب بالألفاظ من أجل توجيه الاتهامات الخفية لجماعة من الجماعات، وللأسف فإن الفعلين اللذين ارتكبهما يعتبران مصيبتين كبيرتين في حد ذاتهما“.