نشرت وسائل الإعلام الموالية لحكومة حزب العدالة والتنمية الأسبوع الماضي[1] المانشيت نفسه؛ إذ إنهم يرددون الكلام ذاته منذ فترة طويلة كالجوقة الموسيقية.
تدافع طهران عن فكرة “اتفاق محدود وجزئي أفضل من انسداد مسار المفاوضات“، غير أنها تشعر بالانزعاج من كون الحوار مع الغرب محدود بالملف النووي؛ إذ إن إيران ترغب في الحديث مع الغرب حول العقوبات المفروضة عليها ومشاكل المنطقة، وتريد تحقيق نوع من التطبيع في علاقاتها مع الغرب، أما الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، فلا تريد الاقتراب من فتح ملفات أخرى للحوار مع إيران دون قطع مسافة في مفاوضات ملفها النووي.
لقد أقاموا السيناريو هذه المرة على “الحرام”، ونشروا عناوين صحفية من قبيل “المكافأة التحفيزية الحرام”، “عملية التحفيز الحرام”، “أبناء الشيخ الآكلون للحرام”، وإذا نظر القارئ إلى إستراتيجية النشر المشتركة لوسائل الإعلام هذه، يصل إلى أنه من أجل إمكانية نشر العناوين نفسها باستمرار إما أنهم يتواصلون فيما بينهم بطريقة “التلباسي” -الاتصال عن طريق إدارة الخواطر- أو أن هناك ملقَّنًا يلقنهم كلامًا ينطقون به كما ينفث الواحد في البوق وهم يصدرون نفس الصوت.
وإذا عدنا إلى الحديث عن عناوين “الحرام”، سنجد أن هناك طوفانا من الحديث عن الحلال والحرام لدرجة يظن من يشاهد أو يقرأ في هذه القنوات التلفزيونية أو الصحف التي اشتهرت بوسائل الإعلام الموالية للحكومة والمتهمة بأنها قائمة بالإمداد بما يسمى الحوض المالي، أنها تدقق في الحلال والحرام، وأنهم يولون اهتمامًا بمسألة الحلال والحرام، وإلا كيف يمكن لهم أن يطلقوا عناوين إخبارية من قبيل “التحفيز الحرام” مع بعضهم.. لكن هيهات يا ليتهم كانوا كذلك!
دعوني ألخّص مسألة التحفيز أولًا بعد إذنكم، ثم نستأنف بعد ذلك الحديث عن عملية تشكيل الوعي التي تقوم بها وسائل الإعلام الموجّهة والمستخدمة كقناص من خلال مسألة الحلال والحرام.
إن نظام التحفيز، الذي يطبق كثيرًا في الوحدات الأمنية في تركيا كمديرية الأمن والقوات المسلحة وجهاز الاستخبارات، يهدف إلى تحسين الوضع المالي للأشخاص الذين يعملون في وظائف صعبة ومضنية، إذ كان موضوعنا يتعلق بمديرية الأمن وقد رفعت ضد بعض المسؤولين فيها قضية في المحكمة، فلنلقِ نظرة على النظام المطبق هناك، وتمر عملية التحفيز بالنسبة لأفراد الشرطة من هذه المراحل:
1- تعد لجان التحفيز قوائم بأسماء المرشحين في مختلف المحافظات، وتسلم هذه القوائم إلى مدير الأمن بالمحافظة.
2- يقوم مديرو الأمن بالدراسات والبحوث اللازمة، ثم يقدمون النتائج إلى المحافظ.
3- وبعد أن تدقق المحافظة القوائم ترسلها إلى قسم الموارد البشرية بمديرية الأمن العام حتى يحدد هذا القسم ما إذا كان الشخص المقترَح أن يقدم إليه هذا التحفيز حاصل على إجازة عادية أو مرضية أو ما إلى ذلك في ذلك اليوم أم لا.
4- تذهب القائمة إلى لجنة التحفيز الأولية لتحدد ما إذا كان هذا العمل الذي قام به المرشح يستحق التحفيز أم لا، وتعيّن أيضًا مقدار المكافأة التي تقدم له إذا كان يستحق، ومن ثم ترسل عروضها إلى المسؤول الأعلى.
5- تقوم لجنة التحفيز بالنظر في القائمة بشكلها النهائي بعد أن مرت بكل مراحل الغربلة هذه حتى تصل إليها وتتخذ القرار النهائي.
فهل تعرفون مَن مِن بين هذه المراحل الخمس يتهم أولئك الذين ينشرون عناوين رئيسة عن الحرام ويسعون من وراء ذلك لتغيير الإدراك العام؟ لا أحد من هؤلاء تقريبًا، فهم لا يستهدفون أحدًا إلا الموظفين الأمنيين الذين تولوا التحقيق في قضية الفساد والرشوة التي كُشف عنها يوم 17 ديسمبر / كانون الأول 2013م، ويطبعون صورهم، ويدرجون أسماءهم في القوائم، لماذا؟ لأنهم حصلوا على هذه الحوافز، وهذا يعني أن الحصول على حافز الدولة بعد أن يمر عبر مصفاة مكونة من خمس مراحل من أدناها إلى أعلاها، أصبح جريمة يعاقب عليها القانون (!).
أضف إلى ذلك أن هؤلاء يتلاعبون بالأرقام ويزعمون بقولهم: “انظروا فأولئك الذين قالوا إنهم لم يأكلوا لقمة حرام قد أكلوها في الواقع!”، يقولون: “لقد حصلوا على هذه المكافأة أكثر من مرة”، ولا يقولون إن هذه المكافآت أو الحوافز يتم حسابها من دون أي إضافات للراتب الصافي، ويتراوح المبلغ النهائي حسب رتبة الموظف ما بين 45 إلى 300 ليرة (20 – 133 دولارًا)، ولا يشرحون أن هذه المكافآت تمتد على كامل حياتهم المهنية، ولا يتعدى مقدارها السنوي ما بين 2 و3 آلاف ليرة (890 – 1330 دولارًا)، ويظنّ المواطن في تركيا أنه عندما نتحدث عن المكافأة أن الموظف يحصل على آلاف الليرات دفعة واحدة، لا، ليس هناك شيء كهذا.
هدف الإعلام الموالي مختلف تمامًا، إنهم لا يقصدون إلا أن ينتقموا من ضباط الأمن الذين ألقي القبض عليهم في وقت السحور وهم يرفعون رؤوسهم واثقين من أنفسهم لأنهم لم يفعلوا ما يخالف القانون وهذا التصرف أغضب أصحاب الإعلام الموالي كثيرا وأرادوا أن يسدوا آذانهم حتى لا يسمعوا صيحات الآباء والأمهات المعتقل أبناؤهم ويهتفون لم نطعم أولادنا لقمة حراما.
أصبح صراخ رجال الأمن، الذين تعرضوا لألوان التعذيب ثم ألقي القبض عليهم وهم يهتفون لم نأكل لقمة حراما سبب كابوس لهؤلاء الغارقين في الحرام، ولذلك يبذلون قصارى جهدهم لإيصال رسالة بأنهم أيضا أكلوا الحرام لكن دون جدوى من تعبهم، لماذا؟
لأنه لا أحد من هؤلاء المتهمين، من طرف الإعلام المذكور، حصل على منفعة شخصية.
نفذ الذين قدموا المكافآت مهامهم في اللجان وفقًا للوائح، ولم يفضلوا أحدًا على أحد وهم يؤدون واجباتهم، ومن جانبهم لم يتدخل من حصلوا على المكافآت في تقديرات الدولة، وارتضوا بما صدر من قرارات، إذًا عدّ المكافآت التي حصل عليها هؤلاء الأشخاص طيلة حياتهم المهنية والادعاء بأنهم أكلوا مالًا حرامًا إن لم يكن هذا تضليلًا للقارئ، فماذا يكون إذًا؟ وإذا كان الوضع كذلك، يتساءل الواحد منا قائلا: “أين الحرام في هذه المكافآت يا معدومي الضمير!”، وإذا كنتم تقولون إن هذا الإجراء خاطئ، فعليكم تغييره وكذلك اللوائح على الفور، لكنكم لم تغيروا شيئًا، وواصلتم العمل به، وعلى سبيل المثال، المسؤولون الأمنيون من الذين اختارتهم الحكومة بدقة كبيرة بعدما تأكدت من ولائهم لها عقب الكشف عن فضيحة الفساد الأخيرة، سجلوا لأنفسهم مكافآت، فهل تستوعبون أن “مصطفى جُولْجُو (Gülcü)”، مساعد مدير الأمن العام ورئيس لجنة التحفيزات، قرر في أول اجتماع يعقده بعد توليه منصبه أن يمنح نفسه أعلى قدر يمكن تقديره لموظف في سنة واحدة وهو 24 مكافأة بعدما وجد نفسه يستحق ذلك (!)، ماشاء الله عليك! ولأقص عليكم مثالًا آخر: حصل “أورخان أُوزْدَمِيرْ (Orhan Özdemir)”، رئيس دائرة مكافحة التهريب والجرائم المنظمة الذي يدير عملية تقديم المكافآت، على 533 مكافأة على مدار حياته الوظيفية، فهلا خرج علينا أحدهم ليقول: “ماذا فعلت أيها المدير؟ وإذا كان ما فعلته جريمة فلماذا يتغاضى الإعلام الموالي للحكومة عن ذكر اسمك؟”
إن إعلام الحكومة الموالي، لا يراعي مسألة الحلال والحرام للأسف الشديد، ولو كان يراعي هذه المسألة لما كان قد نشر مئات الأكاذيب على مدار الأشهر التسعة الماضية[2] ، وواصل بث الافتراءات واللعب بشرف أشخاص أبرياء في محاولة منه للتستر على فضيحة الفساد والرشوة.
وفي واقع الأمر فإن وسائل الإعلام هذه، التي ارتكب الحرام في إجراءات شرائها وبيعها ومصادرتها، حرام ما تقوله وما تكتبه كذلك، ولهذا فإن عبارة: “لم آكل لقمة حراما” تضايقهم وتزعجهم، ذلك أنها تذكّرهم بمواردهم التي لم يستحقوها.
أطالب الصحفيين زملائي في هذه المهنة، الذين يوافقون على كل ما تقوله الحكومة ويستحدثون العداوات بحسب تصريحات المسؤولين، وأناديهم هيا أعلنوا تفاصيل ممتلكاتكم خلال السنوات الخمس أو العشر الأخيرة حتى يتضح لنا بشكل جليّ مَن كسب أموالًا طائلة وكيف كسبها، وماذا كان قدر ممتلكاته قبل هذه الفترة وماذا يمتلك اليوم وليعرف الجميع أي الأقلام معروضة للإيجار بل للبيع في مقابل المال، ولترَ تركيا السبب الأساسي لمواصلتكم لنشر عشرات الأكاذيب والافتراءات الباطلة، وليظهر “أبناء الحرام” الحقيقيون، أما أصول ممتلكاتنا فهي في أيدي الحكومة، ولا داعي لطلب فاتورة أو إيصال من هنا أو هناك، وهذه الجهات التي لا تخرجون من تحت أجنحة حمايتها تعرف كل شيء عن الجميع، ونطالب في هذه الأثناء بأن يعلن من أصبحوا مديرين تنفيذيين بفضل العلاقات الأسرية أن يكشفوا تفاصيل فيلاتهم وقصورهم الصيفية والشتوية وسفنهم وما يمتلكون من وسائل الترفيه، وليعرف الرأي العام كيف أن بعض أقطاب “الإسلام السياسي” في تركيا، الذين كانوا يعانون من مشاكل مادية حتى الأمس القريب، أظهروا دهاءهم (!) التجاري في العديد من المجالات كالتعدين والإنشاءات والنقل وسلاسل المطاعم في مراكز التسوق، وحتى في الأعمال الكبيرة في مجالي الصحة والتعليم، لتتشكل لدى الجميع قناعة بمدى الإخلاص والحق في العناوين الإخبارية التي تتحدث عن الحرام، هذا فضلًا عن وجود مجموعة من الكتاب والصحفيين الذين أصبحوا من أصحاب الأعمال والمنازل والممتلكات بواسطة الهيئات الرسمية وشبه الرسمية والشركات الصديقة وشركات الإعلان والإنتاج، ولا شك في أن كل يوم يمر يصعب على الواحد منا أن يجد إخلاصًا فيما يكتب هؤلاء، ذلك أن الكاتب الذي يصبح ثريًّا بفضل بعض الأشخاص لا مفر من أن يصير فقيرًا فكريًّا ومرتبطًا بهؤلاء الأشخاص مدافعًا عن مصالحهم…
آه! يا ليت الإعلام يصغي إلى صوت الضمير ويراجع حساباته على أساس الحلال والحرام! فحينها فقط تستطيع تركيا أن تنقذ نفسها من الكذب والافتراء وقلة الأخلاق والفساد.
ومن أجل الوصول إلى هذه النقطة يجب أولًا البدء من صناديق الأحذية التي خُبئت بها الملايين، واقتفاء أثر الساعات باهظة الثمن، والنظر بعين الريبة إلى القصور التي اشتريت بأرقام غير محدودة الأصفار من الأموال، وعندما تبدأ مراعاة مسألة الحلال والحرام، ستجد أن صحيفتك تكون مصدرًا للخزي بالنسبة لك عندما تقرؤها في الصباح، وستقول لك الحقائق “صباح الخير” في النقطة التي وصلت إليها من خلال الصور العارية والمسلسلات التليفزيونية التي تعرض على قنوات وصحف تبدو بمظهر إسلامي، فإذا استحييت فستختار طريقًا آخر، وإلا سيأسرك الحرام أنت وأصحابك، ولن تنقذكم هذه الافتراءات التي تحاولون إلصاقها بالآخرين لتستروا عيوبكم، من عذاب الضمير، ذلك أن تلك الخواطر القديمة التي بداخلكم ستدعوكم دائمًا إلى تياركم الأصلي…
“للأسف فإن إعلام “الأبواق” الموالية للحكومة ولّد آلةً كبيرةً للكذب والافتراء على مدار الشهور التسعة الماضية، والولادة لم تكن سليمة فنحن أمام مخلوق شاذّ ممسوخٍ، وإذا عددتم أكاذيبهم فستحصلون على موسوعة لا ينقص فيها شيء“.
[1] من تاريخ كتابة المقال.
[2] من تاريخ كتابة المقال.