انتشرت في تركيا منذ أيام أقاويل تشير إلى أن مجلس الأمن القومي اتخذ قرارًا باعتبارِ كلِّ الجماعات الدينية “كيانات موازية”، ومن ثم بدأ الإعداد لمخطط لتصفيتها جميعًا، أما المسؤولون فقد آثروا عدم الإدلاء بأي تصريحات منذ مدّة طويلة.

أن يكون الإنسان رجل دولة، هذا يتطلّب منه التصرف بشكل مسؤول ومراعاة الحقوق، فلا يجوز لأي إنسان مهما كان منصبه، لا من حيث القانون ولا من حيث السياسة، أن يصدر قرارات تعرّف وتحدّد مَنْ هي الجماعات، ومن هي منظمة مجتمع مدني، ومن هو الكيان الموازي.

ورأينا كيف أن شخصًا تربّى بين أحضان حكومة حزب العدالة والتنمية، ويفتخر بكونه يعمل لصالح المخابرات (!)، ويظن نفسه صحفيًّا، خرج على شاشات التليفزيون ليعترف أمام الجميع بأن هناك مخططًا يستهدف القضاء على كل الجماعات الدينية في تركيا، ولم يصدر أي تصريح رسمي يفنّد صحة هذه العبارات التي قالها ذلك الشخص.

وشاهدنا كيف خرج علينا شخص آخر ليكتب، بأسلوبه العنيف والمتعالم المعروف عنه، أن كل الجماعات الدينية في تركيا أُدرجت تحت وصف “الكيان الموازي”، وهو شخص معروف عنه حقده وكراهيته للجماعات الدينية، والأنكى أن البعض تحدث عن ارتباط اسم ذلك الشخص بفعاليات استخباراتية منذ وقت طويل، ولم تصدر الحكومة أي تصريح حول هذا الكلام، فلم يقولوا: “ليس هناك شيء كهذا!”.

كان رئيس وقف “الفرقان” قد ألقى كلمة تحمل عبارات شديدة اللهجة، وأشار إلى أن كل الجماعات الدينية، وكذلك الوقف الذي يرأسه، جرى تصنيفها حسب انتماءاتها وأن أنشطتها تعرضت لضغوط، وآثرت الحكومة هذه المرة كذلك الصمت وعدم التعليق على هذه التصريحات الخطيرة، بالرغم من تناول الصحف لهذه الواقعة، وتواتر الانتقادات، ونرى المسؤولين يفضّلون السكوت أمام الوثائق التي تُنشَر علانية لإثبات عمليات التصنيف حسب الانتماء التي يتعرض لها المعارضون كافة.

وفي نهاية المطاف، صدرت بعض التصريحات التي حاولت بصوت خافت تفنيد صحة ادعاء تصنيف “كل الجماعات الدينية” ضمن الكيانات الموازية، فهل هذه التصريحات مطمئنة؟ بالتأكيد لا.

لا داعي للمضاهاة والمحاكاة والافتعال والتصنّع، بل يجب السماح للناس بأن يمارسوا كينونتهم وشخصيتهم الذاتية حتى تستطيع تركيا الخروج من هذا النفق المظلم الذي دخلته، فلا يمكن أن تبحر سفينة السياسة في تركيا من خلال العبارات الاستفزازية التي تدمي القلوب والضمائر.. وواقعنا شاهد على ذلك.

قرأتُ تصريحًا أدلى به رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في إحدى القنوات التليفزيونية، لكني لم أرَ هذا التصريح مناسبًا لماضيه الأكاديمي، فقد جلس السيد داود أوغلو ليعرّف الجماعة مِن دونها، والأدهى من ذلك أنه أخذ يسرد أفظع الاتهامات دون أن يقدم أي دليل ملموس، وبطبيعة الحال ليس هناك من يسأله ويستجوبه بشأن ما يقول، فهو كلما يتحدث تزيد حماسته.

أن يكون الإنسان رجل دولة، هذا يتطلّب منه التصرف بشكل مسؤول ومراعاة الحقوق، فلا يجوز لأي إنسان مهما كان منصبه، لا من حيث القانون ولا من حيث السياسة، أن يصدر قرارات تعرّف وتحدّد مَنْ هي الجماعات، ومن هي منظمة مجتمع مدني، ومن هو الكيان الموازي، فكما أنه قيل سابقًا في هذه البلاد بعبارات تنمّ عن الكبر والغطرسة “إذا كانت الشيوعية ستأتي إلى هذا البلد، فنحن من سيجلبها”، فهذا ينطبق أيضًا على من يقول “نحن من نقرّر من هي الجماعة”، فهناك كثيرون يفعلون ذلك في السياسة والإعلام، لكني استغربت من أن تصدر عبارات كهذه من شخصية أكاديمية أعتقد أن لديها خبرة ثقافية كافية وأؤمن بمعاييرها الإنسانية والإسلامية.

هناك حقيقة واضحة، ألا وهي أن هناك العديد من الجماعات الدينية في تركيا تشعر بالانزعاج جراء الإجراءات التصنيفية التي تقوم بها الحكومة، فجماعة السليمانية تحمّل الحكومة مسؤولية انقسامها، ويرى البعض أن احتكار الدولة لرسائل النور يعتبر حملة تهدف تقسيم جماعات النور، فيما اتهم طلبة الشيخ محمود أوسطى عثمان أوغلو الأسبوع الماضي البعضَ بتحويل الجامع إلى “مركز حزبي”، ماذا يعني هذا؟ يعني أن الجماعات الدينية تَعتبر التفرقةَ التي تتعرض لها على أيدي الحزب الحاكم و”الجماعة الجديدة” التي أسّسها، ظلمًا وجورًا، فهل يتحمل العقل والضمير والإنصاف أن يجري تأسيس جماعة وهمية من أجل القضاء على الجماعات الدينية الأخرى؟

 

لا أنحني للظلم.. ولا أسامح مَن ينحني له، فهل هناك أية صحفية لا تتعرّض للضغط وتستطيع أن تقول ما تفكر فيه بحرّية اليوم في تركيا؟ الوضع خطير، ولا أنظر إلى ما يجري على أنه هجوم موجَّه لصحيفةزمانوحدها، بل أعتبرهانقلابًاضد الديمقراطية وحقوق الإنسان والإعلام في تركيا“.

فهرس الكتاب