لعل النفور الذي يقع من حين لآخر بين التفكير العقلي والإحساس الوجداني، قد خلق شرخا كبيرا في الوعي الفردي والجماعي لدى كثير من الأجيال المتعاقبة لأمتنا. حتى بات الحديث عن الروح، بله الاهتمام بها أمرا مقبوحا. وقد غدا هذا الشعور جزءا مما اجتاح أمتنا من الأفكار الدخيلة والمناهج المادية المستوردة أو المفروضة، فانسلخت القيم السائدة من كل ما له علاقة بالروح، وغدا المهتمون بعالم الروح في نظر المتحررين وكثير من أبناء الأمة ماضَويين ورجعيين وظلاميين.

عودة المعنى

فلما بارت الفلسفات المادية وكثر عورها، أنتجت من القيم ما دنس القلوب وشغل العقول، فأدخلت الناس في ظلمات بعضها فوق بعض، وغشيت الأمة أمراض لا قبل لهم بها؛ ساعتَها بدأ الناس يتهامسون حول الحاجة إلى بصيص نور يضيء دروب الحياة التي عمها ظلام دامس، ويشفي أسقام الناس التي خفتت أمامها كل النظريات المستوردة والفلسفات المعاصرة.

سبب هيام المفكرين والعارفين بالأستاذ كولن نجاحه في مصالحة العقل للروح، وتقديمهما في كل كتاباته كيانا واحدا، لا يغلب الواحد منهما الآخر فضلا عن تغييبه.

حينها تعددت الدعوات إلى الرجوع للدين والثقة بالذات في كثير من المنابر والمحافل والجهات، حتى تنادى على ذلك أعلام ودول في كل المعمور. في خضم ذلك كثرت مناهج العلماء والمفكرون وتعددت بتعدد ميادينهم واهتماماتهم.

مصالحة العقل والقلب

وفي غمرة هذه المحاولات انبجست بين الناس أفكار الأستاذ محمد فتح الله، حاملة رياح منهج جديد وأسلوب بديع تلقفه المختصون وهام فيه العارفون. وإن من أسباب ذلك الهيام، نجاح هذا الرجل في مصالحة العقل للروح، وتقديمهما في كل كتاباته كيانا واحدا، لا يمكن تغليب الواحد منهما على الآخر فضلا عن تغييبه. ولعمري إن كثيرا من الأمراض التي أصابت أمتنا ناجمة عن النقص الفظيع الذي تعاني منه الإنسانية في غذاء الروح.

 يقول الأستاذ فتح الله في ذلك: “إن الإسلام طرح عناصر منسوجاته المهمة على العقل والوجدان والروح والجسد، فغزل ذاك القماش الزاهي ذا البعد الدنيوي والعقبوي الغائر في الأعماق. ولئن تقدم واحد منهم على غيره في مستوى معين أحياناً، فليس في قدرة أي منهم أن يصور الإسلام وحده أو يمثله أو يُعبّر عنه”.[1]

إن كثيرًا من الأمراض التي أصابت أمتنا ناجمة عن النقص الفظيع الذي تعاني منه في غذاء الروح.

روح الكون

إن حضور البعد الروحي في كتاب الأستاذ ” أضواء قرآنية” كما في منهجه عموما، وما ألبسه من أسلوب واقعي مؤثر، وتربوي بليغ مختلف عما ألفه الناس في أساليب العارفين، ونظريات الحكماء والفقهاء والمفسرين، قد أضفى عليه مسحة خاصة تعد من أهم أسباب التميز والنجاح في منهجه. فتأمل قوله: “…هذا الكتاب الذي يفسر حقيقة الإنسان والوجود والكائنات يمحص حقيقة الإنسان تمحيصا بالغ الدقة. لذلك فإن رجال الروح والقلب الداخلين إلى عالم القرآن الآخذ بالألباب، يرون كل شيء يشعرون به ويحسونه في قرارة أنفسهم كمفردات فهرست، فيطالعونها مفصلا في محتوى كتاب الكائنات، يستشعرونها، ويمضون أعمارهم كلها في عالم الإشارات والأمارات، في سعي حثيث نحو القرآن كمن يسيح في الأرض… هذا الكتاب يرسل إشارات ويلمح بها إلى الأعماق الداخلية للإنسان والكائنات، وإلى سعة روح الإنسان، وإلى أهم أبعاده الحيوية مثل الحس والشعور والإرادة والقلب، وإلى الغاية والمعنى في خِلقة هذا الموجود المتكامل (الإنسان) التي تعد ولادة جديدة للكائنات، وإلى الفائقية في تجهيزاته، وسعة دائرة فاعليته، وعظمته الكامنة، ورغباته وآماله و هيجانه وعواطفه… يرسلها بحيث لا يبلغ إليها خيال علوم الفلسفة ولا علم الاجتماع ولا علم الأحياء و لا علم النفس ولا علم التربية…” [2]

ونظرا لهذا الأسلوب الشائق والمعنى الرائق، اعتبر العديد من يحتج برأيهم الأستاذ “فتح الله” يقدم منهجا جديدا وأملا عريضا ينير طريق الأمة من جديد ويعافيها من بعض ما ابتليت به من الأسقام وما تراكم في كافة أركانها من سلبيات لعقود خلت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: فلسفة جديدة لفهم القرآن الكريم، د. عبد المجيد بوشبكة، المغرب

[1] : أنظر كتاب “ونحن نقيم صرح الروح” ص18.

[2] : كتاب الأستاذ كولن “ونحن نبني حضارتنا”ص82-83.

Leave a Reply

Your email address will not be published.