لقد بذل أسلافُنا قصارى جهدهم من أجل إيصال اسم الله إلى جميع أنحاء العالم، وجاهدوا جهادًا جادًّا وفقًا لظروف الفترة التي عاشوا فيها، وقد تحقق هذا العمل على أيدي الصوفية والأولياء أحيانًا، وبواسطة التجار أحيانًا، وعن طريق الفتوحات أحيانًا أخرى.. فقد عبروا الأسوار التي وصفت بالمنيعة، ووصلوا الأماكن التي وصفت بالحصينة، فصاروا ممثلين للسلام والسكينة والعدالة أينما ذهبوا.
إن الاندماج في المجتمع، والصيرورةَ جزءًا منه، مرهونٌ بالوقت.. فيجب العمل دون تسرّع، فبعض الترقيات المفاجئة قد يصحبها ردة فعل سلبية.
بيد أن العالم الذي نعيش فيه لم يعد ذلك العالم الذي كانوا يعيشون فيه؛ فقد تغيّر كلُّ شيء.. لا أقصد الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فقط؛ بل أضف إلى ذلك الثقافات والفلسفات والمفاهيم أيضًا.. لذا يجب أيضًا أن تكون الأساليب والمناهج التي يتعين اتباعها إعلاءً لكلمة الله متوافقةً مع متطلبات العصر، وإلا فإن النجاح في هذا صعب للغاية، بل إنه قد تتكون نتيجة عكسية للهدف والغاية.
ويشير الأستاذ بديع الزمان بقوله: “لقد دخل السيف المادي غمده، وصار التغلب على الحداثيين بالإقناع” إلى الطريق الصحيح الذي يجب اتباعه اليوم، ولو وُجِدَت اليوم الدولة السلجوقية أو العثمانية، أو عقبة بن نافع أو طارق بن زياد لوجب عليهم الدخول في هذه المنهجية لا شكّ في ذلك.. ربما لجؤوا اضطرارًا إلى السيف واستخدام القوة من وقت لآخر حلًّا للمشكلات في ظل ظروف عصرهم، إلا أن القدرة على إبلاغ القيم التي لدينا اليوم إلى القلوب المحتاجة تتطلّب إيجاد طرق أخرى، ولستُ أعرف ما إذا كنا وجدناها بالضبط أم لم نجدها بعد، لكننا نعمل في الوقت الحالي بما وجدناه.
يجب ألا تركزوا فقط على مشاريعكم وغاياتكم المثالية الخاصة، بل يجب في كل خطوة وانفتاح تبدؤونه أن تضعوا في اعتباركم أيضًا مصالح المجتمع الذي تعيشون فيه.
عندما ننظر إلى الوضع الحالي للعالم، يبدو واضحًا جدًّا أين يجب أن نقف وما الموقف الذي يجب أن نتخذه.. إننا نعتقد أننا نقف بمنأى عن كلِّ أشكال العنف والتطرّف، وأنه سيتسنى من خلال التعليم والحوار والحب حل المشكلات المزمنة التي يعتقد أنها غير قابلة للحل.. كما نؤمن بأن التصرّف بهذه الطريقة هو الأنسب لروح الدين، لكننا لا ندعي أننا نحن مَن يفعل الأفضل، فالأعمال الصالحة التي تتحقّق بمحضِ اللطف الإلهي لا يجب أن تُعزى أبدًا إلى الأنانية الجماعية كي نحافظ عليها ولا نهدرها، ورغم أن ذلك إيمانٌ راسخٌ في قلوبنا فالواجب علينا أن نبتعِدَ عن التعالي والتفاخر والأنانية، وأن نحفظَ ألسنتَنا من ادّعاء الكمال أو المثالية أو التفوّه بأيّة عبارةٍ تفوح منها رائحة الأنانية والغطرسة.
نعتقد أننا نقف بمنأى عن كلِّ أشكال العنف والتطرّف، وأنه سيتسنى من خلال التعليم والحوار والحب حل المشكلات المزمنة التي يعتقد أنها غير قابلة للحل.
وحتى وإن كانت الأشياء المطروحة باسم الأفكار والأفعال تتطابق تمامًا مع أفكار شخصيات عظيمة مثل الإمام الأعظم والإمام الغزالي وبديع الزمان فواجب المؤمن هو التفاني والتواضع، فإن وجدنا اجتهادات وتفسيرات أفضل من تلك التي لدينا وجب علينا الرجوع فورًا عن أفكارنا الحالية.
وكما أكّد فلاسفة التاريخ فإنَّ الأماكن التي دخلها المسلمون بالقوة قد طُرِدوا منها بطريقةٍ ما.. لكنهم ثبتوا وداموا في الأماكن التي دخلوها من خلال فتح القلوب واستخدام إكسير الحبّ، ويمكنكم اتخاذ “الأندلس” مثالًا على هذه النظرية، فعلى الرغم من أن المسلمين مكثوا هناك قرونًا عديدة وأنشؤوا حضارة مبهِرةً وأثّروا تأثيرًا حقيقيًّا في الغرب؛ إلا أنهم أُخرجوا من هناك بعد فترة بطريقة مؤلمة.. ومع أن قرونًا مرّت على تلك الأحداث إلا أنني عندما أفكِّر فيها فإن عينيَّ تغرورقان، ومهما حاولت قمع مشاعري المحترقة بحثًا عن بعض الحكم والفوائد فيما أرى، إلا أنني لا أستطيع العثور على طريقة للتخفيف من الشوق والألم الذي أعيشه إزاء هذه الجغرافيا الإسلامية المفقودة حتى الآن.
إذا بقيتم جسمًا غريبًا في المجتمع الذي تعيشون فيه وتعذّر عليكم الاندماج فيه، فسوف تُقلعون وتقذفون منه يومًا ما.
أي إنه حتى وإن استقبلكم جماهيرُ البلاد التي قد تدخلونها في ظلال السيوف؛ إلا أن جرحًا ما يبقى بداخلهم ويتطوّر رد فعل ما ضدكم بمرور الوقت، ويزيد رد الفعل هذا من قوته تدريجيًّا وفقًا للظروف، ويأتي يوم يخرجونكم من مكانكم وينفونكم، حتى إنهم يحرقون الآثار النفيسة التي تتركونها من وراءكم ويهدمونها، وينهبون أموالكم وثرواتكم، ويقتلون الملايين من الناس.. وهذه قضية يتعين الوقوف عندها باهتمام.
قوة التمثيل
حاول السابقون القيام بدورهم بحسب إمكاناتهم، والمهم بالنسبة لنا اليوم هو ما نقوم به، فالهدفُ الأساس للمؤمن ليس هو سلطنة العالم ولا حتى نِعَم الآخرة، وإنما هو الفوز برضا الله، وإن أعظم وسيلة لكسب رضا الله هي إيصال اسمه الجليل سبحانه إلى جميع أنحاء العالم، وهذه وسيلةٌ تعدل الغاية، ولا يمكن تجاهلها، يا حسرةً على المسلمين الذين أهملوا هذا الأمر لِعِدّةِ قرون، لقد استمرّ الأمر هكذا، ولكنه لا ينبغي أن يسير على هذا النحو، إنَّ المسؤوليةَ تُلقِي بثقلها على عاتق بعض الشخصيّات ليهتموا بهذا الأمر ويتبنّوه ويتّخذوا إجراءاتٍ من شأنها تحمّل المشكلات والصعوبات التي سيواجهونها على طول الطريق.. وأيًّا كانت الإمكانات والفرص التي أتاحها الله لهم اليوم، فينبغي لهم تحقيق أفضل استفادة منها، والتركيز عليها لتنفيذ خدماتهم انطلاقًا من تلك النقطة.. وإن كانت ثمة تطوّرات وإمكانات مختلفة ستقابلهم غدًا أو بعد غدٍ فعليهم الاستفادة منها أيضًا، فلا يمكن أن تكون ثمة كفارة، ولا سبيل للنجاة أكبر من هذا بالنسبة لأشخاص مثلنا يعيشون في عصر الخطيئة والذنوب.
مع أنّنا نثق تمام الثقة في عناية الله وحفظه وحمايته؛ إلا أننا لا نستطيع أن نبني مشاريعنا على ذلك مع تجاهل قانون السبب والنتيجة.
نحن نؤمن من كلِّ قلوبنا أن الإسلام هو الدين الأكمل والأتمّ، وأن الله تعالى قد أكمل بفضل هذا الدين النعم التي أنعم بها على البشرية، وأن إنسان اليوم بحاجة إلى الرسالة التي يقدمها الإسلام.. كذلك لدينا إيمان كامل بأن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم دليلٌ ومرشدٌ غير خادع يكشف الطريق إلى الجنة؛ وبالتالي يجب على الإنسانية أن تتبعه دون شك، ومن ثم فإنه من الضروري تعريف العالم أجمع به وبكل جوانبه، ونحن أيضًا من أتباعه الذين ساروا على الطريق لأداء هذه المهمة الحياتية.
سينزعج من هذا بعضُ المتمرّدين والمتعصبين، وسيحاول من جُبلوا على العداوة أن يبعدوكم عن طريقكم، لكننا لا نرهن القضية بمثل هؤلاء القساة والمعتدين ولا نرى الأفق مظلمًا؛ ذلك أن من التقينا بهم وكنا معهم دائمًا حتى اليوم أعربوا عن تقديرهم وتمنياتهم الطيبة، ولم أصادف شخصًا اشتكى أو أظهر عدم ارتياح من ذلك بخلاف قلّةٍ قليلة، لذلك علينا ألا نستسلم للأشياء السلبية وألا نفقد الأمل وألا نصبح متشائمين.
مهما منَّ الله على المؤمنين بألطافه الواسعة دائمًا؛ فإن واجبهم هو عدم ترك أية ثغرة في أعمالهم، وعدم التقصير فيها.
يجب على المخلصين الذين يعتقدون أن لديهم رسالة يقدّمونها إلى البشرية أن يحاولوا تقديم تمثيل نموذجيّ بسلوكياتهم وتصرّفاتهم وحالِهم قبل قالِهم؛ فالكلمات قد تسبّب نوعًا من عدم الارتياح في بعض الطبائع؛ فتجذبها يمنة أو يسرة، وقد تُستخرج منها معانٍ لا تخطر لكم على بالٍ.. أما التمثيل فيعطي ثقةً ومصداقيّتُه أعلى من ذلك بكثير. إذا استطعنا أن نعيش دون تقصير ولا إخلال بالنظام الإلهي الذي أنزله الله لصالح البشرية ونفعًا لها، فيستحيل ألا يتأثر الناس وألا ينجذبوا إليه.. وإذا كان كلٌّ من نظامنا الأسري وعلاقاتنا الإنسانية وأعمالنا الخيرية لا يزال يؤثّر في الناس على الرغم من كل الضربات التي تعرَّضْنا لها فإنني أعتقد أنه لا داعي لقول الكثير.. وبدلًا من قول: “تعالوا، لنكن كذا، ولتفعلوا كذا”، دعونا نمثّل القيم التي ندعو الآخرين إليها تمثيلًا جذابًا وجميلًا يدفع إلى الغبطة، لنفعل هذا لأنفسنا، من أجل علاقتنا بالله، وكشرط لعبوديتنا إياه، وليس كي يراه الآخرون.. لنفعل ذلك ولنترك الأمر للآخرين فليقرّروا ما يجب عليهم فعله.
إن أريد للعمل المنجز القبول والبقاء في نظر الناس، وجب البدء بالنوايا والأفكار الحسنة، والتحرك أيضًا وفقًا للإرادة الإلهية.
اختيار الأسلوب الصحيح
على الرغم من أنّ التمثيل مهمّ جدًّا، إلا أنه لا يمكن تجاهل أهمية الكلمة تجاهلًا تامًّا.. فمن المؤكد أنه ستكون ثمة أوقات يُحتاج فيها إلى الكلمات إلى جانب التمثيل؛ فقد تُستشعر ضرورة التعليق على النقاط التي تظلّ مبهمة في التمثيل، وعندئذ ينبغي إيلاء اهتمام كبير بالأسلوب، ويجب أن يتم بشكل جيد للغاية تحديد أين ومتى وماذا يجب أن يُقال.
وبالدرجة الأولى يجب تسليط الضوء على النقاط المشتركة بيننا وبين الطرف الآخر، وينبغي التركيز عليها أكثر؛ نظرًا للحاجة إلى سدّ الفجوة، فإذا تمكنوا من العثور على بعض المحاور المشتركة بين ما تقولونه وأنظمتهم الفكرية الخاصة؛ فسوف يقبلون ما يقال بسهولة أكبر.. لذا يجب مراعاة الدين الذي ينتسب إليه المخاطب، والبيئة الثقافية التي نشأ فيها، ومستوى معرفته ومشاعره، وينبغي اختيار أسلوب لا يتسبب في ردّ فعلٍ سلبي.
على الرغم من وجود فكرة خالق على نحو معين في جميع الأديان، إلا أن الذات الإلهية لا توجد بأسمائها وتفاصيلها وصفاتها في أي دين كما في الإسلام.
أمَّا إذا كان الأشخاص الذين نتعامل معهم بمنأى عن الدين، يمكننا التركيز عندئذ على القيم الإنسانية العالمية والتحدّث من خلالها عن العديد من قضايانا، ويمكننا إعطاء الأولوية لموضوعات مثل “رسالة المرضى”، و”رسالة الشيوخ”، و”رسالة الاقتصاد”، واختيار المواضيع التي تجذب انتباه الأغلبية، وإذا احتجنا إلى الحديث عن عبادات مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والأضحية، فيمكننا إبراز جوانب حكمتها ونفعها ومناقشة فوائدها التي تعود على حياتنا الشخصية والاجتماعية.
ويمكننا في لقاءاتنا مع أتباع الديانات المختلفة التركيز على مبادئ الاعتقاد التي يتفقون عليها معنا أيضًا.. فعلى الرغم من وجود فكرة خالق على نحو معين في جميع الأديان، إلا أن الذات الإلهية لا توجد بأسمائها وتفاصيلها وصفاتها في أي دين كما في الإسلام.. وحتى وإن تحدثت عن الله بأسماء وألقاب مختلفة، فإن أفكارها حول حقائق الألوهية والربوبية ليست بالكمال ولا بالقدر الذي قرره الإسلام، وعليه يمكن تقديم معلومات في هذه القضايا لمخاطبينا وفقًا لمستواهم، وبطريقة يمكنهم فهمها.
ليستمر هذا الانفتاح الجميل دون توقّف؛ يجب أن نستفيد من فكر الجميع، ونتشارك في تلاقح الأفكار وعصف الأذهان. وننفتح على الأفكار البديلة التي تضيء آفاقنا.
وبما أن كل فرد من أفراد الدين الذي ينتسب إليه يعتقد أن نبيه هو الأسمى، فقد يزعجهم أن نتحدث عن مفخرة الإنسانية ﷺ، وقد يثيرون اعتراضات في هذا الصدد؛ لذلك سيكون من الأفضل -عندما نلتقي بهم- التركيز على حقيقة النبوّة بالمعنى المطلق وبيان الصفات الخاصة بالأنبياء، وبالمثل فإن عقيدة الحشر والنشر لم توضح وتؤطّر في المسيحية واليهوديّة بشكل واضح بقدر ما هو موجود في الإسلام، وإنني أعتقد أنهم سيقبلون ذلك برضا وطيب نفس عندما تطرحون بوضوح القضايا الموصوفة في الآيات والأحاديث دون الحديث عن القرآن أو رسول الله ﷺ.
من المهم كذلك إقامة صداقات وعلاقات صداقة جادة مع المخاطبين حتى تكون القضايا المطروحة فعالة ومؤثرة؛ فيجب علينا من خلال الزيارات المتبادلة، وتقديم الهدايا، والعمل بروح التعاون أن نكوِّنَ صداقات وثيقةً لا يُضحَّى بها أو يُتخلى عنها بأي شكل من الأشكال.. وعلينا أن نتصرَّف بأدبٍ ولُطفٍ قدرَ الإمكان في هذا الصدد؛ فثمّة أهمية كبيرة للصداقات التي سيتم تكوينها حتى يتسنى محو الأحكام المسبقة ويتمكن الناس من الاستماع إلى بعضهم.. فإن نتمكن من فعل ذلك، تصبح الرسائل التي سنقدمها أكثر قيمةً في نظرهم، ولا ننسَ أنَّ أحدَ أهمِّ أسباب قبول رسالة نبينا ﷺ في المجتمع الذي عاش فيه هو أنه عُرف رمزًا للصدق والأمانة في الفترة التي سبقت نبوّته؛ فكان محبوبًا من الجميع.
دعونا نمثّل القيم التي ندعو الآخرين إليها تمثيلًا جذابًا وجميلًا يدفع إلى الغبطة، لنفعل هذا لأنفسنا، من أجل علاقتنا بالله.
المعقولية ومراعاة الأسباب
من المهمّ جدًّا لتحقيق النجاح أن يكرّس المرء نفسه لقضية “إعلاء كلمة الله”، وأن يفعل كلَّ ما يفعله بإخلاصٍ وصدقٍ؛ فالأعمال التي تتمّ بإخلاصٍ وحسن نيّة يقبلها الله جل جلاله مهما كانت صغيرة، وتبلغ قيمًا أسمى من القيم، ولكن المعرفة والتجربة والمنطق أيضًا أمور ترتقي في الأهمّية إلى مرتبة النية الحسنة والإخلاص حتى تؤتي الخطوات المتخذة ثمارها وتبقى على الدوام.. وعلى سبيل المثال: بما أن استخدام العنف ليس صفةً إسلامية، فليس من المنطق اللجوء إلى العنف في تبليغ الدين ونشره.. وبما أن العمليات الإرهابية والتفجيرات الانتحارية التي ينفّذها اليوم أشخاص ينسبون -للأسف- للإسلام تخالف روح الدين تمامًا؛ فليس هناك منطقٌ لأيٍّ منها؛ لأنه يستحيل الوصول إلى أي هدفٍ أو غاية بواسطة الإرهاب والعنف.. وحتى وإن تم الوصول إلى هدفٍ ما، فيستحيل الاستمرار والبقاء هناك؛ لأن مثل هذه الأعمال تترك وراءها ضغينة وكراهية وحقدًا وغضبًا دفينًا، وذات يومٍ سيخنق هذا الغضب من تسبَّب به، فإن أريد للعمل المنجز القبول والبقاء في نظر الناس، وجب البدء بالنوايا والأفكار الحسنة، والتحرك أيضًا وفقًا للإرادة الإلهية، واستخدام العقل والمنطق حتى النهاية.
بما أن استخدام العنف ليس صفةً إسلامية، فليس من المنطق اللجوء إلى العنف في تبليغ الدين ونشره.
إذا كنتم تريدون من الآخرين قبولَ العمل الجيّد الذي أنجزتموه، أو على الأقل عدم التدخّل فيه، فيجب عليكم أن تجعلوا قضيّتكم قضية عالمية.. لدرجة أنه عندما يريد بعضُ الظالمين والمعتدين -الذين يريدون الهيمنة على العالم، وتُغذِّيهم النزاعات أو المنهزمون لضغائنهم وكراهيتهم- عرقلَتَكم ومنْعَكم، وجب على الآخرين أن يدافعوا عنكم قائلين: “لا.. لا تؤذوا هؤلاء، فهم يركضون في إثر أعمال جيدة للغاية لصالح الإنسانية”.. وكما يجب عليكم أن تركضوا دونما توقُّفٍ من أجل سلامة الإنسانية وأمنها من ناحية؛ فعليكم أن تراعوا من ناحية أخرى جميعَ الأسباب حتى لا تضيع أوجهُ الإحسان والبرِّ الذي قدمتموه هباءً منثورًا.
لدينا إيمان كامل بأن مفخرة الإنسانية ﷺ دليلٌ ومرشدٌ غير خادع يكشف الطريق إلى الجنة؛ وبالتالي يجب على الإنسانية أن تتبعه دون شك.
ومع أنّنا نثق تمام الثقة في عناية الله وحفظه وحمايته؛ إلا أننا لا نستطيع أن نبني مشاريعنا على ذلك مع تجاهل قانون السبب والنتيجة، وكما نؤكّد دائمًا فإن دينَنا يعلّمنا أن نراعي الأسباب مراعاةً تامّة بعد التوكل على الله والثقة بعنايته وحفظه، وألا نهمل شيئًا من الأسباب مهما بدا صغيرًا، فكل شيء إنما يحدث بخلق ربنا إياه ونعمته ولطفه وكرمه، لكنّ العبدَ مطالَب بالتحرّك وفقًا للخطّة التي سيضعها، وليس وفقًا لما سيأتي من الله من لطف آخر.. ولو كان الحكم يبنى على ألطاف إضافية، لكان نبينا ﷺ أول من يفعل ذلك، لكنه لم يفعل؛ فلم يخطط أبدًا لأيٍّ من أعماله في إطار خوارق العادات، ولو أن الله تعالى أراد لأرسَلَ نيزكًا من السماء على هامات أعداء مكة الأفظاظ، فقضى عليهم.. إلا أن رسول الله ﷺ عاش إنسانًا إلى أن صار إمامًا للبشرية، كان يعيش في عالم الأسباب، وكان ينبغي لتوجيهاته أيضًا أن تكون وفقًا لذلك.. ومهما منَّ الله على المؤمنين بألطافه الواسعة دائمًا؛ فإن واجبهم هو عدم ترك أية ثغرة في أعمالهم، وعدم التقصير فيها، واتخاذ كل الاحتياطات التي يتعين اتخاذها، بحسب الظروف التي يعيشون فيها.
الهدفُ الأساس للمؤمن ليس هو سلطنة العالم ولا حتى نِعَم الآخرة، وإنما هو الفوز برضا الله.
نعم، يجدر أخذ كل الاحتياطات اليوم لحماية المشاريع المنفذة لمصلحة الإنسانية، وضمان عدم إهدار المدخرات التي تم تحقيقها ببذل آلاف الجهود، وعدم إهدارها من قبل أحدٍ مستقبلًا، واستمرار الخدمات المقدمة للبشرية، يجب بناء أسوار حصينة كما فعل اليسوعيون والأورارتيون، حتى لا تصل أيدي الأشرار إلى هناك، ولا يتضرّر الانفتاح الذي بدأ ولا يزال مستمرًّا بعناية الله وكرمه، ولا تضيع سدى جهود المخلصين الذين يخدمون في كل أنحاء الدنيا.
ولكي يستمر هذا الانفتاح الجميل في طريقه دون توقّف؛ يجب أن نجتمع معًا ونتشارك في تلاقح الأفكار وعصف الأذهان والاستشارة والحكمة، ونحاول إيجاد الطرق والأساليب الأكثر منطقية وواقعية أيًّا كانت.. علينا أن نستفيد من فكر الجميع حول هذه المسألة.. علينا أن نكون منفتحين على الأفكار البديلة والطرق والأساليب المختلفة التي من شأنها أن تضيء آفاقنا، وتعطينا معلومات مهمة عن الطريق الذي نسير فيه، وأن نسرع من وتيرة حركتنا.
إنني لا أستطيع العثور على طريقة للتخفيف من الشوق والألم الذي أعيشه إزاء هذه الجغرافيا الإسلامية المفقودة حتى الآن.
الصبر والتأنّي
هناك نقطة أخرى يجب الوقوف عليها فيما يتعلق بالموضوع، وهي: أن تبَنّي المجتمعات والشعوب للخدمات التي تبذلونها من أجلهم عبر التعليم أو الحوار أو الأنشطة الثقافية أو المساعدات الإنسانية، وتقبلهم إياها، وتمسكهم بها ودفاعهم عنها مرهون بالوقت، فيجب عليكم بدايةً بثُّ الثقة في مخاطبيكم، لذا عليكم أن تصبحوا جزءًا من المجتمع الذي تعيشون فيه، وتنخرطوا في بنيته، وتندمجوا معه.. فإذا بقيتم جسمًا غريبًا في المجتمع الذي تعيشون فيه وتعذّر عليكم الاندماج فيه، فسوف تُقلعون وتقذفون منه يومًا ما.. يجب أن يتبنّوكم، ويعتبروكم منهم، حتى لا يرتابوا في صحة رسالتكم وينفعلوا ضدكم.
نحن نؤمن من كلِّ قلوبنا أن الإسلام هو الدين الأكمل والأتمّ، وأن الله تعالى قد أكمل بفضل هذا الدين النعم التي أنعم بها على البشرية.
نعم، إن الاندماج في المجتمع، والصيرورةَ جزءًا منه، والثباتَ فيه أمرٌ مرهونٌ بالوقت.. فيجب العمل في إطار ما تسمح به الظروف دون تسرّع، وربما تؤدّي بعض الترقيات المفاجئة إلى ردة فعل أحيانًا، ولا سيما لدى المجتمعات التي تتمسّك بتقاليدها ودياناتها فإنها لا تستوعب المشاريع التي يطرحها أشخاص تعتبرهم أجانب، فتتخذ ردّة فعلٍ معينة إزاءها، فمثلًا: قد يُزعج إنشاؤكم عشرات المدارس في بلد ما دفعةً واحدةً جماعات المعارضة القوية الموجودة هناك، وحتى لو لم تكن لكم أية علاقة بالحكومة أو السياسة فقد يشعرون بالقلق، لأنهم لا يعرفون ذلك ولا يعرفونكم بعد، قد يعتقدون أنكم ستنفّذون أجندةً سرّية خاصة، فثمة حسابات وخطط أعدّوها منذ فترة طويلة، ولا يريدون لها أن تفسد.
يجب أن تكون الأساليب والمناهج التي تُتَّبع إعلاءً لكلمة الله متوافقةً مع متطلبات العصر، وإلا فإن النجاح في هذا صعب للغاية، بل قد تتكون النتيجة عكسية.
وعليه فيجب ألا تركزوا فقط على مشاريعكم وغاياتكم المثالية الخاصة، ولكن يجب عليكم في كل خطوة وانفتاح تبدؤونه أن تضعوا في اعتباركم أيضًا مصالح المجتمع الذي تعيشون فيه، وما ينتظره منكم وما يريد القيام به دنيويًّا.. وعليكم أن تتأكدوا من أن أنشطتكم منسجمة معه، وبمعنى آخر: يجب أن تحددوا القواسم المشتركة تحديدًا جيدًا وتنطلقوا من خلالها، وتطمئنوهم فعليًّا بأنكم لا تشكلون عقبة في طريقهم، وأنكم لستم معارضين لسياساتهم الدنيوية العامة، وإلا فلن يتركوكم في راحة في الدول الأجنبية مثلما لا تُتركون في راحة حتى في بلدكم.
والحاصل؛ أنه يجب أيضًا وضع القضايا المذكورة أعلاه في الاعتبار وحسابها جيدًا بينما نركض في إثر غاياتنا المثالية على طريق يتشابك فيه الفكر والعمل ويتداخلان.. فالقدرة على التفكير في كل شيء والعثور على الحقيقة والنجاح في كل شيء في عالم قائم على مثل هذه التوازنات الدقيقة، أمرٌ صعبٌ حقًّا.. فلا أضلَّنا الله ولا أبعدنا عن الاستقامة.