إن العقل والقلب والفكر وأحاسيس الإنسان وكذا الوحي بكل ثمراتها، وأمور أخرى غيرها… لها جميعًا في نظامنا الفكري أهميةٌ بالغة وكأنها وجوه متنوعة لشيء واحد. ونستطيع القول دائمًا بأن هذا النظام أوسع وأرحب من غيره من حيث سعة المساحة التي استقر عليها.
لأن الإسلام رعى دائمًا هذا الانفتاح والسعة في رسائله وتبليغاته إلى الإنسانية. فإنه إذ أقام مناسباته مع المخاطَبين والمنتسبين إليه، اتخذ -في إطار مرجعية العقل- سبيلَ حوارٍ فكريِّ البعد، متلون بالمشاعر، مستند إلى الوحي، ورحيب بالإلهام، وبنى أحكامَه على أسس تربط بين الإنسان والوجود والخالق، متينةٍ وملائمةٍ للمحكمات القرآنية ومعقولةٍ ومنطقية.
إن هذه المناسبة التي أسسها الإسلام على ضوء القرآن، لهي الأشد قوة، والأفضل توافقًا مع الحس الإنساني والأقربُ إلى محاكمته الفكرية، حتى إننا لا نجد في نظام قبله ولا بعده مثيلاً له في رعاية التوازن بين العقل والقلب والروح.
نعم، إن الإسلام هو النظام الأمثل والأنسب مع سجية الإنسان وطبيعته؛ سواءٌ من وجهة عالمه الداخلي الضيق أو من وجهة علاقته بالعالم الكبير الشامل، ولا يوجد مثيل ولا شبيه له في الاستجابة لحاجات الإنسان، ولن يوجد. وهذا الحال طبيعي للغاية، لأن مصدره الأول هو الوحي الصافي النقي، وتفسيره الأول هي السنة؛ فكما القرآن معجز، كذلك نظامه المنبثق والمكوَّن من خطاباته وتعاليمه معجز.. وكما أن القرآن لا مثيل ولا شبيه له، فلا مثيل أو نظير للإسلام الذي يعد من آثاره.
في العالم النوراني للقرآن، يتغير الوجود والأشياء والطبيعة فجاءةً، وتتحول هذه الأمور وتأخذ صورًا مختلفة، ويبلغ الإنسان وأحاسيسُه المادية والمعنوية إلى أعماق غير معهودة، ويسمو العقل -بفضل ذلك البيان المعجز- إلى رؤية الأشياء على حقيقتها، ويتمكن القلب في جوه النيِّر من التفسح تمامًا فينمو ويتطور، والروح إنما يحلّق بأجنحة وَارِدَاتِه، فيعلو إلى “عرش كماله” (كمال الروح).. يعلو إلى أن يربط كلَّ شيء بـ”سلطنة القلوب”. هذا ما حصل أمس، وهذا ما يحصل اليوم، وهذا ما سيحصل غدًا. ويكفي لتحقيق ذلك أن يستشعر المؤمنون القرآنَ ويتشربوه بعواطفهم وحسهم وشعورهم وإدراكهم… فيستشعروه غضًّا طريًّا صافيًا نورانيًّا يؤجج مشاعر مخاطبيه كما كان في عهد نزوله. والواقع أن الذين لديهم استعدادٌ وقوةُ إحساسٍ ظلوا يجدون في القرآن نفحاتِ العشق والإثارة والشوق والاشتياق، وأن من أنصتوا إليه بأُذُن القلب انتفضوا دائمًا بنداء “الانبعاث بعد الموت” المسموعِ منه عاليًا.
نعم، إن القرآن قد جاء بمفهوم مختلف لـ”الجهاد” من حيث كنهه ونكتته؛ جهادِ تحفيزِ الناس ليتعرفوا على أنفسهم وذواتهم.. وجهادِ إنشاء العلاقة مع الوجود كله.. وجهاد التمرد على الجسمانية والنفسانية.. وجهاد أن ينتصر المؤمن على نفسه ويفتحَ قلعةَ ذاتِه من الداخل.. وجهاد الاستعدادِ المستمر واتخاذِ الموقف الواضح ضد كل العواطف والغرائز التي تهبط بالإنسان من أمثال: العداوةِ والحقد والكراهية والشهوة والضغن والحرص والحسد.. وجهادِ أن يربط كلُّ أحد نفسَه بفكر سام وهدف عال.. وجهادِ تخطِّي كل المخاوف والتطلعات.. وجهادِ اعتبار الدنيا غرفةَ انتظارٍ للآخرة وإحياء الأخرويات وإعمار ما هنا كسبيل إلى ما هناك إلى غير ذلك من أنواع الجهاد الكثيرة.
لقد ظل القرآن -قرابة ربع قرن- يقدّم للناس معظم رسائل الجهاد من هذا القبيل، حتى نما بتبليغاته الباعثة على الحياة، فصار ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾(إبراهيم:24) فانتشر وحوَّل مساحات واسعة إلى جنات… نعم، كانت كل آية في عهد النـزول كأنها صوت شلالٍ هادر، وماء كوثر عذب متدفق كفواراتٍ دائمة الانبجاس، وبالأحرى، كالفواكه في تباشيرها الأولى القادمة من عالم الألوهية. فكان المشتاقون الطافحون رغبةً يجْنُون هذه الفواكه فور ظهورها بمنتهى الحماس، ويقدّمونها لتقدير القلوب والأرواح ويتتابع التقديم والتقدير كرة بعد كرة بلا فتور، ويقعد ويقوم أولئك المحظوظون كل يوم على هذه المائدة السماوية الآخذة بالألباب. فبفضل هذه الخطوة، كان أولئك المخاطبون المتدفقون حيويةً، يعيشون -بزخاتِ غيث الوحي الهاطل كل يوم على آفاقهم- “انبعاثاتٍ بعد الموت” متشابكةً ومتداخلةً كأنهم سمعوا صوت الصُّورِ من اللانهاية، فيغدو كلٌّ منهم “خضرًا”، فيَنفخ روح الحياة في كل من يمر به… وكانوا يتسلقون ذرى حظوظهم السعيدة “بانبعاثاتٍ” تترى، في حيوية عظيمة دائمة، واشتياق طافح لا يستكين، ورغبات جياشة. الله تعالى يناديهم إلى الانبعاث في العواطف والفكر والروح والقلب بقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾(الأنفال:24)، وهم بدورهم يردون على هذا النداء من دون تردد فيقولون: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾(آل عمران:193) ويهرولون لتلبية هذه الدعوة الإلهية.
إن سر حيويتهم الدائمة فيهم كامن في الجو الذي كانوا يعيشونه؛ فأولئك كانوا يستمعون إلى القرآن بقلوبهم ومن غير حكم مسبق، ويؤمنون به بإخلاص تام، ويتوجهون إلى الله في نور هذا الكتاب الجليل، ويحبونه من أعماق قلوبهم.. وكانوا لا يتوقفون عند حدود الحب، بل كانوا يسعون -بكل شوق عميق- في سبيل تحبيبه إلى كل الناس وجعله مقبولاً لديهم. يعتنون أشد الاعتناء لئلا تتلطخ مشاعرهم وأفكارهم الإسلامية بألوان نزواتهم، ويسعون إلى الترنم بالإسلام وتمثله بذات لونه ونقوشه وبهائه، فلذلك كانوا يتلقون من المخاطَبين “الجواب الصواب”.
ففي هذا الجو المضيء النيِّر كان الإسلام والقرآنُ يُفهَمان على حقيقتهما؛ فيَصِل إليه الجميع بلا عنت ولا رهق ولا عائق، ويفهمونه، ويرون فيه بعين القلب عظمةَ الحق تعالى، ويقيِّمون كل شيء تقييمًا صحيحًا بعقولهم ومنطقهم ومحاكمتهم التي لم تفسد بالدرن والحكم المسبق. ولم يكونوا يَجمُدون عند العلم المجرد مطلقًا، بل يُردِفون العمل بالعلم من فورهم، ويضعون “التمثّل” قبل العلم، ويُحوِّلون المعلومات وما حصَّلوه من معارف إلى قوة محرِّكة، فيحوِّلون علومهم النظرية إلى واقع عملي بيسر وسهولة. فهؤلاء أدركوا في وجدانهم الرحيب الغاية من خلق الإنسان وخلق الوجود، فتذوَّقوا في التوجه إلى الله ومعيتِه تعالى ما يجده غيرهم في المادة والحظوظ الجسمانية والرغبات النفسانية، وتخلصوا من كل ضيق يتعلق بالجسمانية وانفسحوا كل يوم في إقليم القلب الواسع الرحب إلى عمق جديد.
لقد تكررت الحياة -ولو بفواصل زمنية- في ظل تفسيرٍ قرآنيٍّ سليم، وتصوُّرٍ إسلاميٍّ مستقيم، وبالأحرى في نظامِ حياةٍ نابع من التمثل بالإسلام، ذي الأفق السماوي المذهل للعقل، بحيث لم يبلغ الخيالُ شأوَه حتى في تصورات المدن الفاضلة المثالية. ومَن يدري لعل تلك الحياة القرآنية ستتكرر مرات عديدة فيما يأتي من الزمان!؟ فما من عائق يحُول دون الحياة الروحانية بهذه الدرجة مهما تغير الزمان وتحولت العصور.
وإن مثل هذه الحظوة يمكن أن تتحقق في الحاضر أيضًا، إذا تشبَّع المسلمون -في إطارِ ما أشرنا إليه آنفًا- بروح كفاحٍ مكين، ولم ينقادوا للفتور مهما كانت الظروف، وتصرفوا دائمًا بوعي وانتباه، وتعالوا على النفس والجسمانية فأداموا حياتهم حسب أفق القلب والروح، وظلوا يقظِين ومنتبهين حيالَ أيِّ مساوئ قد تصدر منهم بمقتصى طبائعهم وماهيتهم البشرية، ولم يتركوا مجالاً لظهور أي فكرٍ سلبي في عوالمهم الداخلية.
وإن من أهم جوانب العمق في التصور الإسلامي هو دعوته إلى إعمار الحياة الدنيا التي قد تبدو مستحقرة لدى البعض، وذلك بربط كل شيء برضا الحق تعالى، وإلى جعْلِ الدنيا مكانًا مغبوطًا ومحبوبًا بترتيبها وتجهيزها على اعتبار أنها غرفةُ انتظارٍ ومَمَرٌّ إلى الآخرة… فيمكن في إطار هذه الفكرة النظرُ إلى الدنيا على أنها مزرعةٌ ومَعْبَرٌ وميناء ومنطلَق للوصول إلى الآخرة.
نعم، إن الإسلام إذ يحاور مخاطبيه، يَأخذ بنظر الاعتبار كلَّ مشاعرهم الظاهرة والباطنة، وكلَّ أعماقهم من أمثال الفكر والحس والشعور والمنطق والإدراك… إنه يَعتبر الإنسانَ كلاًّ جامعًا مع لطائفه وأحاسيسه، ويخاطبه في هذا الإطار، فيستجيب لرغباته ويسد احتياجاته الطبيعية والبشرية، ويمهِّد له البيئةَ الصالحة لانفساحه بيسر في كل زمان وفي كل مكان.
ومن خصوصيات نظام الفكر الإسلامي، اعتمادُه على مرجعية الكتاب والسنة أكثر من سائر مصادر العلم والمعرفة. فهو بهذا الوجه يتميز عن التنظيمات الدينية والتيارات الفلسفية كلها. فالإسلام منذ ظهوره، باعَدَ بينه وبين الميراث القديم والتنظيماتِ المتنوعة التي تظهر بصورة الدين، وأراد أن يبقى بكيانه وذاتيته… ومع أنه وقَّرَ ما هو غير محرَّف ومبدَّلٍ منها وسماها “شَرْع مَنْ قَبْلَنَا”، لكنه بقي في الأصل مستَمِدًّا من المصادر الأساسية التي نعتبرها “المنهل العذب المورود”.
والحق أن الإسلام لم يكن -في أية حال- بحاجة إلى الميراث القديم أو الأحلامِ والفانتازيات الجديدة. وكيف يحتاج إليها وكان سنده القرآن؟ القرآنُ “المتضمِّنُ -إجمالاً- كلَّ الكتب التي جاء بها الأنبياء في مختلف العصور، وكلَّ رسائل الأولياء بأنواع مشاربهم، وكل آثار الأصفياء بمسالكهم المتشعبة…. اللامعُ من كل جهاتِه؛ من فوقه وتحته، وأمامه وورائه، ويمينه وشماله… المنغلقُ تجاه كل الأوهام والشبهات… كتابٌ نقطةُ استنادِه الوحيُ السماوي والكلامُ الأزلي باليقين… وهدفه وغايته السعادة الأبدية بالمشاهدة… وباطنه صريحُ الهداية الخالصة… وأعلاه أنوار الإيمان… وأسفله الدليل والبرهان، بعلم اليقين… ويمينه تسليم القلب والوجدان بالتجربة… وشماله تسخير العقل والإذعان بعين اليقين… وثمرته رحمة الرحمان ودار الجنان”.(1) لذلك لم يجد الإسلامُ المتغذي من هذا الكتاب حاجةً أبدًا، لا إلى تخيلات المثاليين ولا إلى محصلاتِ منطق الواقعيين، ولا أصولِ وطرق التجريبيين أو غيرهم، ولم يَرجع إليها ولم يَعتبرها مصادرَ موثوقًا بها.
الإسلام يختلف عن النُّظُم السماوية وغير السماوية كافة، بأسلوبه الخاص ومناهجه، وما اقترحه وقدَّمه من حلول للمعضلات البشرية. وهو من كل وجهٍ أنموذجٌ لـ”الكمال” بكل معنى الكلمة. فهو يضع الإنسان في إطار واسع؛ آخذًا بنظر الاعتبار خصوصياتِه الأساسية بتمامها، ومَلَكاتِه الذهنيةَ والفكرية والروحية بمجموعها، ثم يشحنه بطاقات متنوعة… فلا يحصر توجهَه في العقل والفكر، ولا يقيّمه كوجود عقلي ومنطقي بحت، ولا يُهمل أحاسيسه، ولا يغض البصر عن آليات وجدانه كما يفعل قسم من المدارس الفلسفية… بل الإسلام ينظر إلى الإنسان بعين الخالق تعالى، فيضعه في قالب متين بكله الذي لا يقبل التجزؤَ والانقسام، ويستجيب لمطالبِ أحاسيسه الداخلية والخارجية، ويُعِدُّه بعناصرِ وجوده المادية والمعنوية كلِّها ليكون جاهزًا للسعادة الدنيوية والأخروية وأهلاً لدخول الجنة.
أما تحقيق هذه الأمور من البداية إلى النهاية، فنحيله إلى الأقلام المتخصصة للإسهاب فيها تمحيصًا وتحريًا.
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.
الهوامش:
(1) من الكلمات (الكلمة الخامسة والعشرون)، لبديع الزمان سعيد النورسي، ص:419، دار النيل، ط1، 2008، القاهرة. بتصرف يسير.
المصدر: مجلة حراء، العدد: ٢٦
Leave a Reply