الصورة المكبّرة للأحداث
26 ديسمبر/كانون الأول (2013م)
في بداية حديثي أريد أن أنوه إلى أمرين مهمين؛ أولًا أنني لا أرغب في أن أُلحِق بتركيا أو حزب العدالة والتنمية أو حتى السيد رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” أي ضرر من طرفي، فانتقاداتي التي أوجهها إلى سياسات الحزب الحاكم وقادته بنَّاءة وهي بمثابة تحذيرات أخوية تهدف إلى تصحيح الأخطاء التي وقع فيها قادة الحزب في سياساتهم الداخلية والخارجية، ثانيًا: إن الهدف الأساسي من كتابتي العبارات التي سأذكرها فيما يلي ليست هي الفكرة التي أدافع عنها بل هي تحليل وتشخيص الواقع الذي نعيش فيه، وبعبارة أخرى فإن الصورة المكبرة للواقع والتي توصلت إليها من خلال تحليلاتي للأحداث الجارية؛ هي الصورة الحقيقية لخلفية الأحداث التي نعيشها وليست الصورة التي آمل وأحلم بها.
عندما ننظر إلى الصورة المكبرة للأحداث الجارية سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي نجد أن “السياسة الدولية” للولايات المتحدة الأمريكية التي هي حليف لتركيا في حلف “الناتو” وترتبط بها بشراكة استراتيجية؛ باتت لا تقر سياسات حزب العدالة والتنمية، كما نرى أن العلاقات الثنائية بين البلدين ليست كما كانت في عهدها السابق، أما علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي فهي في غاية السوء، ورغم مساعي الحكومة لاستمرار وتيرة الانضمام إليه وهي تسير ببطء وفي اتجاه لا يدعو إلى الأمل، وعلاقاتنا مع العراق متوترة جدًّا، أما سورية ومصر فقد تهدمت الجسور بيننا منذ زمن بعيد، أما السعودية فقد دخلنا في علاقاتنا معها في مرحلة مغايرة تمامًا لما كانت عليه في السابق، ودولة قطر التي تعتبر أقرب حليف لنا في المنطقة، ترسم لنفسها خارطة طريق جديدة في سياساتها الخارجية وذلك بعد تخلي الأمير الأب عن الحكم وإخلاء مكانه إلى الأمير الابن، وأما إيران وهي الجار الأكبر من حيث المساحة والسكان لتركيا فهي مقبلة على تغييرات جذرية في سياساتها، حيث إن حكومة “روحاني” تسعى إلى تحسين علاقاتها مع أمريكا والغرب بهدف إنهاء الحصار المضروب عليها… ومن يدري، قد تفتح الحكومة الإيرانية في المستقبل مسارًا جديدًا يسهل عملية التواصل بينها وبين إسرائيل، وفي أحد البرامج التليفزيونية التي بثتها إحدى القنوات الإيرانية ذكر أحد المتحدثين في البرنامج أن سياسات حكومة “أردوغان” الحالية تشبه سياسات حكومة “أحمدي نجاد” إلى حد كبير، باختصار: إيران تتجه إلى إنهاء العمليات المالية والتجارية غير الرسمية التي تقوم بها جراء الحصار المضروب عليها بسبب برنامجها النووي، وفي السياق نفسه تجري إيران تحقيقات مع “ببك زنجاني” الذي تورط في عمليات تجارية غير رسمية في فترة حكم “أحمدي نجاد” والذي يُدَّعى أن له علاقات مع “رضا ضراب” الذي ورد اسمه ضمن تحقيقات فضيحة الفساد في تركيا.
لا شك أن ابتعاد تركيا عن المنظومة الغربية واقترابها من روسيا أحد الخيارات المطروحة أمامها في هذه الفترة، غير أن روسيا لا يمكن أن تعطي الضوء الأخضر لتركيا دون أن تراجع أمريكا والغرب، ولقد رأينا كيف أقنعت كلتا الدولتين العملاقتين بعضهما بعضًا في الأزمة السورية، وباختصار فإن دولة تركيا التي حققت نجاحات مبهرة في السياسة الخارجية حتى عام (2011م)، تكاد تعاني اليوم من مشاكل مع الدول المجاورة فضلًا عن الدولة البعيدة.
وعلى صعيد السياسة الداخلية للحزب نجد أن المشهد الداخلي لا يدعو للأمل، فموقف الحزب القمعي حيال أحداث منتزه “جيزي (Gezi)” أدى إلى تشكيل كتلة عدائية في المجتمع التركي للحزب وزعيمه، كما بدأ أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الذين تضاعفت ثرواتهم خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية يتخذون موقفًا سلبيًّا تجاه الحزب وسياساته، أضف إلى ذلك أن بعض أصحاب رؤوس المال الكبيرة من المحافظين المعروفين بوقوفهم مع الحزب الحاكم منذ تأسيس الحزب قد أخذوا يجمدون علاقاتهم مع الحكومة، وأما التوتر القائم بين حزب العدالة والتنمية والليبراليين منذ الانتخابات التي أجريت في تركيا عام (2011م) ما زال يشكّل عقبة كبيرة أمام تركيا، وأخيرًا إن الأزمة القائمة بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة” التي بدأت مع إصدار الحكومة قرارًا يقضي بإغلاق “المعاهد التحضيرية” قد تضاعفت إثر موقف حركة “الخدمة” حيال قضية “فضيحة الفساد والرشوة” كما أن إقدام الحكومة على عمليات اعتقال ومداهمات موسعة في صفوف أفراد الحركة ومؤسساتهم، واتهام الحركة بأنها متورطة في “تشكيل كيان مواز داخل مؤسسات الدولة تعمل لصالحها” قد زاد الطين بلة، ومما لا شك فيه أن الأزمة القائمة بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة” إذا استمرت على هذه الشاكلة فإن ذلك سيفتح في البنية المجتمعية شروخًا عميقة وجروحًا غائرةً يصعب اندمالها بل حتى نسيانها على مدى قرون طويلة.
إذا كانت الصورة المكبرة التي حاولنا رسمها أعلاه صحيحة وحقيقية فإن هذا يعني أن هذه الحكومة التي تنتهج سياسة النزاع والصراع لا يمكن أن تواصل سلطتها على هذه الشاكلة، وربما هناك أياد خارجية تحاول أن تُظهِر شخصية “أردوغان” على أنه “رجل الحي القوي الذي يتحدى العالم كله، ويتحدى كذلك الدبابات بمسدسه الذي يحمله بيده” ويبدو أن البعض يسهم في إنتاج هذه الصورة والترويج لها.
وقناعتي الشخصية أن السيد رئيس الوزراء السابق وحكومة العدالة والتنمية تم توجيهها في اتجاه خاطئ في كل من الأزمة السورية ومأساة “أولوديري (Uludere)” وأحداث منتزه “جيزي” وموضوع “المعاهد التحضيرية”.
إن الحقيقة التي ينبغي الانتباه إليها في هذا الصدد؛ أنه لا يمكن استمرار السلطة وإدارة شؤون البلاد في ظل السياسات المتعارضة والمتضاربة مع القوى الداخلية والخارجية، ولا شك كذلك إن زيادة حدة التوتر تدفع البلاد إلى حالة من النزاعات والصدامات الداخلية، وإذا وصل هذا التوتر حدًّا خارج السيطرة فسوف يضرب البلد بزلزال عميق يوقعه في خطر الانفصال والتشرذم.
على الجميع أن يتصرفوا بشعور من المسؤولية، وأن يسعوا إلى تخفيف حدة التوتر، ولا سيما السيد رئيس الجمهورية الذي يملك الصلاحيات التي تمكنه من تهدئة الموقف والوصول بتركيا إلى بر الأمان.

تفسير ما يحدث في تركيا
31 يوليو/تموز (2014م)
لقد رفض السيد رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” عندما كان رئيسًا للوزراء العرض الذي قدّمه السيد “بُولَنْت أرنج” لتسوية النزاع القائم بين الحزب الحاكم وحركة “الخدمة”، وبموجب هذا العرض ستطلب الحركة المسامحةَ والعذرَ من المسؤولين الكبار وعلى رأسهم السيد “أردوغان” ويتم بذلك العفو عن الحركة، إلا أن السيد “أردوغان” رفض هذا العرض بقوله “لن يحدث ذلك طالما أنا في منصبي”.
ومع أنني أرى أن أسلوب السيد “بُولَنْت أرنج” في التعامل مع هذه القضية الهامة خاطئ من حيث المبدإ إلا أنني أؤمن بصدقه وإخلاصه، ولكن هناك حقيقة لا يمكن أن نتغاضى عنها أن هذه المشكلة لن يتم حلها من خلال اعتذار أو طلب المسامحة لطرف من الآخر، وإذا كانت ثمة مؤامرة مدعومة من الخارج ضد حكومة “حزب العدالة والتنمية”، وقام البعض بالتنصت على المسؤولين الحكوميين بشكل مخالف للقوانين والأخلاق، وإذا كانت حركة “الخدمة” وراء هذه المؤامرة على حد زعمهم؛ فيجب الكشف عن ملابسات هذه القضية من خلال الإجراءات القضائية، وإلى جانب ذلك لا بد أن يُسمح للجهاز القضائي بحرّية النظر إلى الملفات التي أعدها المدعون العموميون حول فضيحة الفساد والرشوة التي تم الكشف عنها في (2013م) والتي تورط فيها الوزراء الأربعة السابقون من حكومة حزب العدالة والتنمية وأبناؤهم وبعض رجال الأعمال وغيرهم، ولكن ما رأيناه من تدخلات من قبل الحكومة بشكل علني في العمل القضائي ومنع المدعين العموميين من استكمال التحقيقات مع المتهمين والتعديلات التي أُدخلت في الجهاز القضائي للحيلولة دون أن يخضع المسؤولون من السلطة الحاكمة لمساءلة قضائية؛ ألقت بظلالها على احتمالية أن تشهد تركيا بعد الآن محاكماتٍ عادلةً ومحايدة.
أعتقد أن الكثير من الملايين التي تؤيد الحزب الحاكم ونوابه وعلى رأسهم السيد “بُولَنْت أرنج” لا يوافقون على الإجراءات غير القانونية التي ينتهجها الحزب في الآونة الأخيرة في التعامل مع الأحداث الأخيرة التي تشهدها البلاد بل إنني على يقين أن السيد “أرنج” يشعر ببالغ الحزن والأسى لما تشهده تركيا اليوم من الإجراءات التعسفية التي تنفذها الحكومة ضد مجموعة من الناس الأبرياء، ويرى السيد “أرطغرول جوناي (ErtuğrulGünay)” الذي تولى منصب وزير الثقافة في الحكومة السابقة أن معظم أنصار حزب العدالة والتنمية ومن بينهم النواب من الحزب الحاكم يؤمنون بأن بعض المسؤولين من الحكومة قد تورطوا في الفساد والرشوة بالفعل، فيما يعترف السيد “علي باباجان (AliBabacan)” وزير الدولة لشؤون الاقتصاد السابق أن تركيا لم تمض قدمًا لتأسيس دولة ديمقراطية تحترم الحرياتِ والعدالةَ الاجتماعية، وأما السيد “أردوغان” فقد صرح في ثلاث مناسبات بأن هناك نوابًا من الحزب الحاكم لا يدعمونه وأنه يسجلهم في قائمة لديه.
والأمر الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد أنه إذا كانت هذه الإجراءات التعسفية والعمليات التي تتنافى مع القوانين ما زالت مستمرة في تركيا بالرغم من عدم موافقة بعض المسؤولين من الحزب الحاكم والنواب؛ فهذا يعني أن هناك فصيلًا معينًا يقف وراء هذه الإجراءات والعمليات، والدليل على ذلك ما قاله السيد “إدريس نعيم شاهين” وزير الداخلية الأسبق في حكومة حزب العدالة والتنمية عند تحليله للأحداث الأخيرة في تركيا حيث يقول “شاهين”:
“إن هناك فصيلًا معينًا من الحكومة يسيطر على زمام الأمور في البلاد”.
إنني أتابع الأحداث السياسية والتطورات الجارية على الساحة المحلية والإقليمية والدولية وأكتب تحليلاتي وتوقعاتي حول هذه الأحداث والتطورات منذ ما يزيد عن خمسة وأربعين عامًا ولم أخطئ في معظم هذه التوقعات بحمد الله تعالى لأنني أشعر دائمًا أن كل ما أكتبه أو أقوله سيحاسبني الله تعالى عليه يوم الحساب، وعلى ذلك أكتب لقرائي الكرام تفسيري للأحداث الجارية في تركيا على النقاط التالية:
أولًا: إن ما يحدث اليوم في تركيا من تطورات وأحداث يشير إلى أن هناك “مؤامرة كبيرة مدعومة من الخارج ضد الفئات المتدينة من الشعب التركي بالإضافة إلى الحزب الحاكم وحركة “الخدمة” والحركات الإسلامية”، فمنفِّذو هذه المؤامرة ينتهجون أسلوب التضليل أي يستهدفون حركة “الخدمة” ولكن يهدفون من خلال ذلك إلى القضاء على جميع خصومهم بما في ذلك الحزب الحاكم، فهذه المؤامرة هي استمرار للانقلابات التي تقوم بها الدولة العميقة المتمركزة في جهاز الدولة والتي تتحرك بعقلية “الاتحاد والترقي”، فالحركة الآن ألقيت في حوض به تمساح قاتل -إذا جاز التعبير- تحاول بكل ما أُوتِيت من قوة الخلاص من هذا المأزق الذي تتعرض له في الآونة الأخيرة، وما يقوله الكاتب الصحفي التركي السيد “نوزاد يالتشينطاش (NevzatYalçıntaş)” يلقي الضوء على هذه المسألة الهامة حيث يقول “يالتشينطاش”:
“إن القوميين العلمانيين المتمركزين في أجهزة الدولة دائمًا ما يسعون لتصفية أي فئة أو حركة لا تخدم مصالحهم الشخصية”.
ولا شك أن القوميين العلمانيين ومن يزعمون التدين من المنتسبين إلى تنظيم “أرجنكون” الذي تمت محاكمة أعضائه في وقت سابق ضمن قضية محاولة الانقلاب على حكومة “أردوغان” في تركيا، يتظاهرون الآن بأنهم يقفون بجانب السيد “أردوغان”، ويريدون تجفيف جميع منابع الحياة لحركة “الخدمة”، كما يأملون طرد المتدينين والمحافظين من جميع أجهزة الدولة لا أقصد بذلك الجهاز الإداري في الدولة فقط، بل جميع مجالات الحياة، بدءًا من الاقتصاد وحتى الإعلام والتعليم.
إن ما يحدث اليوم في تركيا عبارة عن إعادة ترميم الدولة نفسها من خلال القيام ببعض الممارسات القمعية، فالدولة العميقة تستهدف حركة “الخدمة” لتضليل الرأي العام غير أنها تسعى من خلال ذلك إلى القضاء على سائر الحركات، فأما غايتهم الأساسية فهي نزع جميع المكتسبات التي حصل عليها المتدينون سواء في المجال الاجتماعي أو الإداري نتيجة كفاحهم الذي استمر قرنًا من الزمان، وإجبارُهم على الانزواء والعزلة من الساحة السياسية والاجتماعية من جديد، والعودةُ بالدولة إلى نموذج الدولة الخالية من الدين والمتدينين، ونتذكر في هذا الصدد الوثيقة التي ظهرت في وسائل الإعلام التركية والتي تم الكشف عنها ضمن قضية تنظيم “أرجنكون” والتي تنص على “تخطيط القضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة “الخدمة”، ومن البديهي أنهم إذا نجحوا في القضاء على هذين الكيانين فمن السهل جدًّا بالنسبة لهم القضاء على سائر الحركات والطرق الصوفية الأخرى التي تباشر أعمالها في مجال خدمة الإسلام في تركيا.
ثانيًا: إن حزب العدالة والتنمية قد قدَّم بعض التعهدات إلى القوى العالمية وذلك في عام (2002م) قبيل وصوله إلى السلطة -كما تحدثنا عن هذا الموضوع من قبل-، إلا أن الحزب عجز عن تنفيذ بعض هذه التعهدات بل خرق بعضًا منها ليخرج عن الإطار المرسوم له، فالأخطاء التي ارتكبها الحزب على الصعيدين الإقليمي والدولي خاصة بعد عام (2011م) قد كلفته فاتورة باهظة جدًّا يدفعها الشعب التركي بأكمله.
ثالثًا: الرشاوى التي حصل عليها رجال الحكومة من رجال الأعمال مقابل أن يسهلوا لهم سبيل الحصول على المناقصات العامة وذلك لغرض استخدام هذه الرشاوى في مصالحهم الخاصة، وما تمخَّض عن ذلك من نتائج في غاية الخطورة بأبعادها الداخلية والخارجية أحدَ العاملين اللذين وضعا السيد “أردوغان” في موقف حرج على الصعيدين الداخلي والخارجي، وأما العامل الآخر فهو الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة والتعديلات المخالفة للقانون التي أُدخلت على جهاز القضاء من قبل الحكومة للحيلولة دون إخضاع المسؤولين الحكوميين لمساءلة قضائية عند تورطهم في أعمال الفساد والرشوة وغيرها من الجرائم القضائية، فهذان العاملان يمكن أن نعتبرهما من أهم الأسباب التي أدت إلى إجبار “أردوغان” على التقرب من “الفصيل المعين” الذي تكلمنا عنه آنفًا للحصول على الدعم منه من أجل الخروج من هذه الأزمة.
رابعًا: أرى أنه مِن اللافت للنظر احتشاد آلاف من أنصار حركة “الخدمة” أمام المحكمة لأول مرة في تاريخها عام (2013م) تنديدًا بحملة الاعتقالات التي نفذتها الحكومة في صفوف رجال الأمن الذين شاركوا في كشف فضيحة الفساد والرشوة، ولذا يجب على المسؤولين الكبار من السلطة الحاكمة في تركيا وعلى رأسهم السيد “أردوغان” أن يأخذوا هذا الأمر على محمل الجد، ويعلموا جيدًا أن محبي حركة “الخدمة” الذين احتشدوا في ساحة المحكمة وفي أيديهم المصاحف وكتيبات الأدعية لا يُشَبَّهون أبدًا بالمجموعات اليسارية التي تقوم بتدمير وإلحاق الأضرار الجسيمة في المحلات ومنازل المواطنين أثناء مظاهراتهم غير السلمية.
أرى أن تركيا مع الأسف الشديد تمضي قدمًا نحو الفوضى العارمة، فأناشد جميع المسؤولين من الحزب الحاكم ونوابه البرلمانيين والكتّاب والصحفيين الموالين للحكومة وأصحاب الرأي والفكر نصرة “أردوغان” وحزب العدالة والتنمية وحركة “الخدمة” انطلاقًا من قول النبي : “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا” فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: “تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ” .
وعودة إلى تحليلي للأحداث الراهنة في تركيا فإننا نلاحظ اليوم أن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” لا يتورّع منذ الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة الكبرى في تركيا يومي 17 و25 ديسمبر / كانون الأول عام (2013م) عن توجيه اتهامين أساسيين لحركة “الخدمة”؛ أولهما: الاشتراك في مؤامرة لإسقاط الحكومة التركية لصالح قوى “خارجية”، ويقصد بها الولايات المتحدة وإسرائيل، وثانيهما: التنصت على أسرار كبار مسؤولي الدولة والشعب.
لقد كتبتُ فى وقت سابق في عمودي الخاص في صحيفة “زمان” التركية ما يلي: “لو برهن مَن يروّج لهذه الاتهامات على صدق مزاعمه فلن أبقى في هذه الجريدة المقربة من حركة “الخدمة” ساعة واحدة، وبالرغم من مرور أكثر من عام على نشر هذه الادعاءات لم أقتنع أبدًا بأن حركة “الخدمة” تدبّر مخططًا لإسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية لصالح قوى خارجية، أو أنها تتنصت على أسرار الناس كما يزعمون، إنني أؤكد على عدم قناعتي بهذه الادعاءات؛ لأن الحكومة لم تكشف عن أية وثيقة أو برهان حتى هذا اليوم يقنعنا بصحة هذه الادعاءات.
وبكل تأكيد لستُ أنا فقط مَن يؤكد عدم اقتناعه بهذه الادعاءات؛ إذ ليس هناك أصلًا من اقتنع بهذه الادعاءات لا في داخل تركيا ولا في خارجها! فعلى سبيل المثال، تقول مقرّرة تركيا في البرلمان الأوروبي “ريناتا سومر(RenataSommer) ” إنها تعتبر “ادعاء الانقلاب” الذي تسوقه الحكومة التركية “هراء”، وترى أنه ليست هناك أية وثيقة تثبت صحة هذا الزعم!
يضاف إلى ذلك أن القيادات الشرطية المعتقلة على ذمة القضية لم يوجَّه إليها إلى الآن أي سؤال بشأن عملية التجسس على عكس ما يزعمه الإعلام الموالي للحكومة، أما ما يتعلق بعملية التنصت فالمتهمون يشدّدون على حجتين بشأن “عمليات التنصت غير القانونية” هما: أن جميع عمليات التنصت جرت بشكل قانوني، وأن القيادات الأمنية وبعض المناصب العليا في الدولة كانت على علم بهذه العمليات! هذا ولا تؤمن الأغلبية الساحقة من أنصار حزب العدالة والتنمية بصحة هذه الادعاءات التي تزعم بأن بعض أفراد الشرطة في جهاز الأمن قام بمحاولة الانقلاب على النظام الحاكم في تركيا من خلال عملية ضد من تورطوا بعملية فضيحة الفساد والرشوة في الحكومة إلا أنهم لا يستطيعون أن يعبروا عن هذه الحقيقة ذلك أن الظروف الحالية في البلاد لا تسمح بذلك، ولا شك أننا سنرى هؤلاء الناس وهم يصرحون بهذه الحقائق فور سقوط هذا النظام الذي يندفع كالشاحنة المعطلة فراملها والتي ستصطدم بما يقابلها لا محالة عاجلًا أم آجلًا.
ولا أحد يدعي في تركيا أن أجهزة الدولة التركية تخلو من محبي حركة “الخدمة” التي تباشر أعمالها منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمان لتربية أبناء البلاد بل في الحقيقة أن هناك آلافًا من محبي الحركة قد شغلوا مناصب سواء في أجهزة الدولة أو القطاع الخاص، وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام (2002م) استفاد من هؤلاء لسد احتياجاته من الموظفين ولدرء محاولات الانقلاب المتوقعة ضد حكومته، وبالفعل استطاع هؤلاء الكشف عن عدة محاولات للانقلاب ضد حكومة العدالة والتنمية في فترات معينة من تاريخ إدارة الحزب للبلاد، ورفضُ البعض لمجرّد حدوث محاولات للانقلاب في فترة حكم حزب العدالة والتنمية يعني التغاضي عن جميع الانقلابات الدامية التي حدثت في تركيا عبر تاريخ الجمهورية وإنكارَ الاغتيالات السياسية التي أودت بحياة مئات الناس وعدمَ قبول أن هناك خلايا انقلابية في الجيش التركي أعربت عن بالغ سعادتها عند وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في البلاد، لا شك أن هذا الادعاء عارٍ عن الصحة فضلًا عن أنه يثير الضحك، فالحقيقة أن هذه البلاد قد شهدت عدة انقلابات ترتب عليها حل البرلمان التركي والعمل بالدستور، كما عانى كثير من المواطنين الأتراك جراء الاعتقالات السياسية التي نفذها هؤلاء، ولا شك أن تركيا كانت على وشك أن تشهد انقلابًا آخر وهذه المرة على حكومة “أردوغان” غير أن هذه الكوادر صدت هذه المحاولة، فلم يدبّر أحد منها “مؤامرة ضد الجيش الوطني” من خلال قضيتي “أرجنكون” و”مطرقة” الانقلابيتين، كما ادعى ذلك السيد “يَلْجِين أكدوغان”؛ كبير مستشاري “رجب طيب أردوغان” سابقًا ونائب رئيس الوزراء حاليًّا، بل إن الحكومة اتخذت في تلك الفترة تدابير ضد الخلايا التي سعت للتخطيط للانقلاب من أجل تأسيس وصاية على السياسة المدنية، ولو كانت هذه التدابير والعمليات المنفذة ضد الأوساط المعادية للديمقراطية قد اكتملت، لَأصبحت تركيا اليوم دولة القانون، ولارتاح جميع أطياف المجتمع التركي وفي مقدمتهم الأكراد والعلويون.
إنني أرى أن هناك عاملين أساسيين عرقلا وتيرة التقدم والازدهار النسبي التي كانت تشهدها البلاد؛ أولهما: محاولة الحكومة التركية إسقاط النظام السوري من خلال أيديولوجية “العثمانيين الجدد” التي ظهرت في السياسات الخارجية لحكومة “أردوغان” بدءًا من عام (2011م) في سبيل فرض سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط، وهذه المحاولة التي أعتبر أنها مجرد مغامرة قد كلفت الشعب التركي ثمنًا باهظًا، أما ثانيهما: فهو تورط مسؤولينَ كبارٍ في الحزب الحاكم في عمليات الفساد والرشوة التي كشفتها فضيحة “17-25 ديسمبر” تلك الفضيحة التي كشفت للجميع عمليات “جمع المال” من رجال الأعمال التي يقوم بها بعض أعضاء الحكومة على نطاق واسع في المناقصات ليستخدموها في مصالحهم الشخصية كشرائهم بعض وسائل الإعلام من صحف وقنوات تليفزيونية… إلخ وهي تتنافى مع القوانين والمبادئ الإسلامية والأخلاقية رغم أن المسؤولين الحكوميين يرون عكس ذلك.
وباختصار فإن تعليقي الخاص على الأحداث الأخيرة في تركيا أن القضاة والمدعين العموميين الذين حصلوا على معلومات ووثائق تثبت تورط بعض المسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال المقربين في فضيحة الفساد والرشوة قاموا بإصدار أوامرهم لأفراد الشرطة في مباحث الأموال لاعتقال المشتبه بهم في هذه الجرائم وعلى ذلك تحرك أفراد الشرطة الذين يعملون في مباحث الأموال بحملة الاعتقالات التي تشمل أبناء الوزراء وبعض رجال الأعمال وعلى رأسهم رجل الأعمال الإيراني “رضا ضراب” وفي مقابل ذلك اعتبرت حكومة حزب العدالة والتنمية هذه العمليات بأنها محاولة انقلاب تستهدف إسقاط النظام بطرق غير شرعية على حد تعبيرهم كما روجت وسائل الإعلام التابعة للحزب الادعاء بأن الدولة الموازية وتقصد بذلك المحبين لحركة “الخدمة” في أجهزة الدولة بأنهم من قاموا بهذه العمليات للقضاء على الحكومة على حد زعمها ولم تكتف الحكومة بذلك بل قامت بإبعاد هؤلاء القضاة والمدعين العموميين وأفراد الشرطة عن مناصبهم وسجن معظمهم بتهمة التجسس والتنصت لصالح الجهات الأجنبية ومحاولة للانقلاب على الحكومة، ومن جهة أخرى، رأى حزب العدالة والتنمية -الذي لم يلق ترحيبًا من الأطراف السياسية بشأن ادعائه أن هناك محاولة الانقلاب عليه- نجاته في التعاون مع أعضاء تنظيم “أرجنكون” الانقلابي والاتفاق مع “عبد الله أوجلان” زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل حاليًّا في جزيرة “إمرالي (İmralı)” واتحاد المجتمعات الكردستانية أما هذه الأطراف -أرجنكون وأوجلان واتحاد المجتمعات الكردية- فتدعم الحكومة شريطة أن يقضي “أردوغان” على حركة “الخدمة”، وبهذه الطريقة، نكون قد شهدنا تأسيس تحالف بين حزب العدالة والتنمية من جهة وبين أعضاء تنظيم “أرجنكون” واتحاد المجتمعات الكردستانية من جهة أخرى، حيث يسعى هذان الأخيران إلى الانتقام من حركة “الخدمة”، أي يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية وقع رهينة بين أيديهم، وإذا استطاعوا توجيه ضربة إلى حركة “الخدمة” فسيحين الدور على حزب العدالة والتنمية وسائر الحركات الدينية الأخرى في تركيا، ومَن لا يصدِّق هذا الكلام عليه أن يتابع وسائل الإعلام التابعة لتلك التنظيمات أقصد بها تنظيم “أرجنكون” واتحاد المجتمعات الكردستانية المقروءة والمسموعة والمرئية ليرى حقيقة ما أقول.

ما الذي غيّر مسار الأحداث في تركيا؟
2 يناير/كانون الثاني (2014م)
من أجل استيعاب الأحداث الجارية في الفترة الأخيرة في تركيا بشكل صحيح لا بد أن نتذكر فترة تأسيس حزب العدالة والتنمية.
عندما تأسس حزب العدالة والتنمية كانت أحزاب وسط اليمين ووسط اليسار في تركيا قد انهارت بالكامل، ومن ناحية أخرى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخطط لغزو العراق وأفغانستان من أجل بسط سيطرتها في منطقة الشرق الأوسط.
إن قادة حزب العدالة والتنمية قد بنوا رؤيتهم السياسية على مفهوم “التوافق” الذي يتمثل في المصالحة مع القوى العالمية الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والمؤسسة العسكرية والقوى المدنية في الداخل وأصحاب الرأسمال الكبار ويبررون سياستهم هذه بأن تجربة انقلاب 28 فبراير (1997م) المريرة أثبتت استحالة الصعود إلى سدة الحكم بـ”عقلية أربكان” التي تتبنى سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة والاستقلال عن النظام الاقتصادي العالمي، والطريق الوحيدة لاستمرارية الحكم هو التوافق والمصالحة مع العناصر المذكورة أعلاه، واللافت للنظر في هذا الأمر أنه عندما قرر قادة حزب العدالة والتنمية اتباع سياسة توافقية لم يلبث الإعلاميون المؤيدون للزعيم الإسلامي الراحل “أربكان” أثناء انقلاب 28 فبراير والذي عُرف إعلاميًّا بانقلاب ما بعد الحداثة أن أعلنوا تخليهم عنه، والوقوف إلى جانب حزب العدالة والتنمية الذي انفصل عن “حزب الرفاه” الذي يتزعمه “أربكان”.
ومنذ اليوم الأول الذي أعلن فيه حزب العدالة والتنمية تبنيه مبدأ التوافق وأنا أحاول سواء في عمودي في جريدة “زمان” التركية أو في مناسبات عدة توضيح أن هذه الرؤية تحمل في صميمها كوارث فادحة لتركيا، حيث إن القوى التي يصبو الحزب إلى التوافق معها هي التي تُعتبر السبب الأساسي في المشاكل التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بما فيها تركيا، ولذا سوف تسعى هذه القوى بعد فترة للتخلص من الحزب وذلك عندما تشعر بانتهاء مصالحها الشخصية معه، لكن لم يُصغِ إليّ أحد في ذلك الوقت بل اتهموني بـ”التخلف العقلي” كـ”أربكان”، وهكذا انطلق كثير من رفقاء دربي في الاتجاه الذي سلكه الحزب الحاكم.
وفي الحقيقة أن هذه الرؤية مغرية جدًّا وتبشر بالوصول إلى سدة الحكم، وفي النهاية أسس الحزب ليحتل مكانه من بين الأحزاب السياسية معلنين عن تبنيهم لخطة “كمال درويش” في المسار الاقتصادي وخارطة طريق الاتحاد الأوروبي في الإصلاح والتعديل، الأمر الذي أدى بالدول الأوروبية إلى الاصطفاف على شكل طوابير ليلتقوا بالسيد “أردوغان” الذي لم ينتخب بعد كنائب في البرلمان التركي، وفي السياق نفسه التقى الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن بـ”أردوغان” في مقابلة استغرقت ساعتين في البيت الأبيض، وهكذا أزِفَت ساعة تنفيذ الخطة التي عبر عنها الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون (BillClinton)” في أمريكا في وقت سابق: “تركيا ستكون لها دور فعّال في القرن الواحد والعشرين”.
وفي الحقيقة أن كلًّا من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب يرغبان في ذلك الوقت التوجه نحو الشرق الأقصى حيث يُتوقع أن تقع فيه لاحقًا صراعات كبرى قد تصل إلى حروب على نطاق واسع، وأما الشرق الأوسط فما زال يشكل بالنسبة لهما فراغًا لم يستطيعا بسط سيطرتهما بالكامل عليه، وهذا لا يعني أن هاتين القوتين الكبيرتين تنويان التخلي عن المنطقة، فكان أمام هاتين القوتين نموذجان في هذه الفترة:
وكان النموذج الأول يتمثل في المحافظين الجدد الذين يتبنون استخدام القوة من أجل ترسيخ النظام في المنطقة، وأما النموذج الثاني يتمثل في الديمقراطيين الذين يهدفون إلى تغيير مسار المنطقة عن طريق القوة الناعمة مثل الحركات النسائية، ومؤسسات المجتمع المدني، والديمقراطية، والفلسفة الليبرالية، والتعليم، ومسلسلات التلفزة … إلخ.
وكانت تركيا التي يحكمها العدالة والتنمية تحمل في بنيتها كلا النموذجين في حين أن الأنظمة الأخرى كانت بمثابة الدواء الذي انتهت مدة صلاحيته.
وكانت القوى العالمية -بما في ذلك اللوبيهات اليهودية الخالية من ذات التوجهات الليكودية – لديها ثلاثة مبادئ رئيسية تسعى لتحقيقها في الشرق الأوسط في تلك الفترة:
أولها: أن تكون إسرائيل دولة إقليمية مرسومة الحدود مستقرة الأوضاع.
ثانيها: يتم تأمين مصادر الطاقة والخطوط الناقلة للطاقة.
وأما ثالثها: تُمنَع المجموعات الإسلامية الراديكالية من استلام الحكم.
ولما كانت إعادة تنظيم المنطقة لا تتم إلا عن طريق إيران وتركيا ومصر في تلك الفترة فقد كلفت القوى العالمية تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية بمهمة إعادة تنظيم المنطقة شريطة ألا تدخل في صراع مع إيران، لأن مثل هذا الصراع سيزيد قوة إيران التي اتبعت سياسة العداء ضد الولايات المتحدة وإسرائيل منذ تولي “الخميني” سدة الحكم في البلاد، وبمرور الوقت سوف تتقارب تركيا وإيران، وتسوي مشاكلها مع سورية وتقربها من الغرب ثم تنظيم المنطقة بالتعاون مع مصر.
ولأن دور البطل في هذا السيناريو كان قد أعطي لتركيا، تم الشروع في إعادة ترميم شامل، وفي هذا الإطار؛ تم تحويل وجهة الرأسمال العالمي ناحية تركيا حيث بدأت الاستثمارات تجري نحو تركيا كالسيل، كما تم تعزيز تركيا بدعم خارق في العلاقات الدولية على الصعيد السياسي، وكذلك تم الضغط على “الاتحاد الأوروبي” من أجل تفعيل وتسريع وتيرة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، وفي السياق نفسه تم دعم تركيا في الداخل للقضاء على العصابات العسكرية التي كانت تقوم بانقلابات عسكرية بصورة منتظمة في تركيا، وبالتالي تم “إيقاف” نظام الوصاية العسكرية، علمًا بأن هذا الدعم لم يكن يستهدف القضاء على الوصاية العسكرية في تركيا بشكل تام، بالإضافة إلى ذلك سعت تركيا لإقامة علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع دول الجوار وبالأخص المملكة العربية السعودية ودول الخليج، إلى جانب ذلك تم تأسيس شبه مجالس وزراء مشتركة وفقًا لسياسة “تصفير المشاكل مع دول الجوار”، كما تمت إقامة جسور التواصل المشتركة مع الدول الأفريقية سياسيًّا واقتصاديًّا.
ولكن عندما وصلنا إلى عام (2011م) انقلب كل شيء رأسًا على عقب، إذ إن السياسة الخارجية التركية فشلت في قراءة التحولات التي وقعت في العالم العربي مؤخّرًا، كما أن النجاحات التي أنجزتها تركيا بدعم خارجي أثارت لدى كبار رجال السياسة بالحزب الحاكم الشعور بالاستقلالية والثقة الزائفة بالنفس، وعندما أعلنت تركيا عن مشروع “العثمانيين الجدد” وأعربت عن نيتها في بسط هيمنتها على الشرق الأوسط العربي كما كان في الماضي، والدخول في التنافس مع إيران؛ تحركت القوى العالمية للحيلولة دون ذلك؛ لأن هذا المشروع الذي أعلنه الحزب الحاكم مخالف للشروط المتفق عليها مسبقًا مع الحكومة التركية.

وَهْمُ “الدولة الموازية”
5 يناير/كانون الثاني (2014م)
اجتمع رئيس الجمهورية السيد “أردوغان” عندما كان رئيسًا للوزراء مع عدد من الصحفين وكتّاب الأعمدة بتاريخ 4 يناير (2014م) في مكتبه بحي “بشكتاش (Beşiktaş)” في مدينة إسطنبول، وخلال اللقاء الذي استغرق أربع ساعات تطرق “أردوغان” إلى بعض الأحداث الجارية على الساحة المحلية والإقليمية والدولية، كما قام بالرد على الأسئلة التي وجهت إليه من قبل الصحفيين وكتاب الأعمدة، وقد كنت أحد المدعوين في الاجتماع، لذا أود أن أشارككم بعض انطباعاتي حول الاجتماع.
في البداية أود أن أقول إنني لم أخرج من الاجتماع وأنا منشرح الصدر مطمئن البال، بل خرجت يتملكني شيء من الضيق والانقباض.
إن من أهم ما انتبهت إليه خلال الاجتماع أن السيد رئيس الوزراء السابق “أردوغان” لديه اقتناع كامل بأن هناك “دولة موازية تسربت في كيان الدولة”، وهو ينظر إلى تصريحات الهيئة العليا للقضاة، ومدعين العموميين فيما يتعلق بفضيحة الفساد التي تعرف إعلاميَّا بـ”عمليات 17-25 ديسمبر” على أنها عمليات ممنهجة تجري وفق نظام تسلسلي داخل المنظمة التي يصفها بـ”الكيان الموازي”، كما يرى أن أحداث منتزه “جيزي”، و”فضيحة فساد 25-17 ديسمبر” تهدف كل منهما إلى الإطاحة بالحزب الحاكم، ويؤمن السيد “أردوغان” كذلك إيمانًا قاطعًا بالسيناريو التالي: إن تركيا تخطو خطوات جادة في طريق التحول إلى قوة إقليمية كبيرة، كما أنها تسعى لتحتل مكانة بين الدول العظمى، والتخلص من الوصاية الدولية في مجالي السياسة والاقتصاد، وإن أعداء الدولة التركية الذين لا يريدون نهوضها ولا تقدمها قد أقدموا على عملية انقلابية للإطاحة بالحكومة، و”تنظيمٍ موازٍ داخل كيان الدولة” هو امتداد لهم داخل تركيا على حد قوله.
لقد بلغ يقين “أردوغان” بوجود مؤامرة تحاك ضده مبلغه لدرجة أنه وصف الأحداث التي وقعت عقب قرار إغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي على أنها سلسلة ممنهجة تهدف إلى القضاء على الحزب الحاكم، وبالنسبة له أن كلًّا من “فضيحة الفساد والرشوة” والشاحنة المحملة بالأسلحة والتي كانت متوجهة إلى الأراضي السورية وقيام مدعون العموميون بتفتيشها ما هي إلا مؤامرة حثيثة تهدف القضاء على الدولة التركية وشعبها، ولذا يجب تصفية تلك “المنظمة” على حد تعبيره، كما أعرب الرئيس أن الحكومة عازمة على اتخاذ خطوات جادة للقضاء على ما سماه بـ”الدولة الموازية” وذلك عن طريق تصفيات موسعة في صفوف الأمن والجهاز القضائي، وأكد سيادته كذلك أن التحضيرات التي يقومون بها واسعة النطاق، وستفضح جميع المتورطين في هذه المؤامرة بما في ذلك المتواطئون في وضع أجهزة تنصّت في مكتبه.
ويعتقد الرئيس أن سلسلة الأحداث التي يصفها بالمؤامرة الكبيرة ضد الحزب الحاكم قد بدأت عقب إصدار الحكومة قرارًا يقضي بإغلاق المعاهد التحضيرية، ويفيد بأنهم كانوا يتوقعون رد فعل يتمثل في عملية تستهدف الحكومة، ولكنه يؤكد أنهم لم يكونوا يتوقعون أن تصل هذه العمليات المضادة إلى هذا الحد من العمق والاتساع، وفي هذا الصدد يشدد سيادته على استحالة التراجع عن قرار إغلاق المعاهد التحضيرية، كما يُحمِّل “الكيان الموازي” الوقوف وراء عمليات التنصت على كبار رجال الدولة بغرض الابتزاز.
من الواضح أن “أردوغان” قلق ومرتبك للغاية حيال “فضيحة الفساد والرشوة”، وفي حين أنه -بطبيعة الحال- لا يتبنى أعمال الفساد، إلا أنه يزعم أن عمليات التحقيق التي قام بها المدعون العموميون، استهدفت أناسًا أبرياء فدوهمت منازلهم وشركاتهم، ويؤكد أنه لن يسمح بذلك أبدًا، بل يشدد أنه سيوقف تلك العصابة عند حدها.
ومن الأمور التي لفتت انتباهي خلال الاجتماع أن “أردوغان” يرفض رفضًا قاطعًا تسمية حركة “الخدمة” التي يحملها مسؤولية الوقوف وراء “فضيحة الفساد والرشوة” بـ”الجماعة” حيث قال إن هذه المنظمة لا يمكن تصنيفها من ضمن الحركات الإسلامية التي تباشر أعمالها في تركيا، وفي الحقيقة إنهم يسمون أنفسهم بالحركة وليس بالجماعة.
وفيما يتعلق بتصفية أفراد الشرطة ورجال الجهاز القضائي بتهمة ارتباطهم بـ”الحركة” وجهت إلى “أردوغان” سؤالين:
الأول: من الواضح أنكم تقصدون بـ”الدولة الموازية” حركة “الخدمة”. أجل، من حقكم أن تقيلوا موظفين داخل الدولة إذا ثبت أنهم متآمرون عليكم وينسجون مؤامرات ضدكم شريطة أن تتم هذه العملية في إطار القانون، ونحن سندعمكم في ذلك، لكن من الذي يضمن لنا أنكم ستحفظون حقوق مئات الآلاف من الأبرياء من رجال الأعمال والمعلمين والموظفين والمواطنين العاديين المحبين لـ”الخدمة” ولا تظلمونهم بملاحقاتكم لهم بدعوى أنهم من “الحركة”؟ ألن يحترق عندئذ الأخضر واليابس؟ ألن يكون صنيعكم هذا مماثلًا لما فعله انقلابيو 28 شباط (1997م)؟
الثاني: إن أبناء “حركة الخدمة” ومؤيدي حزب العدالة والتنمية ومحبيهم هم من أرضية مجتمعية واحدة، غير أن الاضطراب والقلق الشديد قد حلّا بتركيا، حيث تفتَّتت عائلات وتفرقت فيما بينها جراء التصعيد الذي تمارسونه، أليس هذا التصعيد من شأنه أن يؤدي إلى تمزق المجتمع بالكامل؟ ألا تفكرون في أن تخففوا من حدة التصعيد هذه؟ ألا تفكرون في أن تقوموا بخطوة إيجابية في هذا الصدد؟
وفي رده على هذين السؤالين قال “أردوغان” إنهم سوف يفرقون بين المتورطين في المؤامرة ضد الحزب الحاكم وبين الأبرياء، ولن يتعرض أحد لأي ظلم، إلا أنه لم يعط أي مؤشر إيجابي على تخفيف حدة التوتر.
إنني أرى أنه مما يزيد الطين بلة في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها تركيا موقف بعض الصحفيين وكتاب الأعمدة الذين يحرضون رجال الدولة وعلى رأسهم “أردوغان” على مواصلة الحرب ضد حركة “الخدمة” بصفتها “منظمة متورطة في تشكيل كيان مواز داخل الدولة” وتحميلهم الحركة كل المسؤولية عن الأحداث السلبية في الآونة الأخيرة تقريبًا بما في ذلك مقتل 34 مواطنًا بريئًا في “أولوديري” جراء استهداف الطيران الحربي التركي له عن طريق الخطإ والتي تستبعد معظم الأوساط التركية تورط الحركة في مثل هذه الأعمال، فضلًا عن رفض الحركة رفضًا قاطعًا تورطها في مثل هذه الأحداث.
إنني أعتقد أننا في أمسِّ الحاجة إلى التأني والتروي والهدوء والمرونة في هذه المرحلة، لكن للأسف لا تهب الرياح في ذلك الاتجاه… رغم ذلك، علينا أن نواصل الترنم بنشيد الأخوة، وإلا فالحزن الأليم سيكون نصيب بلادنا.

مؤامرة في تركيا.. ولكن ضد من؟
9 يناير/كانون الثاني (2014م)
لقد كتبتُ في إحدى مقالاتي السابقة التي ألفتها عقب الاجتماع الذي عقده السيد رئيس الجمهورية “رجب طيب أردوغان” عندما كان رئيسًا للوزراء مع مجموعة من الصحفيين يوم 4 يناير عام (2014م) هذه العبارات: “إنني لم أخرج من الاجتماع منشرح الصدر مطمئن البال”، وكثير من قرائي الكرام اعتقدوا من هذه العبارة أنني أقصد عملية شاملة سوف تقوم بها الحكومة ضد حركة “الخدمة”، أو أقصد المناوشات الدائرة بين “الخدمة” والحكومة، بالتأكيد كان هذا جزءًا من سبب القلق الذي انتابني، لكنني كنت أحاول في الحقيقة أنْ أومئ إلى أنني لمحت إشارات تنبئ عن أيام باعثة على مزيد من القلق ومزيد من الكآبة، وآخر المستجدات التي نراها اليوم أثبتت أن مخاوفي لم تكن عبثًا.
إن كان هناك من ينظر إلى الأزمة التي نعيشها في تركيا على أنها “صراع بين حركة “الخدمة” و”الحكومة التركية”، فنؤكد أنهم ينظرون إلى زاوية واحدة من الصورة الكبيرة، ولكن إذا نظرنا إلى الصورة الكبيرة فسوف نجد أننا إزاء موقف في غاية الخطورة يتجاوز المشكلة التي نشبت بين الحكومة وحركة “الخدمة”.
إننى أرى أن الضباب ينقشع شيئًا فشيئًا عن الأحداث التي تجري في البلاد، والكلمة المحورية في هذه المرحلة هي “المؤامرة” التي تحدث عنها “يَلْجِين أكدوغان” كبير مستشاري “أردوغان” السابق والذي ألمح -بعبارته التي تفيد بأن هناك “مؤامرة حثيثة ضد الجيش الوطني”- إلى وجود بركان تحت الجزء الطافي على السطح، حيث لم تمض مدة طويلة حتى رأينا جميعًا أولى تداعيات هذه الكلمات إذ قضت المحكمة -التي تنظر في قضيتي “أرجنكون” و”مطرقة” اللتين تمت محاكمة عدد من قادة الجيش التركي خلالهما بتهمة محاولة الانقلاب على الحكومة- بإعادة محاكمة هؤلاء المتهمين ثم ما لبثت أن قضت بالإفراج عن جميع المعتقلين المحكوم عليهم بالسجن مسبقًا.
لا شك أن دولة تركيا تعيش تحت “الوصاية” منذ أن استولى حزب الاتحاد والترقي على الدولة عقب انقلاب عسكري قام به ضد السلطان عبد الحميد الثاني عام (1908م)، هذه الوصاية لها بُعدها الخارجي، كما أن لها بعدها الداخلي، وفي بداية القرن الحادي والعشرين استطاع حزب العدالة والتنمية أن يتربع على كرسي الحكم بمساندة الأوضاع الدولية، واتفاق كل الحركات الإسلامية تقريبًا وتحالفها فيما بينها، وعليه فقد قطعت تركيا مسافات كبيرة في شتى المجالات منها الاقتصادي والتجاري كما حققت أداءً عاليًا في سياستها الخارجية التي تتبنى مبدأ تأسيس علاقات تعاون جيدة مع جميع الدول وعلى رأسها الدول المجاورة، ولكن عندما وصلنا إلى عام (2011م)، انقلب المسار ناحية الاتجاه المعاكس تمامًا؛ وقد سبق أن تناولت العوامل الخارجية لهذا المسار المعاكس في بعض مقالاتي التي نشرت في جريدة “زمان”، ومن المؤكد أنه لا يمكن أن نفسر ما يحدث اليوم بأنه نتيجة لعوامل خارجية فقط، لأن العامل الداخلي كذلك له ما له من الأهمية والقدرة على تحديد المسار.
لا شك أن الكلمة التي استخدمها السيد “أكدوغان” -وهو الذي شغل منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء والذي يحسن التصرف بذكاء وتروٍّ، ويزن كلَّ كلمة بميزان دقيق قبل أن يقولها، ويكتب ويتحدث آخذًا بعين الاعتبار كافة الأحداث الجارية في المناطق القريبة أو البعيدة من تركيا- في عبارته التي ذكرناها آنفًا وهي “المؤامرة” كان فيها إشارة صريحة إلى أن الدولة ستعود إلى إجراءاتها التعسفية التي لجأت إليها في الماضي القريب والبعيد وذلك عندما شعرتْ أن هناك خطرًا يهدد كيانها، فقد بدأت تتحرك نحو ذلك بالفعل، وأعتقد أن الساسة البارزين في حزب العدالة والتنمية لم يستوعبوا هذه الحقيقة بعد، بل إنهم منشغلون الآن بمتابعة ملف “صراع الحكومة مع “الخدمة” الذي دُبّر بليل ووضع أمامهم ليقضوا جلّ وقتهم منكبين عليه.
ويتضح لنا أكثر المقصود من كلمة “المؤامرة” عندما نقرأ العبارة التي قالها “حمدي كليج (HamdiKılıç)” الذي كان مستشار رئيس الوزراء والتي يتم تداولها عبر المواقع الإلكترونية حيث يقول “كليج”:
“لقد لجأت الدولة إلى بعض الممارسات القمعية في بعض الفترات على مدار تاريخها للحفاظ على ذاتيتها، اذكروا عني هذا…”
(جريدة “سوزجو (Sözcü)”، 2 يناير (2013م).
أضف إلى ذلك ما كتبه واحد من مراسلي إحدى وكالات الأنباء حيث يقول:
“أحيانًا.. تجلب الاغتيالات السياسية التي تقع في بلد ما السكينة والطمأنينة لهذا البلد؛ فهذه الاغتيالات تكمم الأفواه وتحد من الثرثرة”
(موقع قناة “أودا (OdaTV)”، 2 يناير (2013م).
لِنُنَحِّ هذا الموضوع جانبًا وننتقل إلى الحديث حول “مفهوم الدولة والعقلية التي تَرقى بشأن الدولة عبر العصور”، فالدولة هي السلطة الحاكمة والقوة المهيمنة التي لا تعبأ بأحد غيرها، إذ إنها عندما توظف أيديولوجية أو فئة معينة من المجتمع لإدارتها وذلك وفق معاييرها الزمنية والمتطلبات العصرية تظن -تلك الفئة أو الأيديولوجية- بمرور الزمن أنها المتحكمة في هذا الكيان، ولكن سرعان ما تدرك أنها ما هي إلا أداة في يد تلك الدولة تعمل لحمايتها.
إن هذه الدولة لم تتبنَّ منذ زمن بعيد مبدأ المصالحة الوطنية، فقد أتى عليها حين من الدهر وهي تحارب الشيوعيين، وفي حين آخر رأيناها تحارب العامل الكادح، وفي زمن آخر تتخذ الأكراد عدوًّا يهددها، وكذلك لاحظنا في فترات مختلفة من التاريخ أن الدولة اعتبرت القومي التركي، أو اليساري، أو اليميني، أو السيدة المحجّبة عدوًّا لها، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تستطيع أن تؤدب الدولة سوى “القانون”، لكن الذين يرغبون في الحفاظ عليها اليوم نراهم يحجمون عن تأمين أنفسهم بسياج “القانون”.
إن الدولة لها آلياتها، ومناهجها وتكتيكاتها، فهي تفعّل كل هذه الأدوات بما يتناسب مع الظروف والأوضاع.
والقوميون الذين رفعوا شعار أيديولوجية “الدولة” وتمسكوا بفكرة “بقاء الدولة إلى الأبد”، قد تعرضوا في فترة معينة من تاريخ تركيا الحديثة لأشنع مظالم “الدولة” حيث وُضعوا في التوابيت واقتُلعت أظافرهم، كما أن الدولة قد استنفرت القوميين في مواجهة اليساريين، والسُّنَة ضد العلويين، والعلويين ضد السنة، والعلمانيين في مواجهة المتدينين، والمتدينين ضد العلمانيين، والآن حان دور المتدينين أن يدخلوا في صراع شرس فيما بينهم.
والواقع أن هناك مجموعة عميقة في الدولة التركية تسيطر على أوساط مفاصل الهيكل الإداري للدولة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وهذه المجموعة هي التي تحدد الفئة التي تتولى زمام الأمور في إدارة الدولة، من الممكن أن نرى يومًا ما أنها توظف الشيوعيين في إدارة الدولة، ومن يدري لعلهم سيرون في المستقبل ضرورة إقامة “الشريعة” في البلد، فهل كان يخطر ببال أحد أن فئة ناضلت من أجل الفكر الإسلامي ردحًا من الزمان، أن تدافع اليوم بهذه الاستماتة عن النظام الربوي؟
في الحقيقة إن الدولة تَعتبر نفسها جماعة بحد ذاتها ولا ترضى بجماعة تشاركها في الحكم، وهي تحافظ على وجود كيانها بفضل ردود الأفعال لأعدائها الوهميين، ومن هنا أقول للحزب الحاكم الذي يسعى اليوم بكل ما أوتي من قوة من أجل القضاء على حركة “الخدمة”، إنه سيأتي يوم ستدخلون أنتم في سلك من سيُقضَى عليهم لاحقًا باعتباركم “حركة إسلامية”.
وهنا أذكِّر قرائي الكرام بالخطاب الذي أرسله الأستاذ فتح الله كولن إلى السيد رئيس الجمهورية السابق عبد الله جول والذي أشار فيه “الأستاذ” إلى هذه النقطة الهامة حيث يقول:
“إذا تورط الحزب الحاكم في اعتبار حركة “الخدمة” كيانًا موازيًا تسلل في داخل الدولة وأعقب ذلك تصفية العاملين بالدولة المحبين للحركة؛ فإن ذلك سيفتح بابًا واسعًا لممارسة التصرف ذاته على كافة الحركات والفئات والجمعيات والأوقاف الأخرى التي نشأت وترعرعت وانتشرت في الأرضية الدينية والاجتماعية ذاتها، وبالتالي ستعرّضونهم لخطورة التصفية ذاتها في مستقبل قريب، والحركات الإسلامية في بلادنا تربطها نقاط مشتركة كالتدين وحمل هوية إسلامية، وإذا نظرنا من هذه الزاوية، فإن 80% من الموظفين الذين يعملون في الدوائر الحكومية في تركيا يكنّون محبة وتعاطفًا مع هذه الحركة أو غيرها من الحركات الإسلامية الأخرى”.
إذا لم تنتبه الحكومة إلى ما حذّر منه الأستاذ فتح الله كولن فإن المجموعة المتحكمة في الدولة والتي تحدثنا عنها آنفًا سوف تضع الحركات الإسلامية بأكملها في قائمة الاستهداف بالتعاون مع من أُفرِج عنهم في القضايا التي تعرف إعلاميًّا بـقضيتي “أرجنكون” و”المطرقة”.
إن المرحلة التي بدأت في تركيا في عام (2002م) تحت شعار “إنهاء الوصاية” تسير اليوم في اتجاه معاكس تمامًا، والمجموعة التي تتحكم في مفاصل الدولة، وتدّعي أن هناك “مؤامرة” قد رُتّبت ضدها، تنسج اليوم “مؤامرة” ضد الحركات الإسلامية كافة وبمهارة فذة”، والهدف الأول هو “الخدمة”، ثم يليها الحزب الحاكم ثم يعقب ذلك الحركات الإسلامية الأخرى، وهذه الحقيقة المريرة تؤرقني وتثير القلق والهواجس في قلبي، وفي النهاية أتمنى أن يأخذ المسؤولين الكبار من الحزب الحاكم وعلى رأسهم السيد رئيس الجمهورية هذه النقاط المشار إليها بعين الاعتبار.

لماذا الرعب من الإعلاميين في تركيا؟
15 ديسمبر/كانون الأول (2014م)
اعتقل السيد “هدايت كاراجا (HidayetKaraca)” مدير مجموعة “سامان يولو” الإعلامية، والسيد “أكرم دومانلي” رئيس تحرير جريدة “زمان” التركية آنذاك في وقت سابق ضمن مداهمات نفذتها قوات الأمن التركية، وأطلق سراح السيد “أكرم دومانلي” بعد إجراء التحقيقات معه إلا أن السيد “هدايت كاراجا” لم يخل سبيله حتى كتابة هذه السطور، والغريب في هذه الحادثة أن المدعي العام الذي قرر مواصلة اعتقال السيد “كاراجا” لم يستطع حتى الآن أن يقدم دليلًا واحدًا يدينه، وأتمنى أن يتم الإفراج عنه ليواصل حياته العملية مرة أخرى، ولا شك أنني أشعر ببالغ الأسف حيال هذه الأحداث ولكن وصول بلادنا إلى هذه الدرجة من القمع والظلم قد أحزنني أكثر.
ومن يلقى نظرة من الخارج إلى التطورات الجارية في تركيا في الآونة الأخيرة يرى بكل وضوح أن تركيا تسير يومًا بعد يوم نحو الديكتاتورية، فالسلطات في الأنظمة الملكية تخضع لهيمنة فرد واحد ألا وهو السلطان أو الملك، وينتقل الحكم بالوراثة من الأب إلى الابن، أما في “الأوتوقراطية” أو “الدكتاتورية” فالسلطة تخضع لهيمنة فرد واحد ألا وهو رئيس الدولة غير أن الحكم لا ينتقل بالوراثة، إن أنظمة الحكم التي تنوي الانتقال إلى النظام الديكتاتوري تدعي أولًا أن هناك محاولة انقلابية ضدها، وبينما هي تحارب هذه المحاولة الوهمية تزيل في نفس الوقت جميع العقبات التي قد تواجهها في تأسيس الديكتاتورية الجديدة.
وحينما ينتقل النظام إلى النظام الدكتاتوري أو القمعي لا يكتفي بسحق الأوساط المعارضة والمنافسة في البلاد فحسب، بل يُخضع المعارضة لرقابته وسيطرته بشكل تام، ويلغي حرية التعبير ويمنع الجميع من مساءلته في كل الأعمال التي يقوم بها، فلا شك أن الحكومة التركية تسلك طريقها في هذا المضمار وهذا ما نراه في الاعتقالات الأخيرة التي نُفِّذت ضد الإعلاميين المعارضين لإجراءات الحكومة، ولذلك فالذي يعتقد الآن من المعارضة أن هذه الإجراءات القمعية موجهة إلى فئة معينة فقط دون غيرها سيتعرض في مستقبل قريب لنفس الإجراءات التي تتعرض لها هذه الفئة لأن سياسة الأنظمة القمعية تتبنى سحق المعارضة وإخضاعهم بشكل كامل تحت رقابتها كما ذكرنا آنفًا.
تسود في تركيا اليوم حالة من الانقسام والاستقطاب بين طبقات المجتمع بصورة مخيفة جدًّا، ويزداد احتمال حدوث صراع فعلي بين هذه الطبقات يومًا بعد يوم، فالمجتمع التركي يتكون من طوائف متعددة قابلة للصراع، ولكن الفطرة السليمة التي تتميز بها هذه الطوائف والتنازلات المتبادلة بينها والبنية الديمقراطية للنظام حالت حتى اليوم دون تحقق احتمالات الصراع المتوقع حدوثه بينهم، ولكن التطوريْن الأخيريْن اللذين تمر بهما تركيا والمنطقة في الآونة الأخيرة قد يفسحان المجال لنشوب صراعات كبيرة قد تحدث في الفترة القادمة أحدهما: تطبيق سياسة مبنية على الصراع والتفرقة بدأ من أعلى رأس في الدولة إلى أدنى طبقة بالمجتمع، وأما ثانيهما: تحول الصراعات المذهبية والعرقية إلى حرب أهلية في سورية والعراق الدولتين المجاورتين لتركيا، وبطبيعة الحال فإن الشعب التركي ليس بمنأى عما يحدث في الدولتين المجاورتين له من نزاعات وحروب، ولذا ليس ببعيد أن يحدث في تركيا بشكل مفاجئ مثل ما يحدث في سورية والعراق.
وعلى صعيد آخر فإن مسيرة السلام المتعلقة بالقضية الكردية دخلت في أحرج مراحلها، ونحن لا ندري ما هي النقاط التي اتفق عليها الجانبان في اللقاءات والمباحثات التي تجري بين زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في تركيا “عبد الله أوجلان” والحكومة التركية، وفي هذا الصدد أرى أنه يجب منح الأكراد كافة حقوقهم الأساسية دون أي مساومات، ولكن إذا كانت هذه المباحثات التي تجري بين الطرفين تهدف إلى منح الأكراد الحكم الذاتي في شرق وجنوب شرق تركيا، فهذا الموضوع يتجاوز صلاحيات الحكومة وحزب العمال الكردستاني، ويجب أن يطرح الأمر على الرأي العام التركي، وخاصة أهالي هذه المناطق من الأكراد المتدينين والعلمانيين والليبراليين والقوميين غير المؤيدين لحزب العمال الكردستاني، وإذا تم منح الحكم الذاتي لتلك المناطق وهي شرق وجنوب شرق الأناضول عندئذ يكون من الصعب السيطرة على باقي المناطق الأخرى في البلاد، ومع ذلك يمكن تحقيق الحكم الذاتي في المناطق المذكورة أعلاه في حالة موافقة وتأييد جميع الفئات التي ذكرناها أعلاه، وما أريد قوله إنه ليس من الصواب أن يُفرَض هذا الأمر على الشعب التركي.
ومع مرور أكثر من ثلاث سنوات على كشف فضيحة الفساد والرشوة والتي تعرف إعلاميًّا بعمليات 17-25 ديسمبر/كانون الأول وإغلاق ملفات القضية من قبل الحكومة إلا أن هذه القضية وملابساتها ما زالت تشغل الرأي العام، وهناك اقتناع سائد بين أطراف الشعب التركي بحقيقة حدوث هذه الممارسات غير القانونية، حتى إن الناطقين باسم الحكومة يؤكدون ذلك، ومما يزيد الشكوك حول المتهمين في هذه القضية هو عدم فتح ملفات القضية وإجراء التحقيق معهم، وإذا كانت الحكومة قد قامت بحملة لاعتقال السيد “هدايت كاراجا” مدير مجموعة “سامان يولو” الإعلامية، والسيد “أكرم دومانلي” رئيس تحرير جريدة “زمان” التركية آنذاك في الذكرى السنوية لفضيحة الفساد والرشوة 17-25 ديسمبر بغرض نسيان تلك الفضائح كما يدعيها البعض فأرى أن هذا الغرض لم يتحقق على الإطلاق بل على العكس من ذلك بدأ الناس في تركيا بعد هذه الاعتقالات يتحدثون أكثر عن تلك الفضائح كما زادت الشكوك حول المتهمين بشكل أكثر من ذي قبل.
وما يحزنني في هذا الصدد هو أن تحصل هذه الأحداث في عهد حكومة يدعي أعضاؤها التدين، فوا أسفاه! ما كان لثمرة نضال المتدينين -الذي استمر قرنًا من الزمان من أجل التخلص من الوصاية وقمع الحريات- أن يصير مرًّا علقمًا كهذا.

مقدمة الكتاب