الإسلام دين عظيم يرتقي بالإنسان إلى أعلى درجات الإيمان حيث الإحسان، ولا فرق في ذلك بين العبادات اللازمة (حقوق الله) والعبادات المتعدية (حقوق الإنسان). فإن الإيمان يزيد وفقًا لزيادة المدخلات في هاتين الدائرتين، سواء في جهة الزيادة الكمية أو الزيادة الكيفية، عروجًا نحو “الإحسان” في المعاش والفردوس في المعاد.

ومن المعلوم بالضرورة، أن الإيمان يزيد وينقص لتصريح القرآن بذلك: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾(محمد:17).
فكيف يعرج الإنسان في سماوات الإيمان وكيف يصل إلى فردوسه؟ لقد منح الله سبحانه وتعالى عبده جناحين بهما يستطيع العروج إلى الذرى الملائكية وهما: جناح الزيادة الأفقية (الكمية) وجناح الزيادة الرأسية (النوعية)، وحول هذين الأمرين ستدندن هذه الحروف وتتمحور هذه المقالة.

الإسراء في أرض الشُّعب الإيمانية

المؤمن الحق هو الذي يدخل إلى الإيمان من أبوابه المتفرقة، الإيمان الذي ينتظم شِعاب الحياة عبر شُعبه التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “الإيمان بضع وستون -أو وسبعون- شعبة أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.
والناظر في نصوص هذا الدين ومقاصده، يجد أن كل ما يتحقق للناس مصلحة في معاشهم أو معادهم، جعله الإسلام شعبة من شُعب الإيمان به “فريضة واجبة”، وكل ما يؤدي إلى مفسدة في المعاش أو المعاد، جعله كبيرة من الكبائر يحرم الاقتراب منها، وهي تنتظم كل أبعاد الشخصية البشرية ومجالات الحياة الإنسانية، بحيث يصبح الكون كله محرابًا لعبادة المؤمن في مشاعره وشرائعه، في أقواله وأفعاله، في حركاته وسكناته: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأنعام:162).
إن أبواب الجنة ثمانية، وكل باب منها عنوان لبضع من الشُّعب المتقاربة والمتشابهة، لكنها بأجمعها تمثل الطريق لعمارة الحياة في الدارين، لأن عمارة الدنيا -لا عبادتها- هي الطريق لعمارة الآخرة، والوصول إلى فردوس الجنة ليس له إلا طريق واحد وهو الوصول إلى فردوس الإيمان. والإيمان الكامل هو الذي يصنع فردوس الدنيا عبر الترقي في معارج عمارة الحياة وخدمة حقوق الإنسان.
الإيمان الذي يدمج بين خلافة الله في الأرض وعمارتها جاعلاً منها مضمونًا للعبادة الشاملة، غير مفرق بين عبادة الله في “محراب الصلاة” وعبادته في “محراب الحياة”. ومن هنا طالبنا الله تعالى بالدخول إلى الإيمان من كل الأبواب المنضوية تحت دائرة “الاستطاعة” فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾(البقرة:208)، وخطوات الشيطان سِلمٌ موصلٌ إلى الكبائر وهي عكس شُعب الإيمان.
وفي سبيل الدفع بالمؤمن إلى التغلغل في شعاب الحياة من خلال الانضباط بمقاصد شُعب الإيمان، فإن الله لا يذكر التفاصيل وإنما يركز على العناوين التي تدخل تحت كل منها الكثير من الشُّعب، مثل مصطلح “الخير” ومصطلح “الصالحات” كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾(البقرة:215)، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾(الزلزلة:7)، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾(الجاثية:15).
ولما كانت إحدى وظائف السنة النبوية تنزيل وتجسيد كليات القرآن وعمومياته، فقد أشارت السنة النبوية إلى الكثير من طرق الخير التي خرجت اليوم من دائرة الإيمان في وعي وسلوكيات كثير من المسلمين، مما أوصلنا إلى هذه الحالة من الغثائية ووهن الفاعلية.
وعلى سبيل المثال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “كل معروف صدقة” (رواه البخاري)، وقال: “أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة” (رواه البخاري)، و”المنيحة” هي “المنحة”؛ أي أن يعطي المرء غيره عنزة يشرب لبنها ويردها إليه، وهذا دفع نبوي عظيم للاعتناء برعاية حقوق الناس وخدمتهم، والاهتمام بكل ما يجلب لهم المنافع ويدفع عنهم المضار، وهو ما غفل عنه المسلمون المتأخرون وما بدأت تؤسس له تيارات التجديد والإصلاح في العالم الإسلامي، وتدعو له وتعمل من أجله، وعلى رأسها تيار الخدمة في تركيا الذي أسسه المفكر الداعية الأستاذ “فتح الله كُولَن”.
ولا يستثني الإسلام في هذا الطريق شيئًا ولا يستصغر أمرًا، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم إتيان المرء شهوته الجنسية بالطرق المشروعة، من شعب الإيمان التي يستحق مقابلها الأجر: “وفي بُضع أحدكم صدقة” (رواه مسلم).
وفي ذات السياق ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أصنافًا كثيرة من الأعمال والخدمات الداخلة تحت مسمى “الإيمان” مثل: إماطة الأذى عن الطريق، إزالة النخاعة من المسجد، الصدقة، الذكر، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إعانة الصانع، الصناعة للأخرق والعاجز، الابتسامة، الإصلاح بين المتخاصمين، إعانة الرجل على دابته أو مساعدته في حمل متاعه، الكلمة الطيبة، رفع الأحجار والأشواك والعظام عن طريق الناس، المعونة، الهدية، الرحمة بالحيوان؛ حتى أن رجلاً دخل الجنة لأنه سقى كلبًا شربة ماء، ودخلت امرأة النار لأنها حبست هرة عن طعامها كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
ولما كانت أعظم العبادات المتعدية هي التي تستغرق أكثر ساعات اليوم، وهي المرتبطة بالتخصص الحياتي والمهنة اليومية التي يقوم بها المؤمن، فقد حث الإسلام على احترام التخصصات، جاعلاً إياها من أبواب الخير التي ينبغي التسابق على ولوجها وتجويدها وصولاً إلى الإحسان الذي يستحق به المؤمن الفردوسَ في الجنة، لأن الإحسان في عمارة الحياة هو الذي يصنع فردوس المؤمن في الدنيا.
وفي هذا السبيل وردت آيات كثيرة من مثل قوله تعالى: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾(البقرة:147)، ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾(الإسراء:84)، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾(الأحقاف:19).
ويبدو لي أن صدِّيق هذه الأمة الأكبر -وهو الخليفة أبو بكر رضي الله عنه- تبوأ بين البشر المركز الأول بعد الأنبياء، لأنه أكثر الصحابة الكرام ولوجًا إلى الإيمان من سائر الشُّعب والفرائض. فقد ورد في الصحاح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يومًا: “من عاد منكم اليوم مريضًا؟” فقام بعضهم وقال: أنا، وسألهم عن تشييع الجنازة وعن التصدق، وفي كل الأمور كان يرفع نزر يسير منهم، لكن القاسم المشترك بين كل هؤلاء والجامع لكل هذه الأعمال كان أبو بكر الصديق، ولذلك استحق جائزة أن يبشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وبأنه ممن سيدخلون من أي أبواب الجنة الثمانية، لأنها مفتوحة لهم كما فتحوا أبواب الإيمان جميعًا، فإن الجزاء من جنس العمل.
وهكذا، فإن الدخول إلى الإيمان من كل أبوابه البالغة نحو سبعين بابًا، كفيل بإقامة جنة وارفة الظلال في الدنيا وهي الطريق إلى فردوس الآخرة، لكن ذلك رهين بالإيمان الكيفي وهو الجناح الآخر للطيران نحو فردوس الإيمان.

المعراج إلى سماوات المضاعفة

الدخول إلى الإيمان من أوسع الشعب الإيمانية، ليس الطريق الوحيد إلى الاستزادة من الإيمان وصولاً إلى ذراه، فهناك طريق آخر يمثل الجناح المكمل للجناح الأول، هذا الطريق يعمد إلى ثلاث وسائل تضاعف الأعمال بشكل كبير ولو كانت قليلة أو صغيرة، وكل وسيلة يمكن اعتبارها سماء كاملة في طريق العروج إلى فردوس الإيمان وهي: سماء العلم، سماء الإخلاص، سماء المواسم التي تتضاعف فيها الأجور.
1- رافعة العلم: الإنسان بأصله الطيني مشدود إلى الأرض، وجاذبية الطبائع الفجورية فيه تمنعه من السمو والسموق نحو العلياء، لكن الله هدى هذا الإنسان إلى الوسائل المخففة لجاذبية الأرض، والرافعة للإنسان إلى سماوات المجد، ولا شك أن العلم أولها، ولهذا كان المبتدأ في أول أمر ورد في أول آية من أول سورة في القرآن الكريم: ﴿اقْرَأْ﴾(علق:1).
وقد نوه القرآن بالعلم في مئات المواضع بأساليب كثيرة وفي مناسبات شتى، لكننا هنا نكتفي بذكر ثلاث آيات تؤكد تفوق عبادة العالم على غيره ولو كانت العبادتان متساويتين في الحجم والشكل والجهد، بمعنى أن العمل الذي يعمله العالم تتضاعف أجوره بصورة كبيرة جدًّا، ولهذا قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الزمر:9)، وقال: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(المجادلة:11)، وقال: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28). وفي الحديث الذي رواه الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”.
وهنا نتساءل: لماذا كل هذه المكانة الرفيعة للعلماء؟ ولماذا أعمالهم تتضاعف؟ ولماذا علمهم يزرع فيهم كل هذه الخشية من الله حتى كاد النص القرآني أن يحصر الخشية فيهم ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
العلم أيكة مباركة تُورق أحسن الأخلاق، وتفوح بأزكى الطبائع، وتثمر أرقى المعاملات، براعمها تتدلى من خشية الله، وظلالها تتنزل رحمة بالإنسان ورفقًا بالحيوان.
إن ثمرات العلم ومواريثه لا تعد ولا تحد، فهي خالصة المنافع، عابرة المجالات… فإن العلم يورث حزمًا وعزمًا، ويدفع نحو أخذ العدة وعلو الهمة، إنه يزرع التقوى، ويبني محراب الإنابة، ويفتح عيون التيقظ، ويوقد مشاعل الشعور بالمسؤولية، ويطفئ فتن السلبية وجذوة التحاسد، ويثير حساسية الاتقاء للشبهات والتورع عن المتشابهات، ويمزق حُجب العقل وأغلال التقليد، ويصحح القصد، ويُكسب صاحبه حدة البصر وصفاء البصيرة، ويُغزِّر عرق الكفاح ودموع التوبة ودماء الشهادة.
العلم يورِّث تقدير العواقب ومعرفة المآلات، إذ يضيء للمرء دربه فيعرف أين يضع قدمه. ولهذا فإن العالم يدري متى يكر ومتى يفر، أين يُقْدم وأين يُحجم، حيث يمتلك بوصلة تهديه إلى كل خير وتحذره من كل شر، وهو لا يعدل بالسلامة شيئًا، ولهذا فإنه يقدم درء المفاسد على جلب المصالح، ويدرأ المفسدة الكبرى بارتكاب مفسدة أصغر، ويُفوِّت مصلحة صغرى من أجل تحقيق مصلحة أكبر.
العلم سفينة الإبحار الحصينة في لُجج الحياة حيث عواصف الأهواء الطاغية وأعاصير الغرائز الجامحة. هذه السفينة تقيه أيضًا من مزالق السقوط في حفر الضعف البشري. فإنه -أي العلم- يصنع للفرد المرآة التي يرى بها جهله، والدواء الذي يقيه من التضخم وتورم الذات ليظل صغيرًا متواضعًا فيُكْبِره الناس ويَعظُم عند الله.
إنه زاد الحياء وإكسير الحياة، وهو حصن من الكبْر وترياق الخلاص من العبودية لغير الله، وهو الآلة التي تُري صاحبها الأشياء كما هي دون تصغير أو تكبير ومن غير تهويل أو تهوين، ولا شك أن ذلك كله يؤدي إلى سداد الرؤية ورشد الفكرة، وصواب الموقف والقرار، ومن هناك تتبارك العبادات المبنية على علم.
العلم طوق النجاة من رياح التنطع وأعاصير التفريط، وهو حبل الحؤول دون السقوط في مهاوي البطالة وأخاديد العطالة، وهو جسر العبور إلى شاطئ الوسطية وبر الاعتدال دون جنوح نحو مناكب “الجحود” أو تحطم على صخرات “الجمود”.
إنه يمنح حامله كمال العقل، لأنه يَعْقِل أهواء الذات وغرائز النفس الأمارة بالسوء، ويلفت أنظاره إلى العداوة المتخفية تحت إهاب النفس الأمارة بالسوء، ويساعده على ترويض هذه النفس الجموح حتى يصل إلى التلذذ بقهر هواه ويتذوق لذة الطاعة وحلاوة الإيمان.
العلم جهاز دقيق يمكِّن حامله من التفريق بين الآمال المشروعة والأمنيات الممنوعة، بين البدعة المرفوضة والإبداع المفروض، بين التعدد المشروع والتفرق المذموم، بين التجديد والتبديد، بين الحقائق الأمرية (الشرعية) والحقائق الخَلْقية (الكونية)، بين الكرامات الربانية والأحوال الشيطانية، وهو سد منيع ضد تلبيس أبالسة الجن وتدليس شياطين الإنس وحصن حصين من مصائدهما.
العلم يبيّن الحدود الفاصلة بين العقل والنقل، ويمنع التعلل بالأقدار، ويدفع نحو مدافعة الأقدار بالأقدار، صانعًا الشعرة الفارقة بين التوكل والتواكل، حيث يعظم المسبب ولا يحطم الأسباب.
صفوة القول، فإن العلم يهيئ صاحبه للانكسار أمام رب السماوات، والشموخ أمام التحديات، إنه يهديه إلى “البر” ويُسلمه إلى”التقوى” حتى لا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، فكيف لا ينسأ الله أجله ويضاعف عمله.
2- بركة الإخلاص: والإخلاص وسيلة أخرى لزيادة مدخلات الإيمان، لأنه يُكَثِّر القليل ويعظم الحقير ويكبر الصغير، فبه تتضاعف الأجور وتتضخم الأرصدة وتتبارك الأعمال.
بالإخلاص يَجْمُلُ القوام الداخلي للإنسان، وينعكس الجمال على مظهره الخارجي فيزينه ولو كان أفقر الناس في الوسامة والجمال، ويلقي حبه في قلوب الخلق، ويضع له القبول في الأرض فيحبه الناس ويحبهم، وتتنور الأفئدة فتتقوى الدوافع ويصفو الإرسال، عندها ترتفع الأعمال وتتبارك، ويلتفت الله إلى أصحاب القلوب الناصعة، وما نظر الله إلى شيء إلا قبله وباركه.
ولعظمة الإخلاص في تعظيم الأعمال، أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه -وكان شديد الحب له- فقال له: “أخلص دينك يكفك العمل القليل” (رواه الحاكم). وبدون الإخلاص يقل الكثير وتتحول جبال الأعمال إلى سراب أو هباء منثور في أودية لا قعر لها ولا قيعان.
ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : “لقد رأيتُ رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين”، وما أظن هذا الأجر العظيم إلا بسبب قوة الإخلاص في قلب ذلك الرجل، فبهذا الإخلاص الشديد أسكن الله وحده في قلبه فأسكنه الله في جنته.
وروى البخاري عن أنس رضه الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حبسهم العذر”، وفي رواية للإمام مسلم: “إلا شركوكم في الأجر”. إن النية لا تبارك العمل فحسب، بل توجده ولو كان عدمًا.
وهكذا، فإن الإخلاص يُراكم الحسنات ويضاعف الأجور على أعمال بسيطة، حتى إن سلعة الله الغالية -وهي الجنة- يمكن أن يعطيها الله مقابل أمر بسيط؛ كإزالة شجرة من طريق الناس -كما أسلفنا- أو سقاية كلب شربة ماء كما جاء في الحديث الصحيح أو مداينة الناس وإمهالهم كما جاء في حديث آخر.
3- استثمار مواسم البركة المضاعفة: وهناك وسيلة ثالثة تضاعف الأعمال اليسيرة وتُراكم الأجور وهي استثمار مواسم البركة، حيث الجوائز فيها عظيمة مضاعفة، وهذه الوسيلة ثمرة للعلم والإخلاص وخاصة العلم.
لقد وضح الله سبحانه وتعالى الغاية من خلق الإنسان بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)، وهي العبادة الشاملة في محراب الوجود والمتوزعة بين ساعات اليوم والليل، والتي يتقلب الإنسان فيها بين العلم والعمل، الفكر والفعل، الأكل والصيام، النوم والقيام، الهزل والجد، الذكر والصمت، القيام والقعود، الاختلاط والعزلة… بحيث يلتزم منهج الوسطية والتوازن والاعتدال ويراعي المقادير ويعطي لكل عبادة زمانها ومكانها المناسبين. ففي إطار ساعات اليوم الواحد، لا أفضل بعد الفجر من قراءة القرآن مع أن القراءة مأجورة في كل وقت، ولا أفضل بعد ذلك من عبادة العمل حتى الظهر، ولا أفضل بعد الظهر من عبادة القيلولة، ولا أفضل من الصلاة في أوقاتها وأداء الواجبات المرتبطة بالخلق وقت الحاجة إليها، ولا أفضل من النوم في النصف الأول من الليل وهذا ثابت علميًّا. فقد ذهبت أبحاث علمية إلى أن الراحة التي يكتسبها الجسم من نوم ساعة واحدة في هذا الوقت، تعدل ساعتين في النصف الثاني من الليل أو ثلاث ساعات في النهار. وسنضرب مثلاً لهذه المواسم في العبادات اللازمة، أي الشعائر التعبدية القائمة بين الفرد وربه، سواء ما ارتبط منها بالزمان أو المكان.
ففي إطار الزمان، فإن كل الساعات تصلح لحصد الأجور في الصلاة والصوم مثلاً مع وجود استثناءات، لكن الفروق في الأجور كبيرة جدًّا، فأفضل ساعات الصلاة في اليوم والليل بعد المكتوبة هي الثلث الأخير من الليل، وأفضل أيام الأسبوع هو يوم “الجمعة”، وأفضل أيام الشهر 12، 13، 14 من كل شهر، وأفضل أشهر العام هو شهر “رمضان”؛ ففيه من الأجور ما ليس في غيره، وفيه ليلة تعدل أجورها أجر بضع وثمانين عامًا.
وفي إطار الأماكن فإن أفضلها المساجد وأسوأها الأسواق، وعلى مستوى المدن والمساجد، فإن أفضلها مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف. فالصلاة في الحرم المكي تعدل مائة ألف صلاة في سائر المساجد، والصلاة في الحرم النبوي تعدل ألف صلاة، وفي الحرم القدسي (الأقصى) تعدل خمسمائة صلاة.
وهناك أدعية يؤجر عليها الإنسان في أوقاتها المشروعة ما لا يؤجر في غيرها؛ كأدعية الصباح والمساء، وأدعية الأكل والشرب واللبس والركوب ودخول الحمام وقضاء الحاجة ورؤية الهلال ورؤية صورة الذات في المرآة وغيرها.
وهناك صلوات مناسباتية لا يمكن أن يحصل المرء على أجورها ما لم تكن في أوقاتها ومناسباتها المشروعة؛ كصلاتي الكسوف والخسوف، وصلاة الحاجة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الشكر.
وبالجملة، فإن العبادات المتعدية أفضل بكثير من العبادات اللازمة نظرًا لكثرة المستفيدين من العبادات المتعدية، حتى أن ريعها يستمر بعد موت الإنسان رغم انقطاع سائر أعماله الأخرى.
هذا كله يتطلب منا أن نتفقه في الدين، بحيث نضع كل شيء في مكانه الصحيح وزمانه المعلوم بقدره المناسب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين” (متفق عليه)، والفقيه بهذا المعنى النبوي هو الحكيم بالمعنى القرآني الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(البقرة:269). بهذه المزاوجة في الأفعال الإيمانية، نستطيع أن نتدرج في معالي الرقي حتى نصل إلى فردوس الإيمان بمشيئة الله وعونه