قضية العنف عند كل النورسي وكولن (٤)
في المقال السابق قلنا سنحاول توضيح بعض ملامح ثقافة “اللاعنف” عند فتح الله كولن من خلال محورين اثنين مشهورين في منهج هذا الرجل وهما الحركية والفكر، وذلك حتى يتسنى لنا تقريب فلسفة هذا الرجل في قضية العنف واللاعنف بشكل خاص، وهو منهج عام في مشروعه الإصلاحي الشمولي.
إن معالجة “قضية العنف واللاعنف” عند فتح الله كولن تنطلق من فلسفة المنظومة الإسلامية عموما؛ لكن التراجع الذي عرفه الفكر الإسلامي في العصور الأخيرة، جعل الناس ينظرون إلى هذا الفكر نظرة دونية، بحجة تقادمه وعدم قدرته على مسايرة الحياة المعاصرة. صحيح هناك فئة من العلماء والمفكرين تجاوزت هذا الطرح وحاولت تقديم اقتراحات جديدة ومعاصرة، إلا أنها أو جُلُّها في أحسن الأحوال مازالت عاجزة عن تقديم البدائل المقنعة للتحديات المعاصرة فضلاً عن منافسة غيرها.
الرؤية عند الأستاذ كولن واضحة؛ مضمونها ينسجم وروح الرسالة المحمدية إلى الوجود كله وليس إلى زمن أو جيل بعينه.
فقضية العنف واللاعنف مثلاً عالجها الأستاذ كولن معالجة شاملة وفق المنظومة الإسلامية، لكن عبر تجاوبها مع واقع الناس، وذلك وفق روح المنهج الإسلامي عبر تأسيسه للرؤية وتحديده للمخطط وتوفيره للبرامج إضافة إلى الشروط والآليات اللازمة لتحقيق هذه الرؤية. ولكي نتمكن من معاينة النتائج وقطف الثمار لا شك أن ذلك يتطلب جيلاً بكامله.
أما الرؤية فهي واضحة عند هذا الرجل؛ مضمونها ينسجم وروح الرسالة المحمدية إلى الوجود كله وليس إلى زمن أو جيل بعينه، ومن أبرز عناوين هذه الرؤية قول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(الجمعة:2). معلومٌ أن العلماء ورثة الأنبياء، لذلك وجدنا فتح الله كولن يتلقف هذا الإرث ويخلص في تبليغه، وذلك فضل من الله، وإذا كانت مناهج الناس في حياتنا اليوم إما دنيوية بشرية محضة فيسري عليها ما هو معلوم من ضعف وتقصير في صفات عموم البشر، أو هي دينية تحاول مجاراة الحياة وفق رؤى واجتهادات واضعيها؛ فإن فتح الله كولن جمع بين المنهجين وقدم مشروعًا جديدًا يستحق أن يُنسب إلى إرث النبوة. وليس ذلك بمجرد انسجام رؤيته مع روح الرسالة المحمدية، فهذا مما يشترك فيه مع الكثيرين من واضعي البرامج الدينية، ولكن لأنه تفوق في وضع الخطط الاستراتيجية على مختلف مراحلها، القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى؛ بل وتميز بتوفير الشروط والآليات الضرورية لإنجاح هذه الرؤية.
فالرجل لم يكتف بالتعليم حسب ما ورد بالآية، كما هو ديدن كثير من علماء الأمة مشكورين؛ وهو لم يتخصص في التزكية سيرًا على منهج رجال التربية والتزكية؛ كما أنه لم يقف على النظريات الحكمية والتحديدات الفلسفية؛ بل جمع بين كل ذلك وعلى منهاج النبوة في الجمع والترتيب بين كل من التلاوة والتزكية والتعليم ثم الحكمة. صحيح أن من لا يعرف مشروع فتح الله كولن سيستغرب لهذا الكلام أو يستكبره، ولكني أقدر أن الذي يدرس هذا المشروع لن يخالفنا هذا التقدير.
معالجة قضية “العنف واللاعنف” عند فتح الله كولن تندرج ضمن رؤيته الشمولية وفي إطار مخططه الإصلاحي مجسِّدًا ذلك في برامج محددة.
إن قضية “العنف واللاعنف” كغيرها من القضايا عند فتح الله كولن، تمر عبر هذه الخطوات المنهجية الصارمة التي لا تخطئ أهدافها إلا أن يشاء الله، وهي خطوات ومراحل تجمع بين الإيمان والعمل بلغة سلفنا الصالح، أو العقيدة والتشريع بلغة الفقهاء. وبلغة فقه فتح الله كولن هي تزاوج بين الفكر والحركة؛ فالفكر هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى المجهول، وأما الحركة -كما في المعجم- فهي نزعة ترفض الثبات وترى أن الأشياء في تغير وحركة مستمرة. ولعل اختيار الأستاذ كولن لمصطلح “الحركية والفكر” له دلالات إبداعية كبيرة تبرهن على مدى عمق رؤية هذا الرجل وواقعيته في النظر إلى الأمور؛ وأهمها دلالات المعجم ودلالة السياق، وهذا موضوع قائم الذات ويستحق الدراسة. فتأمل قوله: “نحن نلخص خط كفاحنا كورثـة الأرض بكلمتي الحركية والفكر، وإن وجودنا الحقيقي لا يتم إلا عبر الحركية والفكر؛ حركية وفكر قادران على تغيير الذات والآخرين. والواقع أن كل كيان ثمرة حركة ومجموعة من المبادئ والتصورات، كما أن بقاءه مرتبط باستمرار هذه الحركة وتلك التصورات”[1]
ففصل الحركة عن الفكر كالفصل بين الإيمان والعمل، ووراثة الأرض وفق رؤية الأستاذ كولن تتلخص في الحركية والفكر، وإن معالجة قضية “العنف واللاعنف” عند فتح الله كولن تندرج ضمن رؤيته الشمولية وفي إطار مخططه الإصلاحي مجسِّدًا ذلك في برامج محددة. وإن محاولة مواجهة ظاهرة العنف عبر “سلخها” عن الزمان أو المكان أو الإنسان، إنما هو المنهج الذي نراه في مجالات عدة في العالم المعاصر وإن اختلفت منطلقاته، إلا أن نتائجه محصورة وبادية للعيان، الشيء الذي فقهه فتح الله كولن ونبَّه إليه منذ زمن بعيد حيث قال: “ومهما ضحينا في هذا السبيل، فإن لم نتحرك وفقًا لهويتنا الذاتية الأصيلة، فسندخل في تأثير الدوامات الفكرية والبرنامجية لأمواج هجمات الآخرين وأعمالهم الحركية، ونضطر إلى تمثل فصول حركاتهم”[2].
الأستاذ كولن وهو يواجه معضلة العنف يستحضر كون الإسلام منهج حياة.
إن الأستاذ كولن وهو يواجه معضلة العنف يستحضر كون الإسلام منهج حياة، ولا جدوى من الرؤية الضيقة أو المعالجة الجزئية لقضية من قضايا الإنسان إلا ضمن الرؤية العامة للإنسان ضمن الوجود كله. يقول: “إن الحركية -من مقترب أفضل- هـي احتضان الإنسان للوجود كله بأصدق وأخلص القرارات والتدقيق فيه، والسير من خلال المعابر التي فيه إلى اللانهاية، ثم إحلال دنيـاه في فَلَك غاية الخلقة الحقيقية مستخدمًا الطاقة الكلية لذكائه وإرادته بالسر والقوة التي اكتسبهما من اللامتناهي. إن الفكر عمل حركي داخلي، فالفكر المنظم والهادف هو التساؤل من الكائنات بذاتها عن المجاهيل التي تجابهنا في وتيرة الوجود، والاسـتماع إلى جوابها عنها، أو بتصريح آخر، فعالية الشعور الباحث عن الحقيقة في لسان كل شيء وفي كل مكان، بتأسيس قرابة بين ذاته والوجود كله”[3]
هذا هو فتح الله كولن الذي جمع في رؤيته إلى جانب فضل التلاوة، محاسن الحكمة وبُعد النظر… (يتبع)
الفلاشات
الهوامش:
[1] ونحن نقيم صرح الروح، 57، دار النيل-القاهرة 2008م.
[2] المصدر السابق 57
[3] المصدر السابق 58
Leave a Reply