تنطلق الداروينية من المشابهة والتشابه الموجود في الطبيعة. فهي ترى أن بعض الأعضاء الضامرة الموجودة في بعض الأحياء الراقية هي آثار عن أسلاف بدائية كانت مفيدة لها، ولكنها أصبحت دون فائدة بعد قطع هذه الأحياء لمراحل تطورية معينة، ولكون هذه الأعضاء لا تفيد في هذه المرحلة الجديدة من التطور لذلك الكائن، لذا بقيت كأعضاء ضامرة وأثرية. فمثلاً يقول دارون إن وجود الشعر في جسم الإنسان دليل على أنه ورث هذا الشعر من الشعر الموجود في أجساد الثدييات، وفي أثناء المراحل التطورية التي مر منها الإنسان تساقط القسم الأكبر من هذا الشعر ولم يبق إلا في مناطق معينة، فلماذا؟
تشابه طبيعي
مثل هذه الادعاءات لدارون لا تستند إلى برهان حقيقي. لأن وجود الوجه والعين والأذن في الإنسان لا يشكل دليلاً على أنه تطور من القرد. كما لا يشكل وجود هذه الأعضاء في بعض الأحياء دليلاً على أن بعضها قد تطور من بعض. لأن هناك تشابهاً كثيراً بين العديد من الكائنات الحية في العالم. لأن جميع هذه الكائنات الحية تستند إلى عناصر رئيسية أربعة هي: النتروجين، الكاربون، الأوكسجين، والهيدروجين. كما أن الإنسان والحيوان يتغذون أغذية مشتركة. والإنسان خاصة يتغذى من الأغذية نفسها، ومع ذلك فإن جميع أنواع الموجودات، وكذلك أفراد الإنسان يبدون في نواح عديدة فروقاً كبيرة فيما بينهم.
إن التشابه في المظهر الخارجي أو في البنية الداخلية لا توجب تطور الأحياء بعضها من بعض.
إن التشابه في المظهر الخارجي أو في البنية الداخلية لا توجب تطور الأحياء بعضها من بعض. وعلى الرغم من النشأة المشتركة، فإن الفروق الموجودة بين الكائنات تُظهر أن الغاية من الخلق ووظيفة ذلك الكائن وموقعه يأتي في المقدمة، وأن البنية المادية تنظم على هذا الأساس. فلا يمكن بناء بناية عشوائية أو بناية جميلة ثم تعطى لها فيما بعد وظيفة ما. ولا يمكن تشكل الكلمات في الذهن أو كتابة كتاب قبل وجود فكرة أو معنى في الذهن. يتكون كل بناء تقريباً من المواد البنائية نفسها. لذا فهناك تشابه كبير بين الأبنية، ولكن ليست أي بناية مثل بناية أخرى تماماً.
إن الأحرف التي تشكل الكلمات واللغات هي نفسها، ولكن كل كلام يتم التعبير عنه بتلك الإشارات والأحرف المحدودة في أعدادها. ولو كانت هناك كلمة من سبعة أحرف فإنها تختلف تماماً مع كلمات أخرى تتشابه معها في ستة أحرف، لأن اختلاف حرف واحد يبدل المعنى ويجعلها مختلفة عن الكلمات الأخرى. كما أن هناك احتمال وجود سبع كلمات مختلفات لها سبعة أحرف… ووجود ستة أحرف مشتركة بين هذه الكلمات لا يدل على أنها مشتقة من جذر واحد. لأن المعنى هو الذي يحدد ماهية كل كلمة ويحدد حروفها. ونظير هذا فإن الوظائف المتشابهة تقتضي عند الكائنات أعضاء وتراكيب متشابهة. وعلى الرغم من وجود بعض الشبه في عالم الأحياء، وعلى الرغم من استعمال مواد البناء واللبنات نفسها نرى وجود اختلافات لانهائية فيه.
التشابه والقصد
ولو قمنا بالتعبير عن الأمر بصورة عكسية لقلنا بأن تشابه مواد البناء واللبنات الأساسية في الأحياء على الرغم من وجود اختلافات لانهائية يدل على وجود قصد وإرادة ومعنى معين. لذا فكما تتراص الكلمات حسب معنى معين، كذلك تُخلق الأحياء حسب الوظائف التي ستكلف بها، وتعطى لها الأعضاء والتراكيب المناسبة. لذا فالتشابه الموجود بين الأحياء لا يشير إلى التطور، بل يشير إلى العكس.
ثانياً إن هناك أعداداً غير محدودة من الكائنات ومئات الآلاف من الأنواع على سطح الأرض. ولو كان لكل نوع وجه خاص وأعضاء مختلفة، ولو كان لكل نوع بنية مختلفة وجسد مختلف لكان من الضروري وجود أنواع لانهائية من الأعضاء ومن التراكيب والبنى. ولو تناولنا الأمر على مستوى الإنسان لكان من الضروري أن يكون لكل فرد تركيب وبنية مختلفة وشكل مختلف، لأن الإنسان يشكل نوعاً فريداً في عالم الكائنات. ولا شك أن الله تعالى له القدرة على إعطاء شكل مختلف وبنية مختلفة لكل نوع. ولكن كان من الصعب في هذه الحالة تحقق التقارب والتفاهم والتعاون في عالم الأحياء وفي عالم الإنسان، ولأصبح كل نوع غريباً عن الأنواع الأخرى… أي لكان هناك عالم لا يطاق فيه العيش.
التشابه والعينية
إن وجود عضو أو أعضاء في الإنسان مشابهة لما هو موجود في الحيوانات لا يبرهن على وجود تطور بين النوعين.
ثم إن كل شيء مشابه أو كل شيئين متشابهين ليس معناه العينية. فمثلاً هناك أنواع عديدة من السوائل، ولكن ماء الورد يختلف عن حامض الهيدروكلوريك، وحتى في الاستعمال نرى أن أحدهما يجلب الراحة، والآخر يحرق. وكذلك نرى أن الشمس والكهرباء والشمعة والخشب المحترق يعطي كل منه الضوء، ولكن لا يمكن إرجاع الجميع إلى مصدر واحد. لذا فوجود عضو واحد في الإنسان، أو عدة أعضاء مشابهة لما هو موجود في الحيوانات، بل حتى وجود أوجه تشابه عديدة بين الإنسان وبين الحيوان لا يشير ولا يبرهن على وجود تطور بين النوعين. لأن كل موجود قد أعطيت له الأعضاء المناسبة لتحقيق وظيفته في الحياة. علماً بأنه قد تبين اليوم بأن العديد من الأعضاء -التي عدت في السابق أعضاء ضامرة ولا فائدة منها ولا وظيفة لها- لها وظائف مهمة.
بجانب هذا فقد تكون في الطبيعة أشياء تبدو وكأنها غير مناسبة للبيئة ولبنية البيئة العامة وتركيبها، بل هي موجودة فعلاً. ولكن يمكن البحث عن المعاني التي تشير إليها من جهة، ومن جهة أخرى فإننا لا نعرف بعد طبيعة بنية البيئة حق المعرفة، ولم نحل جميع ألغازها. أحياناً يوضع شيء في مكان غير مناسب، كعنصر من عناصر الديكور والجمال فيجلب الأنظار إليه. فإن أثار هذا الاهتمام، وقام الإنسان -استنادا إلى هذا- بإصدار حكم حول البنية العامة فإنه ينخدع تماماً. وهذه النقطة نقطة امتحان زلّت فيها كثير من الأقدام.
فإن كان هناك قصر له ألف باب اثنان منها مغلقان، فمن الخطأ الحكم بأن جميع أبواب ذلك القصر مغلقة. وكذلك لو كانت هناك شجرة لها جذور حية وقوية وجذع متين وأغصان وأوراق وثمار في تمام العافية والنضج، فإن من الخطأ الفاحش القول بأن هذه الشجرة شجرة ميتة وغير صالحة لمجرد وجود ثمرتين عفنتين على غصن منها. كذلك فإن التوصل إلى استنتاج بوجود تطور بين الأنواع من مجرد وجود عضو أو عضوين ضامرين، (وبالتالي الظن بأنهما غير مفيدين) خطأ بنفس الدرجة وتصرف غير علمي.
تشابه المرض
لقد زعم دارون -انطلاقاً من وجود التشابه- إلى أن وجود بعض الأمراض التي تصيب الإنسان تصيب الحيوانات أيضاً مما يشكل حسب رأيه دليلاً آخر في هذا الصدد (أي في وجود قرابة بين الإنسان والحيوان). ولا يسعنا هنا سوى ذكر ما سبق أن ذكرناه في هذا الأمر.
إن كان هناك قصر له ألف باب، اثنان منها مغلقان، فمن الخطأ الحكم بأن جميع أبواب ذلك القصر مغلقة.
فالأمراض المكتشفة تبلغ العشرات، بل المئات إن أخذنا بنظر الاعتبار الأمراض الثانوية المتشعبة عن الرئيسية. ولو كانت هناك أمراض متعددة لكل نوع من الأنواع لكان من المفروض وجود عدد لا يعد ولا يحصى من الأمراض. ثم إن وجود أمراض مشتركة بين الإنسان والحيوان شيء طبيعي جداً ومتوقع طالما أن بنية الإنسان والحيوان مؤلفة في الأغلب من لبنات متشابهة وتؤدي مهمات متشابهة، لذا فلا يشكل هذا الأمر دليلاً له أي قيمة في أن الإنسان متطور من الحيوان. علما بأن معظم الأمراض التي تصيب الإنسان ليست هي نفس الأمراض تماماً التي تصيب القرود. على العكس من هذا تماماً فبعض هذه الأمراض تظهر في أنواع أخرى من الحيوانات، فمثلاً يظهر مرض (amfizem) المزمن عند الخيول، ومرض سرطان الدم في القطط والثيران، ومرض العضلات في الدجاج والفئران، وتصلب الشرايين في الخنازير والحمام، ومرض سوء التخثر ومرض التهاب الكلية في الكلاب، ومرض قرحة المعدة في الخنازير، ومرض (anevrizma) في الديك الرومي، وحصاة الصفراء في الأرانب، والتهاب الكبد في الكلاب والخيول، وحصاة الكلية في الكلاب والثيران، ويظهر مرض السُّد وإعتام العين في الكلاب والفئران. وفي الطيور والدجاج أيضا. فهل نستطيع انطلاقاً من هذا الادعاء أن نقول بأنّ أصل الإنسان فأر، أو أنه تطور من الكلاب؟ أو أنه ترقى من الثيران؟
إن من الطبيعي أن يصيب الإنسان والحيوان النوع نفسه من الفيروس والبكتريا، ولا يدل هذا على كون منشأ الإنسان والحيوان واحداً. وهناك أمراض تصيب الإنسان كما تصيب الطيور والدجاج التي تعد من الناحية البيولوجية بعيدة جداً عن الإنسان. فإن أرجعنا الإنسان -بواسطة هذه الأمراض- إلى الدجاج فسيكون هذا ابتعاداً عن النظرة الداروينية، لأن دارون ربط الموضوع بالتطور ووضع القرد بين أنواع الحيوان والإنسان.
المصدر: حقيقة الخلق ونظرية التطور، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر
Leave a Reply