تظل الكثير من طبقات “الذات” عند الإنسان، تعاني من الركود والجمود والسأم والضجر، لأنها معطَّلَة لا تعمل، وساكنة لا تتحرك؛ فخلايا ذاته النائمة، وقواه الخافية المخنوقة، لا تعود إلى الحركة والعمل إلا إذا حفّزها حافز، أو ألَمّت بها ملمة.. فإذا ما خافت وارتعبت، وأحاطت بها المخاطر من كل جانب، جاشت هذه الذات وارتفعت درجة حرارتها، ونهضت لتعمل بكل طاقاتها وطبقاتها من أجل مدافعة المخاوف والأخطار، وعاد الدم يتدفّق إلى أجزاء روحها من جديد، وسارعت إلى اللجوء إلى مَن هو قادر على إعانتها وحمايتها مما يتهدد وجودها ويسعى إلى موتها.
فجنْس الإنسان، جنس ضعيف وعاجز مهما تظاهر بالقوة والقدرة؛ فقُواه محدودة، وقدراته ناقصة، تحيق به المخاطر من كل جانب، فلا يستطيع مدافعتها وحده من غير معين ومساعد، لذلك فهو مضطر للجوء إلى صاحب القوة والقدرة المطلقتين، وهو الله سبحانه وتعالى…
فالذات الكسلى، ما لم تتجرد من أردية الكسل، وتقف أمام الله تعالى عارية مكشوفة القلب، مفتَّحة الصدر، مخلصة القصد، مطلقةً ألسنة التضرع والدعاء، فلن تجد الطمأنينة والأمن والسلام… فالإنسان المعاصر بكل ما وصل إليه من العلوم والمعارف، وبكل ما أنجزه من مخترعات ومكتشفات، فهو يعاني الكثير من الشتات والانهيارات والتمزّق، إنه يكاد يتحطّم على أرضية حضارته كما تتحطم قارورة الزجاج الأنيقة والرشيقة إذا سقطت على الأرض تهشمت.. إنَّ حياته اليوم -للأسف الشديد- مجموعة من الفوضى لا يعرف كيف ينقذ نفسه منها ويعود إلى عالم من النظام والتنظيم الروحي والعقلي معًا.
فـ”القلوب الضارعة” بلْسم لضمير الإنسان المعذَّب، وإفصاح عن حقيقة إيمانه، وعن عمق هذا الإيمان وجوهريته.. إنه يتكلم بلسان الفطرة، ويتحدث عن لواعج القلب، ويترجم عن حاجات النفس، ويبين عن أشواق الروح.. إنه يفتح كوة في جدار الوجود يتطلع منها الإنسان إلى الهدف الذي خُلق من أجله، والمصير الذي إليه سيفضي.. إنه مثير للطاقات الحيوية الخامدة في الإنسان، ويأخذ بأيدينا إلى مكان الصدارة من هذا الكون، وينقذنا من القزامة الروحية، والضئالة الإيمانية، فتتعمْلق أرواحنا، وتتعالى قوانا، وتغنى إدراكاتنا الإيمانية.. وهو يشحذ الجانب الكفاحي من النفس الإنسانية ضدَّ شرور العالم، وهو دعوة ملحة لتركيز الذهن بعظمة الألوهية، ويمهد للمزيد من التعرف عليها، والتأمل فيها.. ثم هو بعد ذلك “القلوب الضارعة” ينقذ الإنسان من مشاغله التافهة التي تشغله عن ربه، فيحب القرب منه، والتعرف على مراضيه ومساخطه.. كما أنه ضد الضحالة على أنواعها، وضدَّ الكسل الروحي الذي هو منبع كل شقاء الإنسان، بل يعمل على إحياء الجذور الروحية شبه الميتة فيه..
فهذا الكتاب الذي هو نتاج عظماء الروح يسعى بمجمله إلى تغيير الإنسان من الأدنى إلى الأعلى، ومن “اللاّهدَفية” إلى “الهدفية”… إنه صرخات إيقاظية لمن يغطّون في نوم “اللاّمبالاة”، ودعوة لسيطرة الإنسان على نفسه، ولجمها عن هواها… إنه يريد من الإنسان أن يكون مرآة صافية نفيسة، تعكس الومضات الإلهية المنبئة عن الوجود الإلهي الأكبر والأعظم من كل وجود.
بين دفتي هذا الكتاب -الذي جمعه العالم الرباني فضيلة الأستاذ “فتح الله كولن”- أنّات قلوب، وأشواق أرواح، ودموع واجدين، وضراعات توابين هارقين نجيعهم على عتبات سامع النداء، ومجيب الدعاء، ومكفكف الدموع، وقابل التوب، الرحمن الرحيم، والبَرِّ الغفور Y…
هنا يتلاشى الزمان ويضمحلّ المكان، ولا شيء يبقى غير فيوضات أشواق، وومضات احتراق، ومكابدات أكباد، وكوًى تتفتح على أبد الآباد، ومشاكي أنوار تتألق في سماء الخلود.
هنا رجال أدركوا فَسَموا بإدراكهم، وعَرَفوا فارتفعوا بعرفانهم. فلم يعودوا واقعين تحت ضغوط الأرض، أو محبوسين في ضيق الكائنات. إنهم رجال مُلهَمون، وإلى آفاق الغيوب يستشرفون.
رجال “القلوب الضارعة”
سألتني -أيها العزيز- أنْ أعرِّفك برجال كتاب “القلوب الضارعة”… مَنْ هم… وما أحوالهم وشمائلهم وأوصافهم..؟ فأقول وبالله التوفيق:
إنهم رجال ليل… ذوو لوعاتٍ وزفرات… وأَنَّاتٍ وعَبَرَات… ودموع سافحات… وأشواقٍ حارقات… وآلامٍ صارخات… وأحزانٍ كاويات… وألسِنَةٍ ضارعات… وأَكُفٍّ مرفوعات… للرحماتِ مستنـزلات… وللألطاف الإلهية راجيات…
بأنفاسهم يتعطَّر الليل… وبوجودهم تحت جناحيه… يأنس ويطرب… وبركعاتهم بين جنبيه إلى ربِّه يتقرَّب… جنان الخلد إليهم شَوَّاقات… وعيون الحور العين إليهم رانيات… ولهم منتظرات… أبصارهم نافذات… وبصائرهم كشَّافات لَمَّاحات… تلمح البعيد… وترى “ماوراء” الآفاق… وتستشرف مستقبل الأقدار… وما يأتي به الليل والنهار…
إنهم أوتاد الأرض… ورواسيها الشامخات… من دونهم تترنح الأرض… ويصيبها الدوار… ويعمّها الاضطراب…
إذا ما غابوا… غاب الأمان… ونصب الخوف راياته في كل مكان… وعلى الأرض تُصَبُّ البلاءات صبًّا… إنْ لم يأتوا الكعبة أتتهم… وفي صلواتهم وافتهم… وأمامهم انتصبت… وقُدَّامهم وقفت… تزيدهم أشواقًا… وخشوعًا وإخباتًا…
بهم تندى الأسحار… وبدموع أرواحهم تتساقى الأرض كؤوس الوجد والاشتياق… إذا ما استمعنا إليهم شعرنا بأنَّ عالَمًا جديدًا يُخْلَقُ فجْأةً في أرواحنا… فهم يودعون في أرواحنا من الأسرار ما لا نجسر على الإسرار بها حتَّى لأنفسنا… نتشرب دموعهم قبل أن تجفَّ عن أجفانهم…
إنَّ أوتار حياتنا تظل ساكنة إلاَّ إذا حركتها كلماتهم، ولامستها أنامل أذهانهم… إننا إذْ ننحني أمام سمُوِّ أرواحهم، وعلوّ أفكارهم، ينحني معنا الذكاء البشري المتواثب إلى الأعالي، والتوّاق إلى استرداد الروح من أعاليها الماورائيات وسماواتها الصافيات، وآفاقها النقيات…
إذا قلوبَنَا أعطيناهم، استودعوها أرواحهم، وملَّكوها بصائرهم… لنرى برؤاهم، ونبصر ببصائرهم، وننهل من معين معارفهم، ومن ينابيع علومهم…
إنهم إذا لحظوك غيروك، وبالآخرة ذكَّروك… وإنْ كنتَ في هبوط انتشلوك… أوكان قلبك بغير الله مشغولاً أفرغوه ثم بذكره أترعوه…
عقولهم بأجنحة الروح تجوب الزمان، وتستقرِئ الأكوان، وتحمل الإنسان بعيدًا في الزمان، لتلقيه في غوالب لُجَّهِ، وغوامر موجه، ثم لتذيقه بعد ذلك من شراب الخلود، وتسقيه من كأس السرمدية رشفات…
وإن كانت عيناك بضباب الأرضيات محجّبتَين، أزاحوا ضبابهما، وحَدُّوا نظراتهما، فبصرتَ واستبصرتَ، ورأيتَ الملْك والملَكوت قائمين بقوامة الله وقدرته…
إذا نطقوا انْثال نطقهم فكرًا جليلاً، وحكمةً مُصَفَّاة… يفسرون لك لُغْزَ الكون، ويعلّمون طريقك في الدنيا والآخرة… الأنوار في أرواحهم ينابيع دَفَّاقة، تغسل الإنسان من الأدران، وتطهّره من الأرجاس… إنْ بَرُدَ وُجْدَانُكَ أَوْقدوه، وإنْ أظلم أناروه… ماء الجمال والبهاء يتقطّر من أردانهم، ويفيض من وجوههم… باعث حزن وشجن في أصواتهم إذا تكلّموا… تسابيحهم في الليالي وَجْدٌ وأشواق، وصلواتهم ضراعات باكيات، يخافون أن يكونوا من أهل الغِرَّةِ بالله، ويشفقون أن تُرَدَّ عليهم أعمالهم، ولا تُقبل تضرعاتهم.. حشاهم في نيران الوجد مذاب، وأفئدتهم مسيل دفَّاق، تشرب منه الأكباد الحرَّى، والأرواح العطشى… إنهم قوى مشعّة تنفذ في الإنسان، فتحرك سواكنه وتحيي مواته…
إنهم الغيث المغيث لمجدبات الأرواح، وقاحلات العقول… وعيون غيوثهم لا تنضب أبدًا، وعطاؤهم لا يتوقف عند حد… صلاتهم فناء بالله، وبقاء به، فهم بين فناء وبقاء… في غدو ورواح، على منابع أرواحهم يرِد العطاش، ومنها ينهلون، ووقدات نيران عشقهم جذوات لبُرَداء النفوس وشواتي الأرواح…
يضربون في فيافي الإنسان وفي قفاره، يتسمعون إلى أسى ترانيمه المنبعثة من ضنى القلب ووجع الروح، فتمتدّ أيديهم لتمسح القلوب، وتُطبَّ الجروح…
إنهم للأرض ربيع دائم، وللإنسان غمام هاطل… وإنهم في المكان الأعلى من سلم البشرية، يكفِّرون بأحوالهم عن خطايا جنس الإنسان…
وإنْ كنا عاجزين عن بلوغ قممهم، فلا أقلَّ من أن نحبّهم وندين لهم بالولاء…
فـ”القلوب الضارعة” جدْول رقراق، وماء زلال، لعطشى الأرواح وظامئي القلوب.. “القلوب الضارعة” أَنَّات أرواح، وتوجُّعات أفئدة، ترتفع عاليًا مستجدية الرحمة والغفران.. “القلوب الضارعة” أشواق أمّة، وضراعات إيمان.. “القلوب الضارعة” دعْوة للعجز الإنساني كي يلتجئ في عجزه إلى قدرة القادر القدير، وقوّة القوي المتين.. “القلوب الضارعة” طرقات قلوب وأرواح على أبواب رحمة الرحمن الرحيم.. “القلوب الضارعة” مدخل عظيم للتعرّف على الله تعالى في علُوّه عن خلقه، وفي قربه منهم في الوقت نفسه..
إذا كان الدُّعاء مخّ العبادة كما ورد في الحديث الشريف، فإنّ “القلوب الضارعة” هي عصارة العبادات جميعًا.. يا شجيّ الروح، ويا جريح الفؤاد..! دعْ “القلوب الضارعة” تأخذ بيدك إلى حيث اليدُ الآسية، والرحمة السابغة.. يا مُقْفِر القلب، يا مُجْدِبَ الروح..! خُذْ “القلوب الضارعة” غيثًا لقلبك، وخصبًا لروحك.. إنْ كنتَ بعيدًا عن الله، فغُصْ في “القلوب الضارعة”، يأْتِكَ القربُ.. وإنْ كنتَ مستوحشًا، فادخلْ عالَم “القلوب الضارعة” يأتِك الأُنْسُ.. وإن كنتَ مذنبًا، فبِماء “القلوب الضارعة” اغْتسلْ لتتطهّرْ…
Leave a Reply