لما كان نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام ينحدر من الأرض التي تتوزع اليوم بين شمال العراق وجنوب تركيا، فقد كان أسوة مضاعفة لأهل الخدمة الذين نبتوا في بلاد تركيا في الليالي السود، وخرجوا منها كالعنقاء، حيث بدا أنهم حاولوا التأسي به واقتفاء آثاره في أمور كثيرة، ولذلك أطلقنا عليهم مصطلح “الإبراهيميّين” في هذا المقام.
إن الإبراهيمية واضحة في أفكار وأفعال أبناء الخدمة بسفورٍ شديد لمن كان له بصر أو بصيرة، فإن هذه القضية حاضرة بقوة في تكوينهم، وليست مجرد تأثر غير واع، فها هو مؤسّس ومُوَجِّه هذا التيار ومنذ وقت مبكر يلفت أنظارهم إليها، حيث تَحدّث عن بطولات الصحابة الكرام وتضحياتهم في سبيل هداية الناس، عبر حملهم رحمة الإسلام إلى العالمين من خلال فتح القلوب “بجمال الإسلام وكونه مطابقًا للفطرة والعقل”، ولا ينسى أن يلفت الأنظار في هذا السياق إلى المنهج الإبراهيمي، إذ وصف هؤلاء الصحابة الفاتحين بأنّهم: “كانوا يتمتّعون بروح إبراهيمية وفهم إبراهيمي، لذا تركوا حتى زوجاتهم ونساءهم…. بمثل هذه الروحية نظموا أيامهم وأوقاتهم وزمانهم. وعندما جاء يوم التضحية لم يتردّدوا في التضحية بكل شيء، وقاموا بعمل ما يجب عليهم على الوجه الصحيح.
إن المتأمّل في خصال خليل الله إبراهيم عليه السلام كما أوردها القرآن وكما أكّدها التاريخ الصحيح، والمقارن إياها بخصائص تيار الخدمة، يلاحظ بدون أدنى عناء وجود تشابه كبير بينهما في كثير من الموضوعات والمفردات، ويمكن إجمال أهم أوجه التشابه في النقاط الآتية:
أولاً: الانغماس في تِبْر الخدمة
ليست الخدمة جوهر التيار الذي أسّسه كولن فحسب، بل هي عنوانه منذ البداية، حيث أن حضور هذا التيار الكبير في الشارع التركي تم دون اسم كبير أو عنوان عريض، كما هي عادة الحركات والتيارات الإسلامية في هذا العصر الذي طغت فيه العناوين على المضامين، واهتم المسلمون فيه بالشعارات أكثر من الأعمال، وبالانفعالات على حساب الفاعليات.
المتأمّل في خصال إبراهيم عليه السلام كما أوردها القرآن وأكّدها التاريخ الصحيح، والمقارن إياها بخصائص تيار الخدمة، يلاحظ بدون أدنى عناء وجود تشابه كبير بينهما في كثير من الموضوعات والمفردات.
لقد اعتبر مؤسس هذا التيار فتح الله كُولَن تلاميذه خدّامًا لدينهم ووطنهم وأمّتهم وإخوانهم في الإنسانية جمعاء، ولهذا عُرف هذا التيار بـ”تيار الخدمة”، وهو أكثر الأسماء تعبيرًا عن مضمونه في هذا العصر.
هذا العنوان (الخدمة) بقدر ما يدلّ على تواضع كُولَن، فإنّه يدلّ على جدّيته الكاملة؛ فالسنبلة الممتلئة لا تشمخ بأنفها إلى السماء وإنما تنحني تواضعًا بعكس السنبلة الفارغة، والإناء الفارغ أكبر ضجة وأعلى صوتًا من الإناء الممتلئ.
الجدير بالتذكير أن نبيّ الله إبراهيم عليه السلام مثل سائر الأنبياء والمرسلين، إنما جاؤوا لخدمة الخلق ورحمة من الله بهم، فإن كل الرسالات السماوية جاءت من أجل الإنسان لتوفير معاشه الدنيوي وسعادته المادية، وتحقيق فوزه الأخروي الذي لا يتم إلا بإشباع حاجاته الروحية والنفسية في الدنيا، غير أن إبراهيم عليه السلام تفوَّق على أكثر الأنبياء في هذا الأمر؛ لأنه أحد أولي العزم الخمسة من الرسل، فكيف لا وهو خليل الله، ويعرف تمامًا أن الطريق إلى الله يمرّ عبر خلقه؟!
ثانيًا: الانغراس في ثغور التربية والتعليم
خليل الله إبراهيم عليه السلام هو أب الأنبياء ومرسي دعائم ملّة الإسلام الحنيفية، فقد دعاه الله إلى الإسلام، فاستسلم على الفور، واعتنق الإسلام بكُلِّيته: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(البَقَرَة:131). وعلى الفور دعا إبراهيم عليه السلام أهله وأحباءه ومعارفه إلى هذا الدين وربّاهم عليه: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(البَقَرَة:132).
ولم ينحصر الاهتمام التربوي عند إبراهيم عليه السلام على من عاصرهم، بل كان مهمومًا بالأجيال القادمة التي يراها من وراء حجب الغيب، حيث دعا الله بأن يهيّئ لها من يدعوها ويعلمها ويربيها، قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(البَقَرَة:129)، وتلاوة الآيات هي الدعوة والهداية، وتعليم الآيات من الواضح أنه التعليم، أما التزكية فهي التربية، لأنها تشمل مرحلتي التربية، وهي التخلية والتحلية، فالتزكية تأتي بمعنى التطهير وبمعنى الزيادة.
أما بالنسبة للإبراهيميين الجدد فإن شغلهم الشاغل هو التربية والتعليم، ولخطورة هذا الأمر فإنهم يجعلونه الفيصل في تحديد مستقبل بلادهم وبلدان المسلمين، كما يقول الأستاذ فتح الله كولن: “وإذ ندخل إلى عتبات القرن الحادي والعشرين، فإن مستقبل بلادنا والبلاد المرتبطة بشؤوننا منوط بعُقبان النور ذات أجنحة الضياء الذين يُعَدُّون ممثلين سامقين للعلم والفضيلة والأخلاق في أيامنا، والذين نذر أكثرهم نفسه للتربية والتعليم. وستكون هذه الأجيال المباركة الرائدة -إن شاء الله تعالى- أصواتًا من النور وأفكارًا من الضياء تصفي حساب شعبنا مع العصر، زيادة على ريادتها في اكتساب قيمنا التاريخية مجددًا”.
ثالثًا: التفاني في الدعوة والجهاد الأبيض
كان الخليل إبراهيم عليه السلام نبيًّا ورسولاً، وكان داعية كبيرًا ومصلحًا عظيمًا، مارس الجهاد بكل صوره السلمية البيضاء، تحمل المسؤولية نحو الناس، وبدأ بالأقربين، كأبيه الذي أصرَّ على كفره، فحاول معه مرارًا، مستخدمًا كل الأساليب المؤثرة التي تبرز مدى حبه له وإشفاقه عليه، كقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾(مَرْيَم:41-45).
اقتداءً بالخليل إبراهيم عليه السلام، تولى فتح الله تعليم تلاميذه التضحية في طريق نشر النور، ولاسيما في العقود الأولى من دعوته.
واقتداء بالخليل إبراهيم عليه السلام، تولى فتح الله تعليم تلاميذه التضحية في طريق نشر النور، ولاسيما في العقود الأولى من دعوته، إذ كانت ظروف تركيا الكمالية لا تسمح إلا بالقبض على الجمر، فحملوها ليضيئوا العتمة للأتراك، فكانت النار لهم والنور للشعب، ونالهم “الغرم” خلال سنوات العلقم ووزعوا على الناس “الغُنم”، وقد أعانهم على القبض على الجمر يقينهم أنها ستنجيهم من جمر الجحيم وسوادها، وستدفع بهم نحو الولوج إلى جنان الله الوارفة الظلال.
رابعًا: اعتماد منهج الحوار في سبيل الحق والخلق
أبرز القرآن الكريم خليل الله إبراهيم عليه السلام في مجال محاورة قومه ومناظرتهم، بحيث فاق كل الأنبياء في هذا المجال، إذ استخدم الحجج العقلية والأدلّة الفطرية والمشاعر القلبية لإقناع الخصوم والمجادلين بما يريد إيصاله إليهم من وحدانية الله، ووجوب الإيمان به وعبادته.
وهذا ما سار عليه فتح الله كولن، فقد ظلت الكلمة عدَّته الثمينة، فهي سهمه الأخطر الذي نَفَذَ به إلى القلوب، وسلاحه الأقوى الذي دمّر به الموانع التي حالت دون اهتداء كثير من الجوعى إلى بستان هذا الدين.
وقد اهتمّ كولن بالأدب، وبالغ في مدحه، وحث على الاستفادة منه في الجهاد الأبيض ومعركة التبليغ وإيصال رحمة الله إلى الناس. وكذلك الشعر كوسيلة من وسائل البلاغة والبيان وإيصال الهداية عبر قوالب الكلمة الجميلة الساحرة.
خامسًا: التحلّي بالفضائل العابرة للقلوب
كل الأنبياء اصطفاهم الله، وأدَّبهم فأحسن تأديبهم، وكانوا منارات سامقة في الأخلاق، وخليل الله إبراهيم عليه السلام من أعظمهم في هذا المجال؛ ففي خلق الطاعة دَلَفَ إلى محراب التضحية، فاستجاب لرؤيا منامية تأمره بذبح فلذة كبده “إسماعيل” الذي جاء في خريف العمر بعد انتظار طال أمده، حيث اسْتَلَّ ولَدَه من حضن أمّه وذهب به إلى الرمال الحارقة خارج مكة، وأعدَّ كل شيء لإتمام عملية الذبح، حتى إذا هوى بسكّينه فوق رقبة ابنه الوحيد وتأكد نجاحه في الابتلاء، جاء الفداء الربّاني بكبش “عظيم”، كما أورد القرآن، ليكافئ تلك التضحية “العظيمة”.
وهذه الفضائل العالية والقيم النبيلة تجسدها دعوة الخدمة أفضل تجسيد، مما مكَّنها من الولوج إلى قلوب الملايين خلال فترة زمنية وجيزة.
فالأخلاق عمومًا عند فتح الله كولن “هي التي تُحوّل الصدئ.. إلى معدن ثمين ومفيد كالذهب”.
اهتمّ كولن بالأدب، وبالغ في مدحه، وحث على الاستفادة منه في الجهاد الأبيض ومعركة التبليغ وإيصال رحمة الله إلى الناس
وحول الأخلاق سطَّر أحرفًا من لؤلؤ وصاغ كلمات من ذهب، كما في خلق المسامحة والصفح والعفو، حيث يقول مثلاً: “وفي الحقيقة ليس أمام الشفقة والرحمة باب مسدود لا يمكن فتحه. فجبال الثلج التي لا تُذوَّب بالشفقة والرحمة لا يُذوِّبها شيء قطعًا”، وحتى لا تكون التعابير الجميلة مجرد إنشاء لا يستقيم عوده، ولا يصير له ظل من الحقيقة، فقد أوضح مقياس العفو والسماح وحدودهما عند المسلم.
سادسًا: التغرُّب والرحلة لخدمة الخلق
من المعلوم أن خليل الله إبراهيم عليه السلام عندما عجز عن تعبيد الناس للحق وخدمة الخلق في بلاد الرافدين، أطلق صيحته المدوية، كما سجّلها القرآن الكريم بأحرف من نور: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾(الصافّات:99)، هذا الذهاب هو الهجرة في سبيل الله إلى بلاد الشام وجزيرة العرب، وهو ما عبَّرت عنه الآية القرآنية التي تقول: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(العَنْكَبوت:26).
إن فتح الله كُولَن صاحب فكر عالمي ينافس العولمة الغربية التي تقوم على الأثرة والجباية والاستغلال، وعلى الإكراه والقسْر والإلحاق، تحت شعارات برّاقة مخاتلة.
وبسبب ما يعانيه البشر من ويلات وخاصة المسلمين، فقد استشعر كولن المسؤولية، وأعد تلاميذه الإبراهيميّين للمساهمة في بلْسَمة الجروح، ورَتْق الفتوق، وجَبْر الكسور، وتربية العقول، وإصلاح مناهج التفكير، وإصلاح ذات البين، وإغاثة الملهوفين، ومساعدة المحتاجين، وإيواء المشردين، ومداواة المكلومين.
لهذا كله هاجرت كتائب الخدمة من تركيا إلى أكثر أصقاع العالم، يحدوها الأمل في أن تساهم في الإجابة عن أسئلة الحيارى، وفي البحث عن مخارج للمآزق الاجتماعية المختلفة، وفي تبديد الظلمات الحالكات بمصابيح الهدى وقناديل الإيمان.
ورغم تغرب أبناء الخدمة عن بلدهم الجميل في مجاهل آسيا وأدغال إفريقيا، وفي صقائع أوربا ومفاتن أمريكا، إلا أنهم لا يشعرون بالغربة. فقد علَّمهم أستاذهم أن الغريب ليس الذي ابتعد عن وطنه وبيته وأصدقائه وأحبّائه، بل هو الذي لا يفهم الناسُ مَبادءَه العالية وتضحياته الغالية، والذي يقع كثيرًا في تناقض مع قوانين مجتمعه؛ بسبب همّته العالية، فيتعرض للأذى واللوم والاستنكار.
وقد قرر كُولَن بهذا الصدد أن “من كانت هِمَّتُه أُمَّتَه فهو لوحده أُمّة”. ولذلك لم يجد عشرات الآلاف من ورود تركيا غضاضةً في الانتقال إلى بلدان مليئة بالأعاصير وبالأشواك من مختلف الأصناف، وأقل هذه الأشواك مكابدة الأشواق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Leave a Reply