1
هذا الدين صَنَعَ أُمَّة، وشكَّل تاريخًا، وأَقام حضارة، وأَنشأَ أخلاقًا وسلوكًا، وجمالاً وأذواقًا، ووجدانات رفيعة، وعقولاً حصيفة، وخيالاً واسعًا، وشعرًا وأدبًا، ولغة صافية مهذّبة.
فالتاريخ عند هذه الأمة هو بعض نفسها، وجزء من روحها وقلبها وفكرها… تتراءى في مرآته، وتتجلّى على صفحاته.. ودينها كذلك يتراءى أكثر ما يتراءى في البطولي والإعجازي والأخلاقي من تاريخها.
فالتاريخ والدين وجْهان لهذه الأمة، يحضران معًا، ويلتقيان في أقلام الكاتبين عن دينها، والكاتبين عن تاريخها؛ لأنه لا يُفْهَمُ دينها إلاَّ على ضوء تاريخها، ولا تاريخها يُفْهَمُ من غير دينها، فهما متداخلان متنافذان، ووجودان يشكّلان وجودًا واحدًا… وقد كان هذا الاندماج بين الديني والتاريخي سببًا في نشوء واحد من علوم القرآن باسم علم “أسباب النـزول” الذي يُعْنَى بأسباب نزول آيِ القرآن الكريم.. وارتباط هذا النـزول بوقائع وأحداث حياتية وتاريخية للأفراد والجماعات والأمم للاستعانة به على فهم القرآن الكريم والإحاطة بِمَدلولاته ومقاصده في الآية الواحدة أو الآيات الكثيرات، وإنْ كان الاعتبار الأول لعموم اللفظ وليس لخصوص السبب كما يقول علماؤنا.[1]
وأودّ أن أشير هنا إلى أنَّ هذا التاريخ على امتداده وسعته قاصر عن استيعاب متطلبات دين هذه الأمة التي تتجاوز كُلَّ حدود، ولا تقف عند حدود. ففي قدرة هذا الدين أن يصنع تاريخًا جديدًا برموزه ورجاله وأبطاله عندما يخلو أيُّ زمان من أزمنة هذه الأمة منهم.
فتاريخ هذه الأمة مصنوعُ دينها، ولمّا كان مادة أيّ تاريخ هو الإنسان، ولمّا كان الإنسان ليس بكيان ثابت غير متغير، بل هو مشروع تجربة وتغيير في كل حين.. لذلك فإنَّ إنشاء هذا التاريخ بإلهامات الدين في هذا العصر أمر ممكن إذا توفّرت الإرادة والفكر التجديدي القويم، لاسيما وأنَّ في داخل كل إنسان طاقة دافعة باتجاه التغيير والتجديد.
وقد التفت الأستاذ “فتح الله كُولَن” أحد مفكري هذا العصر إلى هذه الخاصية في هذا الدين، فدعا ولا زال يدعو إلى أن تكون للجماعة المؤمنة في هذا العصر أبطالها ورموزها ونماذجها، ليس بالضرورة من أجل أن ندير ظهورنا لرموز تاريخنا وأبطاله الماضين، بل استجابة لحيوية هذا الدين التي لا تتوقف عند زمان دون زمان، بل لا بدّ لكل زمان من “تاريخ مصغّر” له أبطاله ورموزه ونماذجه التي تضيء وتتألق وتكون للأجيال من خلفها حافزًا وملهمًا، حيث يمكن معاينتهم على الطبيعة، ومقاربتهم والإحساس بهم كبشريّين من لحم ودم يتحركون بيننا، وليس كأشباح يطلّون علينا من بطون التاريخ البعيد.[2]
و”كولن” إذْ يضع أُذُنَهُ على قلب الجماعة المؤمنة يحس بنبضات هذا القلب وتطلعاته إلى استمرارية تدفق هذا التاريخ في جميع الأزمنة.. فلا يتوقف عند حقبة من حقبه، ومهما تكن إمكاناتهم متواضعة غير أنهم راغبون بأن يجعلوا من أنفسهم جسورًا يعبر التاريخ من فوقها ويتّخذ منهم أبطاله ونماذجه ورموزه لهذا العصر، وهم إذ يفعلون ذلك يبلغون أسمى أهدافهم في خدمة دينهم وتاريخهم على حد سواء.
إنَّ من أكثر الأقلام أمانةً هي الأقلام التي تكرّس نفسها لتنشيط هذه الأمة وتحفيزها وتحريك طاقاتها، والأخذ بيدها لتحتلّ موقعها الحضاري بين حضارات العالَم، وموقعها الفكري بين أساطين مفكّري الدنيا… وذلك من خلال تعميق إدراكها بالمعنى الإلهي للحياة ولغاية الوجود كما يراها دينها.. وهذا المفهوم الإلهي للحياة والوجود وإنْ كان في ظاهره يعني هذه الأمة دون غيرها، غير أنه في المحصلة النهائية يعني كذلك قضية الجنس البشري برمته.
فالاستمتاع بالحياة ومعايشتها بكافة أبعادها، والاحتفاء بها، واحترامها، والنظر إليها بعين القداسة، من ركائز دين هذه الأمة… وهي بذلك تخالف المفهوم المأساوي والإحباطي الذي يدين به رجال الفكر السَّوداويّون.. فرجال هذه الأمة حتّى أولئك المضطجعون في قبورهم تفصح آثارهم على أنهم عاشوا في قلب الحياة الفوَّار والموَّار بقوى الخلق والإبداع والتجديد، وأنهم نسجوا خيوط مصائرهم بأيديهم، فبلغوا من العظمة الإنسانية حدًّا غدا مناط تقدير رجال الفكر العالميين.
فعلينا أن نكون على وعْي بأنَّ “المسلم” هو طاقة زمانية ساكنة، وأنه يمكن أنْ تتفجر في كل مرحلة من مراحل الزمن، إذا هي وجدت مَنْ يحسن إشعال فتيل تفجيرها.. وعندها سوف يصبح الكون نفسه أضيق من أن يستوعب وثبات ذهنه، وانطلاقات روحه مسجّلاً بهذه الوثبات والانطلاقات مرحلة من مراحل تاريخ العالم، فيظلُّ المؤرخون يحسُّون بحرارتها عبرَ الأجيال جيلاً بعد جيل.
إنهم الصفوة المستنيرة، والطليعة الوثَّابة، تقذف بها إلى شاطئ الإمكان أمواج الزمن لتمسك بزمام إحدى مراحل تاريخها، ولترسم واحدة من صور البطولة المعيشة على أرض الواقع، ويكونون بذلك شهودًا على مرحلة من مراحل تاريخ أمّتهم، وهم جديرون حقًّا بميراث أمّتهم الديني والتاريخي لقدرتهم على جعل هذا الميراث يؤتي ثمارًا جديدة. فعظمة أيّ تاريخ إنما هي من عظمة الروح التي تحرك أحداثه ووقائعه، وتدمغها بطابع الأبد؛ وسيّئات أي تاريخ إنما هي سيئات الجسد وقصر النظر، التي أحلامه لا تتجاوز الساعة واليوم والشهر والسنة.. فما نحتاجه اليوم للخروج من محبس الزمن الخانق إلى طلاقة الخلود، إنما هو شهامة في القلب، وجذوة في الروح، وذكاء في العقل، وهمة قعساء، وإرادة شمَّاء، وغيرة على الحق، وتشبث بالعدل والخير والجمال.
[1] على سبيل المثال لا الحصر:
* ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾(الفِيل:1-5)
* ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾(قُرَيْش:1-4).
* ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾(الْمَسَد:1-5).
* ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾(الرُّوم:1-3)
* ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(الأَنْفَال:67).
[2] “إن هذه الحركة ظاهرة يجب أن تُشرح ويتم الوقوف عندها بشكل جدي.. فَقَدْ قررت فئة قليلة ملك الحب قلبها أن تنطلق لنيل رضاه تعالى إلى المشرق وإلى المغرب وإلى أرجاء الأرض جميعًا في وقت لم يخطر هذا بخاطر أحد.. انطلقت دون أن تهتم بآلام الغربة وبفراق الأحبة، ملؤها العزم والثقة… طوت في أفئدتها بعشق خدمة الإيمان لواعجَ الفراق، وَحُبَّ الوطن، وآلامَ فراق الأهل والأحبة… قليل من الناس شعروا مثلهم وعاشوا الجهاد في سبيل الله مثلهم… وقالوا وهم ينتشرون في المغرب وفي المشرق مثلما قال حواريّو الرسل: خُضْنا دروب الحبّ، فنحن مجانين…”. (من مقال: “حرَكة نماذجها من ذاتها”، للأستاذ فتح الله كولن.)
Leave a Reply