ظلت “حراء” تستدعي الأقلام الحرة والحارة للكتابة على صفحاتها، لتسهم هذه الأقلام بإذابة الجليد المتراكم على الأذهان منذ الشتاء الحضاري الذي اجتاح الأمة في عصورها المتأخرة. فالقلم الحار والمتلهب ضرورة من ضرورات المرحلة التي تمر بها الأمة اليوم. وعلى الرغم من بوادر استيقاظها، إلا أنها لا زالت تعاني من قشعريرات البرداء الفكرية والوجدانية وحتى الرّئْيَوِيّة والخيالية.
فنحن في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عبقريات ذهنية تتخطى نمطيات الفكر التقليدية، وتخرق الحواجز الجليدية التي لا زالت تجد مَن يغذوها بالمزيد من الأجواء الشتوية المقرورة. ولقد آن للقلم البارد المتثلج أن ينكسر وينحسر عن الأجواء الثقافية الحاضرة، وأن يتوقف عن الكلام المكرور والمعاد الذي قد لا يزيد أحيانا عن نوع من أنواع الثرثرة المقرفة.
ففي هذا الزمان الراكض المتسارع لم يعد بوسعنا المزيد من الانتظار لكي نفتّش بين أكوام القَش عن درة هنا، أو درة هناك. فالفكر إذا لم يكن كله دررًا، وكله وهجا، وكله قوة فاعلة، وطاقة متفجرة، فإنه لا يثير اهتماما ولايحفز فكرا.
فالكلمة الحارة لا تتأتّى إلا من ذوي الأرواح الحارة، والنفوس الإفاقية العالية، الذين يحترقون بأفكارهم، ويلتهبون بأشواقهم، فإذا تكلّموا أحرقوا هشيم النفوس، وأذابوا جليد الأرواح، وأضاءوا عيون الرؤى، وفتحوا منافذ الخيال، وأضافوا جديدا، وجدَّدوا عتيقا.
فالأستاذ “فتح الله كولن” هو واحد من هؤلاء المفكرين الأفذاذ الموصوفين بهذه الصفات. وأنا لا أقول هذا في معرض مدح أو مجاملة أو تقرّبا إلى أحد، أو استرضاء لأحد، ولكني أقوله عن قناعات تكوّنت عندي خلال ما يقرب من عشر سنوات من القراءة والدرس لكتابات الرجل في مقالاته وخطبه وكتبه… ولعل هذا هو سرُّ حرص “حراء” على جعل مفتتح كل عدد من أعدادها مقالا من مقالاته، لما تتلمسه من أصداء هذه المقالات وأثرها في نفوس قرّائها وفي أفكارهم.
فالأستاذ “فتح لله” بقلمه الحاد الوهاج، لا زال ينكت في أكوام التجمد الحضاري لهذه الأمة، ويتعمق في فجاج فكرها، ودخائل ضميرها الديني، وهو يرسم بقلمه سعة الأفاق الفكرية التي يريدها أن تتطلع إليها، وتستشرفها، وتسعى اللارتقاء نحوها.
وهو يظل يرصد أوجاع الأمة وجعا من بعد وجع وألما من بعد ألم، ويتلمس عذاباتها في غربتها عن نفسها وتنكرها لجوهر ذاتها، فيتألم لها، ويتوجع عليها، ويرسل في كل كلمة يخطها قلمه أنّة من أنات روحه، وقطرة دم من نزيف فؤاده… ولكنه مع ذلك يرى أن أوجاع الأمم كلما ازدادت، وآلامها كلما اشتدت، كان أمل خلاصها أقرب منالا وأدنى توقعا.
وفي بوتقة فكره ينصهر الألم والأمل، ويمتزج سر الأرض بسر السماء، ولهب الروح بماء الدمع، والأسى الممض بالفرح الوقور، والإرادة بالعمل، والقول بالفعل، والعلوم الأرضية بالمعرفة الإلهية، والفناء بالبقاء، والزوال بالأبد، والخلود بالعدم… كل هذه المعاني ودلالاتها وأبعادها في نفس الإنسان، تتصارع وتتجاذب في عقله. ولا تجد لها متنفّسا إلا من خلال قلمه حين يكتب،. وعلى لسانه حين يقول أو يخطب.
فمن كانت هذه المعاني والمدلولات، تشغل عقله، وتستولي على لُبِّه وتملأ كل وقته، لا جرم أن تأتي كلماته حارة دافقة الحرارة، لاهبة للنفوس شديدة اللهب، مثيرة للمشاعر، حافزةً للتفكير، جاذبةً للتغيير، عاملةً ناصبةً وامضةً قادحةً، مشعلةً أُوَار القلوب، صاهرةً أوثان العقول، داعيةَ وحدة وتوحيد، وراعيةَ أمة، وموقظةً من غفلة، ومعليةً من شأن ورافعةً من قدْر.
فالكاتب الذي لا يسقي كلماته لهب روحه، ونزيف قلبه، ليس هو بالكاتب المطلوب للنهوض الحضاري المرتقب.
والكاتب الذي يخاف الولوج إلى ذلك الغور السحيق من آلام روح الأمة وشقائها، ولا يسعى لإنقاذها من تردّيها الماحق، فهو كاتب لاهٍ يلهو بقلمه ولا يجد به.
والكاتب الذي لا يعيش أيامه في بحران من التفكر في أحوال الأمة، فهو كاتب بارد متثلج لا يصلح ليكون كاتب قضيّة يدعو إليها ويدافع عنها.
فنحن -في الحقيقة- بحاجة إلى أقلام تشق في العقول روافد أفكار، وتشعل فيها حرائق ثورات، وتزلزل أركان الجمود، وتفجر في القلوب ينابيع أشواق، وتأخذ بالأيدي إلى العمل، وتقود الجموع إلى المستقبل المأمول، والمجد الحضاري المطلوب.
Leave a Reply