لو أعطيتني الدنيا كلَّها.. لو توجتني ملِكًا عليها.. لو ملَّكتني زمام أمرها.. لو طويتها ووضعتها في جيبـي.. لو حملتها على طبق وقدّمتها على مائدة روحي.. لو اعتصرتها في كأس وجعلتني أتحسَّاها حتى الثُّمالة… فإنك -في الحقيقة- لم تفعل شيئا، ولم تعطني سوى قبضة ريح، وحفنة تراب، لا تلبث أن يلفها الزوال ويطويها العدم؛ بينما يظلُّ لهيب الشوق في أرجاء نفسي مستعرًا، وصراخ الجوع إلى خبز الخلود يهزّ أسماع الفضاء، ونازع الفطرة إلى البقاء والأبد يهيج في الروح نواحًا كنواح الثكالى.
أبو الأنبياء إبراهيم ، صرخ بوجه الكون: ﴿لاَ أُحِبُّ اْلآفِلِينَ﴾(الأنعام:76).. امْض عني.. تَنَحَّ عن طريقي.. لا أريدك.. ليحترق العالم كله.. ليتحول إلى رماد.. ليطوه الفناء.. فليس هو من همّي، وليس هو مطلبي.. مطلبي “مكوّن الكون ” .. مَحبتي لـ”من لا يزول ”.. قلقي بـ”مَنْ لا يفنى ولا يموت ”.. عبوديتي لـ”أبديّ البقاء ”. يقذف به النمرود بالمنجنيق، يدركه جبريل وهو يهوي نحو النار المتأجّجة فيقول له: “ألَك حاجة؟” فيردّ أبو الأنبياء: “أمّا إليك، فلا!”.. يقول جبريل: “سَلْهُ ”، أي سل الله حاجتك. يقول إبراهيم : «عليم بحالي، غَنِيُّ عن سُؤالي»[1]. وفي الحديث: «لو قال: نعم لي إليك حاجة، لَمحي اسمه من ديوان الخلّة». النورسي يلخّص لنا هذا الموقف الإبراهيميّ بعبارتين فيقول: “تعلقْ أيها المسلم بالأبدي تتأبّدْ.. وصلْ أسبابك بأسباب الخلود تخلد”.
في المعراج يقول الله تعالى عن رسوله الكريم ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾(النجم:17).. رغم عظم ما شاهده صلى الله عليه وسلم من مظاهر الجلال والجمال في أرجاء الكون، فقلبه الشريف ظل متعلقًا بصاحب الجمال الأقدس والجلال الأعظم، ولم يلتفت طرفةَ عين إلى الفانيات الكونية، وبهذا حاز مرتبة المحبوبية والأقربية التي لم يحزها نبيُّ ولا رسولٌ قبله.
الشوق المضطرم في قلبك إلى معالي الأمور هو دليل حياتك… مَنْ يخلُ قلبه من الشوق يَمُتْ وإن بدا للناظرين حيًّا.. مَنْ لم يتحول الإيمان في قلبه إلى طاقة من الشوق إلى الله والمحبّة لرسوله، لا خير في إيمانه لأنه لا يأتي بخير.. لتكن نفوسكم توّاقةً إلى الخلود، وتوّاقةً إلى الجنة.. لترتفع ببصرها عن الفانيات الهالكات، ولتستشرف ببصيرتها على الباقيات الخالدات..
مجدد القرن الثاني الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بعد أن لم يبق فوق الخلافة والحكم منـزلة يتوق إليها: “إنّ لي نفسًا توّاقة، ما تاقت إلى شيء ونالته إلا وتاقت إلى ما هو أعلا منه… وهي اليوم شديدة التوق إلى الجنة”[2].
ويتوفّاه الله بعد هذا الكلام بأيّام.
لأجل الرسالة العظيمة التي يحملها المؤمن كان أفضل مخلوقات الله، وأنفس كائناته، وأحبهم إلى موجوداته… ففي الأثر: «إن الجبل ليقول للجبل: سعدتُ اليوم بخُطا مؤمن مشى فوق ظهري وسار بين شعابي.. وإن الأرض لتقول للأرض: شَرُفْتُ اليوم بسجدة مؤمن فوق ترابي.. وإن الشجرة لتقول ليت الذي يستظل بظلي ويأكل من ثمري لا يكون إلاَّ مؤمنًا.. وتقول حبّة القمح: ليتني لا أغذو إلاّ جسم مؤمن.. وتقول قطرة الماء: ليتني لا أروي إلاّ عروق مؤمن».[3]
في غسق هذه البلاد سطعتْ شمسُ إيمانكم.. فهبّوا امْلأوا الأقداح الظامئات من أنوار قلوبكم.. أعطوا ولا تأخذوا.. جودوا ولا تَبخلوا.. أرسلوا ولا تمسكوا.. تكاثروا، تزاحموا عندما يفزع الإيمان.. وانصرفوا راشدين عن مواطن الأجرة والجزاء.. هكذا كان أجدادكم “يكثرون عند الفزع، ويقلّون عند الطمع”.. كونوا عطاءً خالصًا لتحيوا.. الشجرة تموت حين تكفّ عن العطاء.. إيمانكم يضعف ويهزل إذا هو لم يعط من ذات نفسه…
لمن أنفاس الإيمان في صدوركم..؟ أليست هي هدايا الرحمن إليكم..؟ أليس لكل شيء زكاة..؟! فلْتكن زكاة إيمانكم مزيدًا من العطاء لفقراء الإيمان.. لتكن ذواتكم النورانية كنـزًا مبذولاً لكل المظلمين في كل مكان..
إن الأرض لتهتزّ طربًا لمس أقدامكم، وإن السماء لتندى ابتهاجًا بأصوات دعائكم.. والجنة نفسها ترنو إليكم رنو الوامق المشتاق من فوق سبع سماوات.. وملائكة الرحمن تستغفر لكم ما دمْتم في طاعة الله وفي نصرة دينه..
إياكم والصبوة إلى شهوات الدنيا وملذاتها، فإنها تطفئ جذوة الروح.. وتملأ القلب ظلامًا.. والبصيرةَ عمًى، فتحرمون الرؤية إلى حقيقة رسالتكم ومغزى وجودكم..
الحوار الآتي جرى يوما ما بين أستاذنا “النُّورْسي” وبين رفيقه وتلميذه “الملاّ رسول”… قال ملا رسول:
– على رِسْلِكَ يا أستاذي.. هوّن عليك.. أرحْ نفسك قليلاً.. فنحن كذلك نخاف الله ونخشاه.. أما أنت فتكاد مرارتك تنشقّ من خشية الله.. انْظر إلى إصبع قدمك كيف تقرَّح بسبب جلوسك الدائم وكأنك في صلاة لا تنتهي..!
يجيب الأستاذ قائلاً:
– يا ملاّ رسول..! لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة بهذا العمر القصير، والدنيا القصيرة.. أأعيش هنا كيفما أشاء وكما تهوى نفسي، وأنا أسعى إلى الجنة وأطلبها..؟! لا أجرؤ على العيش كما أهوى أبدًا..!
[1] الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي، 5 /400.
[2] فيض القدير، للمناوي، 3 /160.
[3] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام الطبري، 10 /267.
Leave a Reply