بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه، وبعد:

فليسمحْ لي القارئ الكريم أن أحدّثه عن عَلاقتي بفكر الأستاذ فتح الله كُولَنْ وأطروحاته الإصلاحية ونظرياته النهضوية… لقد عرفتُ اسم الأستاذ، ونزرًا يسيرًا عن شخصه الكريم؛ فحكمتُ عليه بأنه واعظٌ وشيخٌ صوفي مثل أولئك الذين نعرفهم في مختلف بلاد العالم الإسلامي، وبعد سنوات قليلة وقع في يدي كتاب لأستاذة أمريكية اسمها “ب. جيل كارول (B. Jill Carrol)” بعنوان رئيسي: A DIALOGUE OF CIVILIZATIONS، وعنوان فرعي:Gülen’s Islamic Ideas and Humanistic Discourse وترجمته العربية (حوار الحضارات: فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني) [1].

وجذب العنوان انتباهي، فعكفتُ على قراءته، فوجدتُ المؤلفة (وهي أستاذة في “جامعة رايس (Rice University)” تضع الأستاذ فتح الله كولن جنبًا إلى جنب مع كبار فلاسفة العالم مثل أفلاطون وكونفشيوس وكانط وميل وسارتر، ونحن في أقسام الدراسات الفلسفية نعلم أن هؤلاء يمثلون (مشيخة) الفلاسفة الذين عُنُوا عنايةً كبيرة بالإنسان فردًا وجماعة؛ وركزوا على الإيمان بأهمية الإنسان وقدرته ومكانته وسلطته؛ وهو إيمانٌ لا يتناقض بأيّ حالٍ (في رأي كارول) مع المعتقدات المحورية، أو مع تاريخ الديانات الموجودة الثلاث الكبرى. تقول المؤلفة:

“وفي ضوء ذلك، فإنني أصنّف كولن ضمن هؤلاء المفكرين الإنسانيين الآخرين، لأن أعماله -مثل أعمالهم- تركز على القضايا المحورية عن وجود الإنسان التي ظلت طويلًا جزءًا من خطاب الفلسفة الإنسانية سواء في شكلها الديني أو اللاديني. وبعبارة أخرى، إن هؤلاء الفلاسفة يهتمون بالتساؤلات الأساسية عن طبيعة الواقع الإنساني والحياة الإنسانية الصالحة والدولة والمبادئ الأخلاقية، كما توصّلوا إلى نتائج متشابهة في العديد من هذه القضايا والتساؤلات بعد دراستها والتفكر فيها ضمن السياق الثقافي والتراثي الخاص بكل منهم، والتشابه هنا لا يعني التطابق، فهؤلاء المفكرون قادمون من خلفيات وفترات زمنية وسياقات ثقافية ووطنية وتقاليد دينية وروحية شديدة الاختلاف”[2].

وقد تناولت المحاورة بين كولن والمفكرين الآخرين خمس مسائل فلسفية أساسية تتعلق بالإنسان وهي:

1- القيمة الإنسانية المتأصّلة والكرامة الأخلاقية.

2- الحرية الإنسانية.

3- الإنسانية المثالية.

4- التعليم والتربية.

5- المسؤولية الإنسانية.

لقد عرّفتْني الدكتورة كارول على مفكر تركي مسلم معاصر بهذه القامة السامقة الشامخة وبهذا التأثير المحلي والعالمي، فرُحْت أبحث عن كتبه ومحاضراته وأدرس آراءه وأفكاره ونظرياته فوجدته واعظًا دينيًّا ليس كبقية الوعاظ، ومفكرًا ومربيًا ومصلحًا ومجددًا وإنسانًا صاحب قلب وحال. نعم، وجدت كل ذلك في رجل واحد اسمه (فتح الله كولن) فأحببته، وصرتُ شغوفًا بكتبه ومنشوراته ومشروعاته.

هذا الكتاب:

أما هذا الكتاب الذي بين أيدينا فهو عبارة عن أربع دراسات لباحثين يعملون في الجامعات الغربية، ومقابلة صحفية مطولة أجاب فيها الأستاذ فتح الله كولن بنفسه عن بعض الأسئلة المهمة التي طرحت عليه.

وقد نشرت هذه البحوث والدراسات وأجوبة الأستاذ باللغة الإنجليزية في عدد تذكاري خاص من مجلة “العالم الإسلامي [3](The Muslim World)

جاء البحث الأول من هذا الكتاب بعنوان: “فتح الله كولن وأهل الكتاب؛ صوتٌ من تركيا للحوار بين الأديان” كتبه الأستاذان زكي ساري توبراك من جامعة (جون كارول- كليفلاند- أوهايو) وسيدني جريفيث من (الجامعة الكاثوليكية- واشنطن- د.سي- أمريكا).

طمحت الدراسة إلى إبراز أهمية الحوار بين الأديان بعامة (والأديان الكتابية بصورة أخص) في المشروع الفكري الإصلاحي للأستاذ فتح الله كولن. وذهب الباحثان إلى الجذور التي استمدّ منها كولن وتتلمذ عليها فأشارا إلى بعض أساتذته مثل: المجدد أحمد السرهندي، وشاه ولي الله الدهلوي، وجلال الدين الرومي، وبديع الزمان النُّورْسِي.

كما أظهر المفاهيم الإسلامية الأصيلة التي أسس عليها الأستاذ نظرته إلى الحوار بين الأديان مثل (الخلة الإبراهيمية والرحمة والمحبة… إلخ)؛ تلك هي القيم الإسلامية الصميمة التي استلهمها كولن في بناء رؤيته الرائدة للحوار بين الأديان.

يوضح الأستاذ أن الحوار أصبح أمرًا ضروريًّا محتَّمًا، ويقول:

“إن الإنسانية تمرّ الآن بعصر المعرفة والعلوم، وإن العلوم سوف تحكم العالم على نطاق أوسع في المستقبل، ولذلك فإن معتنقي الدين الإسلامي -بمبادئه التي يدعمها العقل والعلم- ينبغي ألّا يتشككوا أو يجدوا أية صعوبة في محاورة معتنقي الأديان الأخرى… وهو يرى أن الحوار ليس مجرد جهد إضافي تكميلي، بل هو أمر محتّم. ويعتقد كولن أن هذا الحوار هو أحد واجبات المسلمين في الأرض من أجل عالم أكثر سلامًا وأمنًا”.

أما البحث الثاني فكتبه توماس ميتشل س.ج من أساتذة الفاتيكان في روما. وعنوانه “التصوف والحداثة في فكر فتح الله كولن”.

جمع الأستاذ ميتشل بين أمرين مهمين بينهما اختلافات تبلغ حد التناقض، وحاول أن يستكشف موقف الأستاذ فتح الله كولن منهما معًا.

غني عن البيان أن نذكر أن كولن لم ينتمِ إلى أيّ طريقة صوفية، ولم يؤسس طريقة صوفية، ويرى أن التصوف المقيّد بالكتاب والسنة إنما يمثل البعد الروحي أو القلبي أو الجوّاني (الداخلي للشريعة الإسلامية)، ويرى أن هذين البعدين (الخارجي والداخلي للشريعة) لا ينبغي فصلهما أبدًا، ويقول في ذلك:

“إن السالك في طريق التصوف ينبغي ألّا يفصل بين ظاهر الشريعة وباطنها، وبذلك سيكون متبعًا لجميع متطلبات كلا البعدين الداخلي والخارخي للإسلام…”.

وذلك في ضوء رؤيته للتصوف على أنه “التحرر من الصفات البشرية إلى حد ما، واكتساب الصفات الملائكية والأخلاقية الإلهية، والعيش
في فلك المعرفة والمحبة الإلهية والذوق الروحاني”.

أما موقفه من الحداثة أو العصرنة فهو يرفض أن تكون الحداثة بمعناها الفلسفي المعروف مساوية للحضارة أو التحضر؛ فيقول:

“تختلف الحضارة عن العصرية: فبينما تعني الأولى تغيير الإنسان وتجديده في آرائه وطريقة تفكيره وجوانبه الإنسانية، فإن الثانية تعني تغيير نمط حياته وملذاته الحسية، وتطوير تسهيلات الحياة…”.

يدعو الأستاذ كولن إلى ما أطلق عليه “الطريق الوسطي”، ولا يقصد أبدًا البحث عن “طريق وسطي” بين الإسلام والحداثة؛ لأن الطريق الوسطي -في بنيته الفكرية- هو الإسلام نفسه.

وإذا كان العنصر الأساسي في الحضارة هو تغيير عقليات الناس، فإن دور التصوف الذي يمثل أداة فعالة في الإدراك والبصيرة والفرْز بين الأمور يكون مهمًّا في معالجة الإشكالات التي تطرحها الحداثة علينا في العالم الإسلامي.

وهنا يأتي مشروع الأستاذ فتح الله “التعليمي التربوي” ليس لمواجهة تحديات الحداثة فقط، ولكن للسعي الحثيث نحو بناء الحضارة التي يُكرّم فيها الإنسان، يقول كولن:

“على المفكرين والمؤسسات التعليمية والإعلام القيام بمهمة حيوية لخير الإنسانية؛ وهي إنقاذ الدراسات العلمية الحديثة من الجو الملوث… والشرط الأول لذلك هو: تحرير العقول من التعصب الأيديولوجي والتطرف، وتنقية الأرواح من أدران المطامع الدنيوية، وهذا هو الشرط الأول لضمان حرية الفكر الحقيقية وتقدم العلم الحقيقي”.

والأماكن التي نلتقي فيها مع فكر كولن هي مدارس الخدمة التي تعني بتدريس أو تقديم القيم من خلال المثال والقدوة.

والمقال الثالث في هذا الكتاب كتبه الأستاذ “عثمان بكار (Bakar)” الأستاذ بجامعة جورج واشنطن بعنوان: “الدين والعلم عند كولن…” ناقش فيه ثلاث قضايا مهمة هي:

1- العلاقة بين الحقائق الدينية والحقائق العلمية.

2- نظرة الإسلام للفهم العلمي المعاصر للطبيعة.

3- تناول القرآن للعلم.

يخلص البروفيسور بكار إلى أن كولن يرفض “العلمانية الفكرية أو علمنة المعرفة” ويوصي بأن لا يُدرس العلم بشكل مستقل عن القرآن.

أما الورقة الرابعة فقد كتبها الأستاذ زكي ساري توبراك من جامعة جون كارول في أوهايو عن: “السلام ونبذ العنف من منظور إسلامي: التجربة التركية نموذجًا”.

بيّن الباحث أن الرسول محمدًا قد بلغ رسالته بمنهج اللاعنف وعرف أن مهمته هي ﴿الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ (سورة المائدة: 5/92). وبعد أن تناول طرفًا من تعاليم القرآن الكريم والرسول المؤسسة للسلمية [4] ونبذ العنف، انتقل بنا إلى الحديث عن الرموز العالمية المعروفة اليوم التى اتخذت الأساليب السلمية طريقًا للتغيير الاجتماعي والفكري والسياسي في مناطق متعددة من قارات العالم، ورأي الباحث أن الأستاذ فتح الله كولن قد حجز لنفسه مقعدًا معهم؛ مؤسسًا دعوته على مبادئ الإسلام في السلمية والتسامح والإحسان.

ثم يأتي القسم الخاص الذي يعرض المقابلة الصحفية مع الأستاذ كولن، وقد تناولت جوانب مهمة في فكره، ولأن الأستاذ قد أجاب بنفسه وكشف عن رؤيته لمسائل مهمة، والحلول التي يقترحها لتحديات عويصة بنظرة إسلامية عالمية، فإني أترك القارئ الكريم ليقبل عليها بنفسه دون مقدمات مني قد لا يكون من المناسب إيرادها.

وبعد:

فإن البحوث الواردة في هذا الكتاب تمثل رؤية بعض الأساتذة العاملين في جامعات غربية، ممن لديهم معرفة بالمنهجية الغربية لجوانب من أفكار الأستاذ كولن ونظرياته الإصلاحية، ونظرته الإسلامية المتفتحة على الإنسانية كلها، وليس لي -في هذا المقام- إلّا أن أقرّ بأنها -في عمومها- قد اقتربت بصورة حقيقية من جوهر فكر الأستاذ وروحه واتساقه وتكامليته.

هذا، وقد استمتعت وأفدت من قراءة هذا الكتاب (في أصله الإنجليزي) ومراجعة ترجمته العربية، وتشرفت بكتابة هذه السطور كمقدمة له.

والحمد لله رب العالمين.

أ.د/محمد عبدالله الشرقاوي

أستاذ الفلسفة الإسلامية ومقارنة الأديان،

كلية دار العلوم، جامعة القاهرة.

القاهرة في 15/12/2013م

[1] هذا الكتاب ترجم إلى اللغة العربية بعنوان “محاورات حضاريّة…”، دار النيل – 2011م.

[2] د. جيل كارول: محاورات حضاريّة: حوارات نصية بين فتح الله كولن وفلاسفة الفكر الإنساني، دار النيل – 2011م.

[3] أسس هذه المجلة ورأس تحريرها المبشر (المنصَّر) المعروف “صمويل زويمر (Samuel Zwemer)” سنة 1911م، وقد نشر فيها (زويمر) بقلمه أكثر من مائة بحث وافتتاحية. ومن يُمنِ الطالع أن هذه المجلة الذائعة الصيت التي أنشئت خصيصًا لتشويه الإسلام والانتقاص منه، على يد منصَّر اشتهر بلقب (رسول المسيح إلى المسلمين) هي نفسها التي تخصص عددًا من أعدادها لنشر دراسات عن الفكر الإسلامي الرصين ومقابلة يجيب فيها المفكر الإسلامي الداعية إلى الله تعالى على بصيرة فتح الله كولن عن أسئلة مهمة جدًا، يكشف فيها جوانب مهمة من النظرة الإسلامية إلى الله والإنسان والعالم والحياة. إنها مفارقةٌ عجيبة بين السيرورة والصيرورة فيما يتعلق بالمجلة موضوع ملاحظتنا، والله لطيف لما يشاء.

[4]ومن أبرز المفكرين المنظرين للتغير الاجتماعي والسياسي بالأساليب السلمية البروفيسور (Jean Sharp) الأستاذ في جامعة “Harfard”، وقد نشر كتابه: From Dictatorship to Dimocracy باللغة العربية في القاهرة سنة 2011م.

فهرس الكتاب

 

Leave a Reply

Your email address will not be published.