الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، حيث أخْرَجَنَا من دياجير الظلام إلى أضواء الهدى، وأنْقَذَنا من أمواج الضلال إلى أنوار العرفان، وحرَّرَنا من أغلال الأَسْر والجهل والفقر، وأطْلَقَنا في فضاءات الحرية والعلم والاستغناء.
والصلاة والسلام على نبيّ المرحمة الذي تلقّى القول الثقيل بكل ما فيه من هدايات الخالق للخلق، فأحسن تحَمُّلَه وتمثُّله وتنْزيله في الحياة، وأقام به حضارة أشاعت أنوار السماء في كل جنبات الأرض، وصارت ملء سمع الدنيا وبصرها:
املأ الأرض يا محمد نورًا
واغمرْ الناسَ حكمةً والدهورا
أنتَ أنشأتَ للنفوسِ حياةً
غيَّرتَ كلَّ كائنٍ تغييرًا
أما بعد،
لقد ظلّت تركيا جوهرةً أخَّاذةً في تاج أمّة المسلمين، حيث استمرّت قرونًا من عصور الضياء وهي تقود خير أمّة أُخرجت للناس، مما حدا بالأعداء للتركيز عليها في “استراتيجيتهم” الحربية ضدّ المسلمين، ولما كانت الدولة العثمانية من القوة المادّية بمكان، بحيث عجزت أوربا عن مواجهتها عسكريًّا، فقد عمد كبراؤها إلى الغزو الفكري والثقافي المتلفع بأَرْدية ناعمة والمتقنِّع بأقنعة إنسانية خادعة. وكان العمل التربوي الهادئ أخطر ما في هذه الحرب الباردة؛ لأنه جمع بين مخادعة الثعلب ونعومة الأفعى؛ فقد زرع التعليم الغربي أفكار “الوهن” في عقول الأتراك، وغرس مشاعر “الهوان” في قلوبهم، وهذا ما لم يفطن له إلاّ قلّة من المصلحين والعلماء بعد انتشار مئات المدارس كالسرطان في أقاليم الدولة العثمانية -ولاسيما في الأناضول وبلاد الشام ومصر- ونجحت هذه المدارس في تخريج أجيال تركية بأجسامها وأسمائها، لكنها غربيّة بعقولها وقلوبها، وكانت أكثر ردود العلماء المسلمين على هذا التحدّي انفعاليةً وجزئيةً ناقصة.
وبسبب هذا التعليم قُدَّ قميص الخلافة العثمانية من قُبُل ومن دُبُر، وأُتي عن يمين وشمال، ونجح في تفريق المسلمين قِددًا، وتمزيقهم شِيَعًا، بل صار أشبه بالحامض الكيميائي، إذ أذاب أكثر عناصر الفاعلية في كيان هذه الأمّة، حتى صارت غثاءً أحوى.!
وفي منتصف القرن العشرين وُلد في قلب تركيا ابنها البار، سليل الدوحة النبوية وحفيد الصحابة الكرام، وهو الأستاذ محمد فتح الله كولن، الذي شَرَّحَ الداء وشرَحَ له الدواء المستخرج من صيدلية القرآن والممزوج بعناصر دقيقة من قراءته الموسوعية المستبصرة للواقع.
وكان جوهر هذا الدواء هو العمل التربوي المازج بين محكمات الوحي ومعطيات الواقع، فوفَّقه الله للتوصل إلى الإكسير الذي يُمكِّنه من إعادة الشباب والنضارة إلى هذه الأمّة.
ومن الأفراد الذين استحياهم هذا الإكسير، كوَّن كولن كتائب الخدمة التربوية، حيث انتشرت بلطفٍ كالْجانّ، وتكاثرت بهدوءٍ كالمرجان، حتى استوعبت أنحاء تركيا وكثيرًا من المناطق في أكثر من مائة وستّين دولة في العالم.
وكانت المواجهات الفكرية التربوية بين المنظومتين أشبه بمعارك بَدْرية كما يُشبِّهها كولن، غير أن قطرة دم واحدة لم تُسفك فيها. ورغم كل شيء فقد تحقّقت انتصارات كبيرة وعظيمة، وأثبتت السنوات والحوادث أن كتائب الـ”فتح” التربوي عندما تتحرك فيومئذ يخسر المبطلون، وكما قال الشاعر:
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بَطَلَ السحرُ والساحرُ
لقد اقترب الإنجاز من الإعجاز، إذا قسْناه بالحقائق والقوانين المادّية، حيث أقام كولن صروح الروح بعد دمار، وأيقظ القلوب الضارعة بعد موات، وعبَّد أمام الأتراك “طرق الإرشاد في الفكر والحياة”، واستشرف “ملامح الجيل المرتقب” بإعداده له بالفعل، حيث عمل في تربيته لتلاميذه على أن يكونوا كالصحابة أنصارًا ومهاجرين، إذ دفع بهم إلى “الهجرة” نحو الوحي، وجعلهم “أنصارًا” للعقل.
وفي سماء الوجدان أطلق أضواءه المستمدة من محطّات السُّوَر القرآنية، فولَّد منها أضواء كاشفة، وخَصَّ الدروب الحالكة باهتمام أكبر، حيث وَضَعَ “موازين وأضواء على الطريق”، كل ذلك بغرض استنارة المؤمنين، ووصولهم إلى مقاصد الإسلام في عمارة الحياة سالمين غانمين.
لقد أرجع للأرواح ترانيمها، وللقلوب أشجانها، وأعاد الاعتبار للنور الخالد محمد r بعد أن جَفتْه العلْمانية الغالية، وأقنع شعْبه بأن رسول r مفخرتهم الأزليّة، بل مفخرة الإنسانية جمعاء.
لم يعرف كولن الكلل أو الملل في سعيه الدؤوب من أجل إعادة أُمّته إلى حضن الشمس ومتْن النور وإلى قلب العلياء وذرْوة المجد، ومن أجل إيقاظ مفردات العبقرية الكامنة في قلب هذا الشعب الذي تَشَرَّف بالسكن في أرض زُمُرُّدِيَّةٍ تكتنِز الكثير من العبقريات بين جنباتها، ومنها العبقرية الجغرافية، حيث تقع في قلب الحضارات وملتقى العالم، عند مجمع البحرين: الأبيض والأسود، وبالمناسبة لا أدري كيف لبحرٍ يُطل عليه شعبٌ “استضاء” بالقرآن، و”استنار” برسائل النور للنورسي، وامتطى خيول التمكين النورانية المنبثقة عن كتائب كولن الفكرية ودفقاته الروحية، وبفضلها أصبح هذا الشعب فاعلاً، كيف يروق للجغرافيّين أن يستمروا في وصف ذلك البحر بـ”الأسود”؟!!.
إنه “فتحٌ” من الله ونصرٌ مبينٌ للفكر الإسلامي المعاصر، لأنه صنيعة القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، وكولن هو إحدى عجائب القرآن؛ فقد دَرَسَ القرآن ودَرَّسَه، وتعلَّم الفرقان وعلَّمه، فاعتلى بمعراج التدبر صهوة العلم، وارتفع بِبُراق الخشوع فوق غمام الإخلاص، وبهذا وذاك امتلك جناحي الصعود إلى ذروة الربانية: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آلِ عِمْرَان:79). وصار من أهل الله وخاصّته كما نحسبه، وكما تنطق منجزاتُه ومشاريعه وبَصَماته في دائرتي الفكر والفعل، بعد أن انطلق من منهج الله إلى الله ومن أجل الله.
ولا يذهبنّ بالُ البعض إلى تصور أنّ كولن مِن أهل الروحانية المنعزلة، فقد انْطلق من فقهٍ عميق بهذا الدين، وهو يدرك في هذا الإطار أن الله يكون حيث يوجد الضعفاء والمحتاجون من خلقه، وهذا هو الدرب الذي عَرَجَ من خلاله إلى مرضاة ربّه.
وقد بدأ السير في طريق “الصعود” نحو القمّة بـ”النـزول” إلى المجتمع، ولم يبق أبدًا في أبراج عاجية تحت أيّ ظرف، ولم ينظر إلى الناس من عَلٍ، وإنما نزل إليهم بروح المشفق وشغف المحبّ، منكرًا ذاته، جاحدًا حقوق نفسه، وهذا ما ضخَّم ذاته عند الناس.
ولم يكُفّ عن التنقّل بين أنْحاء تركيا، حيث طاف في مدنها وتجوَّل في كثير من قراها، وكان في رحلاته يدافع أسوأ الظروف، حيث كابَد الجوع والعطش، وجاهد السهر والسقم، وذاق آلام الحرّ والقرّ. وفي حركاته وسكناته عامةً ما فتئ يستزرع “الخمائل” ويستأصل “الفتائل”، ينشر الخِصْبَ ويُواجه الجَدْبَ، يُوزّع الحُبَّ ويحاصر الكراهية، يُشيع “الائتلاف” ويحارب “الاختلاف”، يربط “حبال” الودّ ويقطع “حبائل” الشتات.
إنه صنَّاع ماهر، فقد أجاد صناعة “الشّموع” التي أضاءت دروب الناس الحالكة، وحذّر من “الشمّاعات” التي يعلق الناس عليها أخطاءهم، حيث جفّف منابع الثقافة التبريرية، وفَعّل الفكر النقدي، وأطلق مشاعرالالتفات إلى الذات وتحمُّل المسؤوليّة.
وهو مع ذلك طبيب نطاسي، امتلك بلْسم الجروح وإكسير الحياة، ونجح بجدارة في معالجة الصُّداع الفكري، والسّكتة القلبية، و”الأيدز” الثقافي، والحمَّى الاجتماعية، والرُّعاش الاقتصادي. وبذل جهودًا جبّارة لاستئصال أورام الكبر والتّضخم، وقتل بلهارسيا الكذب، وأميبيا النفاق، وجارديا السلبية، وشريطية الأثرة.
ولم يتأتّ له ذلك كلّه إلا لأنّ الله حباه بقدْرة هائلة على اختراق العقول واقتحام القلوب، ومن ذلك امتلاكه للسانٍ أعذب من الماء، وأحلى من العسل، وأشجى من الناي. ومن العجيب أن لقبه “كولن” (الضحَّاك)، مع أنه كثير البكاء، شديد الحساسية، مرهف الحس، عاطفي المزاج رقيق الطبع، غزير الدمع. فكمْ بكى وأبكى، وكم نجحت دموعُه “الحارَّة” في “إشعال” شموع النفوس، و”إضاءة” مصابيح العقول، وإذابة ران القلوب.. وكم صارت دموعه سيلاً جرارًا جرف -بقوة الله وبركة الإخلاص- أَرْكمةً من الشُّحِّ في نفوس أفواج من الناس.
وفي ذات سياق التأثير على الناس وإعادة صياغتهم وفق مقاصد الإسلام، امتلك مقدرة فائقة على الرسم باليراع والتصوير بالقلم؛ فقد رسم صوَرًا قلمية للعديد من الرؤى الشديدة التعقيد والتجريد، وبدا تفوقه الساحق في تشبيه الخفيّ بالجليّ، والشارد بالشاهد، عبر قلمٍ عبقريٍّ نادر الوجود، مَزَج مدادُه بين الغزارة والعمق، وجَمَع صاحبُه بين إقناع المفكّر وإمتاع الأديب، وكذا بين استنارة العالم وحرارة الداعية.
وفي الشِّعاب الصخرية الصعبة التي نحَتَها بأظافره ليشقّ دروب الخدمة، استطاع استنقاذ عشرات الآلاف من الشباب من بين مخالب الذئاب الشيطانية، واسْتَمْحَضَ أكثرهم للخدمة الربّانية، فكانوا رجالاً كالجبال، وجمعوا في تركيبتهم بين نعومة “الحرير” وصلابة “الحديد”، حيث تهتزّ الأرض ولا يهتزّون، وتتغيّر الدنيا ولا يتغيّرون، ولو تزحزحت الجبال ما تزحزحوا قيد أنملة.
إن نعمة الله جزيلة، ودَور كولن مقدّر، في بناء الجيل الجديد من أبناء تركيا؛ فقد هُدي خلال العقود الأخيرة الكثيرُ من الشباب إلى الطيب من القول والفعل. ورغم أن ذئاب الفكر الشاذ ائتمروا بهؤلاء الشباب وتآمروا عليهم في الدروب الضيّقة والمنعطفات الخطيرة، إلاّ أنهم ازدادوا قوّة، وازدادت جذورهم غوصًا في أعماق الأرض الطيّبة، لأنهم أنفع للناس، وصدق المولى U حينما قال: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾(الرَّعْد:17).
هذا هو لبّ العبقرية التي تشرّفَتْ بالالتصاق بكولن كصفة لازمة، فلقد نجح بامتياز في تحويل الأحجار الصلدة إلى أحجار كريمة، وفي تغييرالقلوب القاسية إلى قلوب خاشعة ضارعة، وصنع من الأفراد المتقزّمين قاماتٍ فارعة، وجعل من الأشباح الخاوية أرواحًا مكتنـزة بكل قيم الخير والشرف والسلم والسموّ، وصار هؤلاء نوادر في الشغف والحب لخلق الله، ونوابغ في التقرّب إليه تعالى بخدمة خلْقه، وعشق إيصال الخير إليهم.
وهكذا، استمر كولن سنين عددًا وهو يُدرِّس ويُعلِّم، يدعو ويعِظ، يربّي ويُزَكّي، يُفكِّر ويُدبِّر، يبني ويُنجز، حتى تبَيَّن للأتراك الرُّشْدُ من الغيّ، وتَبَيَّنَ لهم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر، فجْر تركيا الحضاري المنشود الذي بَزَغَ في هذه الأثناء:
يا موكبَ الفجر هل تخبو مواكبُنا
إني لألْمحُها موّارةََ الحممِ
ها ألمحُ الليلَ قد حانت نهايتُه
لا يشرقُ الفجرُ إلا في دجى الألمِ
ولأن كولن بكلّ هذا التألُّق وَتَحُفُّهُ مواكبُ الضياء في بلد شقيق من أهمّ البلدان بالنسبة للوطن العربي، فإننا معاشر العرب نستحقّ أن نتعرف على هذا العملاق، فقد لاحظتُ أن كثيرين من أبناء جلدتنا لا يعرفون عنه شيئًا أو يعرفون القليل مما لا يُسمن ولا يُغني من جهل.
أهداف الكتاب
يمكن إبراز أهداف هذا الكتاب في النقاط الآتية:
1-التعريف بهذه الشخصية العبقرية ودورها في تأسيس وقيادة تيار الخدمة العظيم في الشقيقة تركيا، وهو -أيْ تيار الخدمة- أحد أجنحة الإقلاع الحضاري لتركيا الراهنة، إن لم يكن هو “الدينامو”.
2-توفير قدر من المعرفة والقراءة التحليلية لتجربة غنية بالخبرات، يمكن أن تشكّل رافدًا هامًّا من روافد المعرفة والخبرة الضروريتين للحركات الإسلامية في الوطن العربي بعد عقود من المدّ والجَزْر، نتيجة كثرة العقبات والمصاعب الذاتية والموضوعية.
3-لفْت الأنظار إلى أهمّية التغيير التحتي الذي ينطلق من قاع المجتمعات، وإبراز دور الفكر الرشيد والتربية المتوازنة في تَمتين صروح المشاريع والبُنى، خاصةً وأن أكثر الحركات الإسلامية في وطننا العربي قد انجرفت إلى العمل السياسي تاركةً الفكر والتربية في الهامش، ومن المتوقّع أن تزداد هذه المعضلة أكثر بعد “الربيع العربي” الذي أسقط عددًا من أعتى أنظمة الاستبداد، حيث سترتفع الأصوات الصاخبة لأهل العمل السياسي حتى تصُمّ الآذان، إن لم تقم هذه الحركات بمراجعات شاملة وتمارس صورًا من النقد الذاتي العريض.
وسيزيد من الحاجة إلى خِبرة هذه التجربة أن عددًا كبيرًا من الثوار في بلدان الربيع العربي انخرطوا في هذه الثورات كردِّ فعل على ضغوط سطوة الاستبداد وميراث الفساد الثقيل، بجانب التعبئة العاطفية التي انطلقت من المساجد والمعابد، والساحات والشوارع، ووسائل الإعلام، ولاسيما القنوات الفضائية ومواقع الانترنت.
وهذا يعني أن كثيرًا من هؤلاء الشباب لم ينضجوا فكريًّا، وبالتالي لا يدركون حجم ميراث التخلّف، ولا دور الفكر والثقافة في محاربته، وهم يظنّون بعاطفية شديدة أن التغيير السياسي كفيل بتغيير كل الأوضاع المنحرفة خلال فترة وجيزة. وعندما يلمسون حجم المشاكل والموانع التي تنتصب أمام تحقيق أهداف التغيير الشامل، فسيتسلّل إليهم الإحباط، وربما اندفع بعضهم بيأس إلى الشوارع والساحات للتظاهر والاعتصام، مما يهدد بظهور صور من الفوضى التي لن تزيد طين التخلُّف إلا بِلَّةً، وستزيد كُلفة الخروج من التيه.
إنني أزعم من خبرتي المتواضعة أن شخصيات كثير من الشباب الثائر تعتمل فيها العديد من أوجُه الخلل الفكري والتربوي، وتبرز في بناها الفكرية وصروحها التربوية العديد من الفتوق وبعض الثغرات، وقد لاحظتُها في أوساط هؤلاء حتى وهم في ساحات الثورة وفي قلب الدوّامات السلطوية المسلَّطة عليهم.
وهذا كله يحتاج إلى معالجة جادة تنطلق من مناهج سَوِيَّة وخبرات ذكية. وتيار “الخدمة” يمتلك منجمًا ضخمًا من هذه الخبرات الثرية، كيف لا ومُؤسِّسُهُ هو نجم الحكمة ونبراس الخدمة، وصاحب الباع الكبير والتجربة الفريدة والخبرة الثرية، والله تعالى يقول: ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾(فَاطِر:14).
المنهج المستخدم
استثمر مؤلف هذا الكتاب إمكانات المنهجين: الوصفي والتحليلي في معالجة قضاياه وموضوعاته، لكنه لم يستطع أن يكبح جماح إعجابه الشديد بهذا الرجل العملاق.
الجدير بالذكر أن بعض موضوعات الكتاب، كُتبت في مناسبات مختلفة، وفي ظروف متباينة، ونُشر القليل منها في وسائل مختلفة، ولهذا قد يلاحظ القارئ شيئًا من الاختلاف في الأسلوب، وربما وقع على بعض المفردات المكررة، لكن أكثر مواد الكتاب كُتبت دفعة واحدة، وتولى المؤلف مراجعة الموضوعات السابقة وتشذيبها حتى تنسجم مع بعضها وتأتلف في كتاب واحد، بصورة متكاملة ومتناغمة، وأتمنى أن يكون هذا الهدف قد تحقق.
تقسيم الكتاب
يتألف هذا الكتاب من خمسة فصول، وهذه عناوينها:
الفصل الأول: في رحاب حكيم الملّة وخادم الأُمّة كُولَن: حاول هذا الفصل اقتباس بعض الأنوار من شمس تركيا التي لا تغيب، بالمرور على بعض المحطّات في حياة كولن. مع إيلاء اهتمام خاص بتدابير القدر التي أوجدت الكثير من الموافقات في حياة هذا الرجل الاستثنائي، واختُتم هذا الفصل بالحديث عن “كتائب الأفكار في كتب كولن”.
الفصل الثاني: سمات الحكمة “الكولَنِية” في التجديد الحضاري: استعرض هذا الفصل السمات البارزة في تجديد كُولَن، وهي ثمان: الانطلاق من الإسلام والدعوة العملية إلى مقاصده، التجَدُّد بالإيمان وتجديد الحياة به، النّزعة العملية وتحري سبل الفاعلية، الإصلاحية التحتية الأفقية، الخدمة الاجتماعية والجهاد الأبيض، العروج الحضاري بجناحي العقل والقلب، التوازن بين الأزمنة الثلاثة، الوحدوية والحسّ الأخوي.
الفصل الثالث: بوصلة الحكمة والسير في دروب الفتوحات الناعمة: ناقش هذا الفصل رؤى كُولَن في أهمّ جوانب الحياة والتي غمسها بعَسْجَد الحكمة، مما أهَّله ليُكتَب اسمُه بماء الذهب كحكيمٍ للفكر الإسلامي المعاصر، وجَسَّد اسمه: “فتح الله” في واقع الفكر الإسلامي المعاصر الذي أهدى له كولن الكثير من المنجزات حتى صار “فتح الله” المبين له بحق وحقيقة. وبجانب ذلك أبرز هذا الفصل كيفية مساهمة هذا الرجل في دَفْع تركيا نحو المستقبل رغم تضاؤله الشديد وتواضعه الأكيد، مما أعطاه كل هذا الزخم والتأثير المنقطعي النظير.
الفصل الرابع: الإبراهيميّون الجُدُد والهجرة إلى الخدمة: تتبَّع هذا الفصل أوجُه الشبه بين خليل الله إبراهيم u وتيار “الْخِدْمَة”، وهي عشرة أوْجُه: الانغماس في تِبْرِ الخدمة، الانغراس في التربية والتعليم، التفاني في الدعوة، المناظرة والجدل في سبيل الحق وخدمة الخلق، التحلّي بالفضائل العابرة للقلوب، التغَرُّب والرحلة لخدمة الخلق، الترقّي في معراج الأسوة الحسنة، النضج الفكري والتأهل لنيل عطية الرشد، عشق الوطن وحب الناس، وأخيرًا تحوُّل النار إلى برد وسلام.
الفصل الخامس: كولن وصياغة فقه الائتلاف: اجتهد هذا الفصل في إبراز اهتمام كولن بفقه الائتلاف، من خلال شقّين؛ الأول: توضيح الأسس التي أقام عليها فقهه في الائتلاف، وهي خمسة: الإيمان الجامع بين العلم والإخلاص، الأخوة بدوائرها الأربع، الإيجابية الفاعلة، الاعتراف بحق الآخر في التميُّز والاختلاف، الدوران حول المقاصد وتجفيف منابع الفُرْقة. أما الشق الآخر لهذا الفقه فهو الأسس العملية التي تُجسِّد فقه الائتلاف في الواقع، وهي خمس أيضًا: التحلّي بآداب الحوار والاختلاف، الامتناع عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، التخطيط الكلّي والتدرج المرحلي، تركيز طاقة النقد على الذات وإعذار الآخرين، التلطّف والرحمة والحب.
هذا هو جهد المقل بين يدي شخصية كبرى ذابت -تكليفًا لا تشريفًا- في مشروع تيّار كامل، وبقدر ما تستحق هذه الشخصية العبقرية الكثير من الدراسات والبحوث حولها، فإننا -نحن العرب- نستحق هذه الدراسة أكثر؛ لأننا أحوج ما نكون إلى التجارب الصادقة التي خاضتها والخبرات الناضجة التي اكتنزتها.
أسأل الله أن يوفقني لتحقيق هذا الهدف وأن يأجرني عليه، وإن قصَّرتُ أو فرَّطت فأسأله تعالى المغفرة والعفو وأن لا أُحرم في الحد الأدنى من أجر المجتهد المخطئ، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
د. فؤاد البنا
مدينة تعز / اليمن
15 صفر 1433 الموافق 9 يناير 2012.
Leave a Reply