المعنيُّ الأول والأخير من هواتف الغيب إنما هو الإنسان.. هذه الهواتف التي لا تتوقف أسلاكها عن الاهتزاز وهي تهاتف الإنسان في كل وقت وحين، ملهمةً وهاديةً وموجِّهةً تارةً، ومبشرةً ومنذرةً تارةً أخرى..

غير أنَّ أصحاب الأسماع الثقيلة المحشوّة بأطنان الكلام من اللغْو واللغط قد يستغربون ذلك، وقد ينكرونه، لأنهم عاجزون عن الإنصات والاستماع، وقد تمضي الغفلة بأيّ إنسان إلى الحد الذي يمنعه ويحول بينه وبين التأمل والتفكر في نفسه “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونً” (الذاريات/ 21)..

فالقليل من التأمل والتفكر في نفسه سيكشف له أنّ الغيوب تغشاه من كل جانب، فهي تحيا به ويحيا بها، ولشدة قربها منه لا يكاد يبصرها.

فالإنسان في حقيقة أمره غيب قائم في غيب، ولكن في قالب شهودي. أفليس “الضمير” الذي يعول عليه الإصلاحيون في إصلاح البشرية شيء غيبي لا نعرف شيئًا عن ماهيته، ولا عن ندمه إذا ندم، ولا عن آلامه إذا تألم وحزن، ولا عن قوّته إذا حاسب صاحبه واشتدَّ في حسابه إلى حد الهلاك، أو إذا اطمأنَّ وجعل صاحبه ينام قرير العين هادئ البال..

و”القلب” هذا العالِم والفقيه والمفكّر والهادي والمضلّ، أليس هو الآخر شيئًا يلفُّه الغموض، وتكتنفه الأسرار، لا نعرف كنهه ولا نعرف إذا حزن كيف يحزن، وإذا اشتاق كيف يشتاق، وإذا أحبَّ كيف يُحبّ، وإذا ابتهج كيف يبتهج ويُسرُّ..

و”الروح” قدس الأقداس، أليست هي الأخرى غيبًا فوق كل الغيوب، تلج غيب الإنسان لكننا لا نعرف كنهها ولا ماهيّتها، ولا كيف تعمل في دواخل الإنسان وكيف تكون للإنسان بصرًا وبصيرة ونورًا وهديًا..

و”الرؤى والأحلام” ما يصدق منها كيف يصدق، وما لا يصدق لماذا لا يصدق..

والحدس والفراسة والعقل والمشاعر والأحاسيس والإرادة والخيال والتكهّن والتبصّر.. إلى آخر هذه المغيبات التي تشكل بمجموعها عالمًا غيبيًّا قائمًا-كما قلنا سابقًا- في قالب شهودي…

إن هذه الغيبيات المكتنفات للكيان الإنساني هي التي تجعل حياته ذات قيمة في موازين القيم، ومن دونها تبقى التفاهة هي الأدق وصفًا لحياة الإنسان.. وهذه الغيبيات الصغرى التي تشكل القسم الأعلى من الكيان الإنساني إنْ هي إلا ترشحات من الغيب الأعظم والأقدس الذي يطوي الغيوب كلها في قبضته، وهي دليل عليه وحجة له على بني الإنسان، وإلزام إيماني لهم وتبديد لأيّة شكوك بمآل الإنسان الغيبي النهائي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر: أديب إبراهيم الدباغ، فتح الله كولن في شؤون وشجون، دار النيل للطباعة والنشر، طـ1، 2013م، صـ75/ 76.

ملحوظه: المقال كما قال الأستاذ أديب الدباغ في مقدمة الكتاب يمكن أن ننسبه للأستاذ كولن؛ لأنه من وحي فكره، ولكنه ليس للأستاذ كولن لأنه كتب بغير قلمه، وبغير مفرداته.