الأستاذ فتح الله كولن عالِمًا عارفًا حكيمًا
بادئ ذي بدء أود أن أنوه بأنه لن يكون من السهل الميسور تحليل شخصيةِ عالِم بمستوى الأستاذ فتح الله كولن في إطار مقال أو مقالين، لأن الأستاذ من الممثّلين لميراث علمي إسلامي عريق ظَلَّ مستمرًّا على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن. وما لم يتم الكشف عن مدى الدور الديني والاجتماعي والثقافي الذي يضطلع به “نموذج العالِم” في المجتمع المسلم والتاريخِ الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلاميتين… ما لم يتم ذلك فلن يمكن رسم صورة كاملة لأي عالم نشأ في ظل هذا التراث المتراكم عبر العصور. ولهذا فإننا سنتطرق بإيجاز في عدد من الفقرات لنموذج العالم الذي كان له أكبر دور بارز في المجتمع الإسلامي بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
الخلفية التاريخيةالأستاذ فتح الله كولن هو من الشخصيات “العالمة-العارفة-الحكيمة” التي حازت على التراث العقلي والديني، إلا أنه بما يتمتع به من التجربة الفكرية والروحية القوية، أعاد تفسير ومَنهَجة كل ما تلقاه من التراث الإسلامي؛ فصبغ كل ما تلقاه من الماضي والتراث بلونه الخاص، وأوصله إلى أبناء عصره مع تركيبات جديدة وقوالب جديدة وتفسيرات جديدة
لا شك أن الإسلام ظهر على مسرح التاريخ وحيًا ودعوة. وفي وقت قصير أصبح محورَ كل الأنشطة الدينية والاجتماعية والبشرية للمجتمع الإسلامي الأول. وكان القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم- أهم مقوّمين للمجتمع الإسلامي الأول، حيث إن المسلمين الأوائل حينما كانوا يعرِّفون بأنفسهم ما كانوا يحسون بالحاجة إلى أدوات ولا مراجع علمية سوى هذين المصدرين. ولكن لما بدأت الفتوحات في الربع الأول من القرن الهجري الأول إلى شبه القارة الهندية واتسعت رقعة المجتمع المسلم، التقى المسلمون في هذه المناطق بتراث يرجع إلى مختلف الديانات والأعراق والفلسفات والثقافات القديمة.
ومع أن الأغلبية الساحقة من أهل تلك المناطق دخلوا الإسلام في وقت قصير، إلا أن أكثرهم ظلوا يحافظون على تصوراتهم الفلسفية والدينية والثقافية القديمة من خلال تكييفها مع الرؤية العقدية والأخلاقية لما اعتنقوه من الدين الجديد. وإلى جانب هؤلاء كان هناك أطراف ثقافية مهمة لم تهضم هذا الدين الجديد بأسسه الدينية والثقافية على الرغم من أنها كانت تبدو وكأنها انصاعت للقوة السياسية الإسلامية.
وكانت هذه البقايا الدينية-الثقافية تشكل تهديدًا وخطرًا كامنًا في المجتمع الإسلامي على المدى البعيد؛ لأنه لم يتحقق هناك تدافع عقدي وفلسفي كاف مع هذه البقايا الدينية-الفلسفية-الثقافية خلال موجات الفتح المتعاقبة. وكان هذا الخطر الداخلي أكبر دافع إلى تكوّن العلوم الإسلامية ونشأتها بشكل سريع في عصر التدوين. فقد بدأ المجتمع المسلم يحس بالحاجة إلى الأدوات والمرجعيات العلمية والعقدية والفلسفية والثقافية القوية، حتى يستطيع أن يعبر من خلالها عن نفسه وعن هويته العقدية ويدافعَ -في الوقت ذاته- عن القيم الإسلامية. وكانت العلوم الإسلامية هي الكفيلة بتلبية هذه الحاجة. فبدأت العلوم الإسلامية الأولى تتكون، وبذلك التكون برز على مسرح التاريخ في هذا السياق “نموذج العالِم” الذي يمكن أن نعتبره أقوى نموذج كارِيزمي -بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم– له دور مؤثر وفاعل في تكون المجتمع الإسلامي وتاريخه وثقافته بل وحضارته.
ومن المعلوم أن نشأة “العالِم” في المجتمع الإسلامي لم تكن مجرد نشوء أملته الظروف المرحلية والعوامل الطارئة، بل كان الإسلام حائزًا على المقومات والدوافع الاجتماعية-الثقافية والدينية التي تكفي لتكوين تراث علمي مستقل أصيل.
ومع أن الإسلام بدأ وحيًا، إلا أنه أدّى في وقت قصير وبشكل سريع إلى نشوء نشاط علمي منهجي مكثف. فلم يعد الإسلام بالنسبة للأجيال التالية عبارة عن مجرد عقيدة وأداة دعوة، بل كان في الوقت نفسه تعبيرًا عن نظرة ممنهجة إلى العالم ورؤية ثقافية متكاملة. وبحلول عصر التدوين زاد عدد حلقات العلوم الإسلامية وأصبحت أكثر تنظيمًا. فتكونت من خلال هذه الحلقات أدوات فلسفية علمية عقدية ومنهجية من شأنها أن تحافظ على استمرارية الوحي الإسلامي ووحدته في مواجهة العناصر الثقافية-العقدية الداخلية التي تتحدى النظام العقدي والعلمي الإسلامي بشكل مبطن.
وكما هو معلوم، فإن أصحاب الدور الرئيسي في هذه الأنشطة المنظمة والعقولَ المدبرة لها، كانوا هم “العلماء” الذين تخصصوا في شتى المجالات. فكلما تطورت العلوم الإسلامية وتأصلت، استمر وتعزَّز الدور الفعال والمكانة المؤثرة والحاسمة لـلعالِم في المجتمع الإسلامي. وأحسب أنني لن أكون مبالِغًا إن قلتُ إن أشدّ العقول المؤسِّسة والمنظِّمة للحضارة الإسلامية والرؤية العالمية الإسلامية وأكثرَها تأثيرًا بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم “العلماء” ورثة الأنبياء.
دور العالِم في الحضارة الإسلامية
ليس من الممكن للإنسان أن يقوم بقراءة حقيقية للتاريخ الإسلامي، ما لم يفهم فهمًا حقيقيًّا مدى دور “العلماء” في تاريخ الإسلام وثقافته وحضارته. والقراءات المعاصرة للتاريخ يطغى عليها في الغالب أسلوب القراءة الكرونولوجية. ومنظور التاريخ الاجتماعي ليس من المجالات المتطورة لدينا. مع العلم بأنه في غياب القراءة من ذلك المنظور يتم قراءة التاريخ على أنه تاريخ الخلفاء والسلاطين والحرب والسلم.
والحال أنه ليس في التاريخ شخصية حظيت بالاحترام لدى المجتمعات المسلمة بقدر ما حظي به العلماء من حيث تأثيرهم على تكوين المجتمع الإسلامي. وإذا تسللتم إلى قلب الإسلام وشرايين المجتمع الإسلامي من منظور التاريخ الاجتماعي فإنكم ستجدون أن العالِم هو المؤثر والفاعل في داخل ذلك المجتمع. ومن هذا المنظور نستطيع القول بأن العالِم هو المنشئ لنظرة المسلمين إلى العالَم على مدى أربعة عشر قرنًا من الزمن. وكلما عاش المجتمع الإسلامي حالة من الجمود والخمود الثقافي والسياسي والديني والاجتماعي، فإن “العالِم” هو الذي أعاد إنتاج الأمة وترتيب صفها وصياغة عقلها في الظروف المتجددة. ولذلك فإنه كان يجب على “العالِم” أن يكون ذا صلة قريبة بجميع مشاكل المجتمع المسلم. وهذه المهمةُ تقع على عاتقه باعتبارها مسؤولية معنوية ومجتمعية أكثر من كونها وظيفة رسمية.
ولا توجد في قراءات التاريخ الإسلامي والعثماني بحوث جادة حول الدور الديني والمجتمعي الذي اضطلعت به المؤسسات العلمية في المجتمع الإسلامي. نعم، هناك بحوث كثيرة منحصرة بالبحث في المقررات الدراسية التي كانت تدرس في المدارس التقليدية؛ إلا أن هذه البحوث لا ترصد بتاتًا -على مستوى كاف- مدى التأثير الأسلوبي والمنهجي لهذه الكتب المقررة على التحول الذهني والأخلاقي للمجتمع المسلم. فالمعلومات الموجودة في الوثائق الوقفية لكثير من المدارس تنحصر بالمناهج والكتب الدراسية، بل أكثرها متعلقة بالبنية التحتية.
ولم يتم -إلى الآن- الكشف -بنظر تحليلي- عن التحول الفكري والأخلاقي الذي أحدثه “العلماء” في المجتمع الإسلامي، بل إن أكثر الملفات التي تعرضت فيها المؤسسات العلمية القديمة للنقد الحقيقي من الناحية الفكرية والفلسفية هو الملف المتعلق بتوقف النشاط الاجتهادي. وهذا النقاش يجري في كل المواضع مستندًا إلى تعميمات تحار لها العقول. فمثلاً قد لا تجدون في الساحة كتابًا يركز بشكل حقيقي على كشف القيمة الفكرية لتراث كتابة الشروح على المتون.
ويبدو أن هذا النوع من المؤلفات والجهود الفكرية تمت إدانتها فكريًّا بفكر مسبق من خلال تصويرها على أنها نوع من ترداد المعلومات السابقة. ولكن الواقع أنه يمكن للقارئ لكثير من الشروح، أن يتلمس مدى قدرة العلماء على الاجتهاد والتجديد. ولكن يجب أن لا يغيب عن البال أنه لا يمكن التوصل إلى هذه الحقيقة إلا من خلال الأطر المنهجية التي تم إنشاؤها في ضمن التراث. وأظن أنه لا داعي إلى القول بأن هذا الأمر منوط بالاطلاع الكامل على ذلك التراث.
فهم الإسلام من خلال مقوماته الداخلية
إن الأذهان في عصرنا الراهن قد استولت عليها الفلسفة الغربية. فكثير من الكتّاب الإسلاميين الذين يكتبون في إطار إحياء الحضارة الإسلامية ومن منظور رؤية حضارية إسلامية، يكثرون من مراجعة مصادر الفكر الغربي ويكتبون بخلفية حداثية للغاية. وكثير من المثقفين الإسلاميين الذين يقولون بأزمة الفكر الإسلامي يكادون يختزلون سبب تخلّف المسلمين في أزمة العقل المسلم. وهؤلاء إذ يجسّدون ادعاءاتهم ينطلقون من مناهج وأدوات غير كافية وغير منتظمة، وكأنهم ينطلقون من التفسيرات المستعجلة للتراث الإسلامي.
وقلّما تجد من الباحثين من يرجع أثناء بحثه في هذا المجال إلى مصادر الثقافة الإسلامية. فهناك عدد قليل من الأكادميين والباحثين الذين يبحثون عن إمكان إعادة إنتاج الفكر الإسلامي في ظروف المجتمع الحديث مع البقاء في الحدود المنهجية الخاصة للفكر الإسلامي، من دون أن يتطرقوا إلى المراجع الفكرية الغربية. فقد نفذ الغرب إلى عقل نخبتنا الإسلامية المعاصرة بحيث إنه زعزع فيها الثقة تجاه عالَمها الثقافي القديم، ومزق ما أنتجته حضارتها من الوحدة والاستمرارية في حياتها الفكرية والسُّوسْيو-الثقافية. فالأطر المعرفية للأفكار التي يتكرر الحديث عنها حول الرؤى الحضارية الجديدة، لا ترصد قطعًا الأطر المنهجية للترات الإسلامي من الداخل، ولا تحاول الكشف عن السير التاريخي للعقل الإسلامي من المنظور الفقهي والكلامي والعرفاني، ولا تمتد يدها إلى التحليل والتساؤل عما إذا كانت هناك عوامل خارجية مهيمنة تتدخل في العقل الإسلامي والمعرفة الإسلامية سواء في مرحلة صناعة ذلك العقل والمعرفةِ أو بعدها؛ وإذا كانت هناك تلك العوامل الخارجية فما هي؟!
ولا يمكن الحديث عن أي نوع من الإحياء قبل الكشف بشكل ملموس عن الإمكانات المعرفية التي استقاها العقل الإسلامي من علم الأصول، وعن الطاقة التحويلية المكنونة في العقل الكلامي والعرفاني الذي أثر في الفرد المسلم والمجتمع المسلم. فـ”العالِم” هو الفاعل الرئيسي الذي نظم -على مدى التاريخ الإسلامي- الرؤية العالمية للمجتمع المسلم من خلال إنتاج جميع إمكانيات العقل المسلم، والأسس المعرفية لهذا العقل، والآليات التي تولد المفاهيم والأفكار. إضافة إلى أنه لا يتوقف عند حدود إنتاج هذه الأمور وتنظيمها، بل إنه فوق ذلك يدير ويرصد ويراقب مدى ما تحدثه من التغير على فكر المجتمع المسلم وأخلاقه. وليس هناك في هذا الصدد تأثير مباشر للدولة وسلطة الدولة على المجتمع. فحتى في الدولة الحديثة نرى أن المؤسسات الحكومية العامة تغلق أبوابها في الساعة الخامسة مساء. وأما باب العالِم فهو مفتوح أمام الشعب على مدار الساعة.
فالعالِم يعيش في شرايين المجتمع وأوردته النابضة. وهذا يعني أنه في العهود التي كان العالم فيها فاعلاً رئيسيًّا كانت العلوم الفقهية والكلامية والعرفانية تعيش نابضة في قلوب المجتمع المسلم. فحينما كان العالِم المسلم بقريحته العلمية الواسعة وبسلطته العلمية يعجن ويطور العلوم الإسلامية (الفقه والكلام والعرفان) وينمّيها في الواقع الاجتماعي ويحولها إلى واقع عملي، كان يلجأ أحيانًا إلى الأنساق الواقعية التي تتطلبها الحاجات الفردية والاجتماعية، وأحيانًا كان يستعين بالأدوات النظرية والمعرفية للعقل المسلم على المدى البعيد.
وهكذا ففي حين كان العالِم يضع الأسس المعرفية للعقل الإسلامي، كان في الوقت ذاته يمنهج قوانين هذا العقل. ويمكن أن نسميها قوانين الفقه والأصول والكلام والتفسير والعرفان والبلاغة أو اللغة. ولكن فإننا إذا لم نضع “نموذج العالم” في المحور، فلن نستطيع القيام بتنقيب تام حول العقل الإسلامي.
الأستاذ فتح الله كولن والإرث العلمي الإسلامي
وبعد هذه المقدمة يمكنني القول بأن الأستاذ فتح الله كولن ممثل معاصر للتقليد العلمي الإسلامي الأصيل. ومع أن هذا التقليد تعرض في القرون الأخيرة لانكسارات خطيرة، وتحولات ثقافية، وفَقد -إلى حد كبير- قدرته الإنتاجية، إلا أن هناك عقولاً كبيرة عملاقة نشأت في فترات مختلفة. وأنا شخصيًّا أعتقد بأن الأستاذ فتح الله كولن بقريحته الواسعة وبشخصيته المؤثرة على المستوى الروحي والاجتماعي، يمثل هذا الإرث تمثيلاً مهمًّا وعلى مستوى رفيع. فحتى لغته وخطابه اللذان يستعملهما في حياته اليومية، من المؤشرات التي تدل على أنه يحمل هذا الإرث الطويل إلى يومنا هذا. فتكاد كل حلقة من حلقات دروسه اليومية (الصحبة) تعكس الأسس المنهجية للعلوم الإسلامية بحساسية بالغة، وترصد في تأصيلاته والأمثلةَ التي يضربها النظرةَ المعرفية التي أنتجها العقل الإسلامي من الفقه وعلم الكلام والأصول والعرفان، ويلتزم بأن يُسند كل خطابه إلى خلفية تحتاج إليها الرؤية الحضارية الإسلامية.
وإنني حينما أواجه المادة الغنية التي يستعملها في كتاباته ومقالاته وأشعاره وحلقاته درسه ووعظه ومحاضراته، وأرى أسلوبه الخاص، فإني أشبهه بـ”الموسوعة”. نعم، إنه قاموس محيط وموسوعة بكل معنى الكلمة من حيث إلمامه الواسع بشتى الفنون؛ من الشعر والفلسفة وعلم الكلام والفقه والأصول والأخلاق والعلوم الاجتماعية والإنسانية، ومن حيث دفعه بقدراته العقلية بالخوض في التحليلات العرفانية العميقة، وأساليب التربية الروحية.
العالم – العارف – الحكيم
الأستاذ فتح الله كولن مثال حي لنموذج “العالِم” الأصيل الذي ظل على مر عصور عديدة ينظم “رؤية العالَم” لدى المجتمعات الإسلامية، فأحدث فيها تحولاً فكريًّا وثقافيًّا، ورصد كل هذه التحولات من حيث نتائجها الاجتماعية والأخلاقية. وهو بشخصيته العلمية والروحية الكاريزمية، وبأسلوب حياته البسيطة المتواضعة والزاهدة يعتبَر من أواخر حلقات التقاليد العلمية الإسلامية العريقة.
عندما ننظر إلى نموذج “القيادة الدينية والاجتماعية” الذي تمخض عن التراث العلمي الإسلامي، فإننا نشاهد تجربة عقلية وروحية عميقة. وكما جرت العادة في التقاليد الإسلامية من أن الشخصيات العلمية تضطلع بدور القيادة الدينية والاجتماعية، فكذلك الأستاذ فتح الله كولن هو من الشخصيات “العالمة-العارفة-الحكيمة” التي حازت على التراث العقلي والديني، إلا أنه بما يتمتع به من التجربة الفكرية والروحية القوية، أعاد تفسير ومَنهَجة كل ما تلقاه من التراث الإسلامي؛ فصبغ كل ما تلقاه من الماضي والتراث بلونه الخاص، وأوصله إلى أبناء عصره مع تركيبات جديدة وقوالب جديدة وتفسيرات جديدة. ومن الممكن أن يلاحظ المتابع لأفكاره تجربته الشخصية القوية والعميقة هذه في كل ما يتناوله من مواضيع.
أجل، إن الأستاذ بما يلم به من علوم الفقه والكلام والتصوف والحديث والفلسفة واللغة واللطائف القرآنية، والأدب والبلاغة والفن والجمال، وبأسلوبه المشحون بالعواطف والمعنويات… إنه بهذه الأمور “موسوعة” بكل معنى الكلمة. فأسلوبه يستقي من مختلف المنابع الثقافية الواسعة. وحسب الأعراف الفلسفية فإنه قد برز ضمن تقاليد الفكر الإسلامي ثلاثة أنواع من الأنظمة المرجعية الأساسية التي تتمتع بإطار معرفي: البيان، والبرهان، والعرفان. وحسب هذا فإن جل الأصول الإسلامية توجد ضمن “البيان” الذي هو أحد “الأنظمة المرجعية”.
وأما العلوم الفلسفية والعقلية فإنها وحدها تندرج ضمن “البرهان”، بينما يندرج التصوف تحت “العرفان”. ومن الطبيعي أن يتعرض هذا التصنيف للنقد من جهات عدة؛ فمثلاً قد يقول قائل، لماذا لا يُعتبَر علم الفقه والكلام والأصول ضمن البرهان أيضًا؛ وعلى الخصوص في حين أنه بالإمكان أن نعتبر علمَي الفقه والأصول من أشكال التعقل الخاصة بالإسلام. كما أنه يمكن نقد هذا التصنيف من نواح أخرى أيضًا، إلا أننا بمثل هذه التصنيفات حينما نتحدث على العموم عن تراث فكري إسلامي، نكون قد تحدثنا في الواقع عن نظام مرجعي فكري ومعرفي للإسلام. وبالتالي فإننا نستطيع القول بأن العقل الإسلامي قد تشكَّل من خلال ثلاثة أنواع من أنظمة مرجعية. ومن هذا المنظور فلا بأس علينا في ذلك.
مسألة وراثة النبوة
والآن فإني في سياق تعريفي بالأستاذ فتح الله كولن سأقوم بتأصيل الموضوع بالانطلاق من حديث: “العلماء ورثة الأنبياء”، ومن بعض النواحي من حديث جبريل عليه السلام المشهور. وإني أعتقد أنه يمكن القول بأن وراثة العلماء للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد تحققت في ثلاثة مجالات: العلم، والعرفان، والدعوة الاجتماعية. ويمكن القول بأن وراثة العلماء للنبوة على مدى التاريخ الإسلامي قد تحققت في هذه المجالات الثلاثة.
وكلما اتسعت رقعة المجتمع الإسلامي زادت حاجتها إلى الأدوات العلمية التي يبلِّغ المسلمون من خلالها منظومتها العقدية إلى الأجيال اللاحقة، ويدافع عن عقيدتها تجاه ما يجابهها من الأنظمة الدينية منها والثقافية. ولهذا نلاحظ أنه كان هناك في وقت قصير نشاط علمي مكثف في كل النواحي والمجالات. وهكذا بنهاية القرن الأول كاد الفكر الإسلامي يأخذ طريقه في التشكل بكل مجالاته. وعلى مدى القرون الثلاثة والأربعة وصل التراث الإسلامي إلى مستوى من القوة والمنهجية الفكرية-الفلسفية، بحيث أصبح يستطيع أن يمنهج الرؤية الإسلامية للعالم.
ومن خلال هذا الجهد العلمي المكثف برز على الساحة الإطار النموذجي لورثة النبوة في مجال العلم والتراث العرفاني. ويمكن أن تندرج تحت عنوان التراث العلمي جلّ العلوم الإسلامية القديمة من الفقه والكلام والتفسير والحديث والإسناد واللغة والبلاغة والتاريخ والفلسفة وغيرها. كما يمكن أن تندرج تحت مفهوم التراث العرفاني؛ علم التصوف والأخلاق والميتافيزيقا إلى حد ما.
وأما مبدأ الدعوة والتبليغ فقد ظل -باعتباره من المقاصد الأساسية للإسلام- المحفزَ الكامن وراء كل الأنشطة بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن هذا السبب فقد ظهر في التاريخ الإسلامي في كل عصر شخصيةٌ علمية تتوافق -على الأقل- مع إحدى هذه النماذج الثلاثة.
فمن العلماء مَن ورِثوا الميراث العلمي، ومنهم من ورثوا الميراث العرفاني، ومنهم من ورثوا الجانبَين معًا، ومنهم -وهم قليلون- مَن ورثوا الجوانب الثلاثة. إذن قلما نلاحظ علماء يتمتعون بشخصية “العالم” و”العارف” و”الحكيم” في آن واحد. والنادر هو أن يبرز العالم إلى جانب هذه الأمور بهوية “الداعية” أيضًا. ولا نعني بـ”التبليغ والإرشاد” هنا المعنى العام الذي يشمل كل أنواع النشاطات الدعوية؛ بل ما نقصده هنا هو الدعوة إلى الإسلام مباشرة في بيئات وأصقاع تحتاج إلى دعوة الإسلام. وإلا فكل الأنشطة العلمية التي تجري في داخل المجتمع الإسلامي تدخل في نطاق الدعوة والإرشاد. فأمثال الحسَن البصري، والمحاسبي، والغزالي، من الشخصيات الذين يدخلون في ضمن مفهوم “العالم” و”العارف” معًا. ولكن علمين من أمثال التفتازاني أو السيد الشريف الجرجاني، كان يغلب عليهما صفة “العالم” أكثر من صفة “العارف” أو “الحكيم”. علمًا بأنهما بسعة آفاقهما وبسلطتهما العلمية، من الشخصيات التي وضعت الأسس المعرفية للمدارس العثمانية وأنشطتها العلمية، وبذلك تحكمتا في هذه الأنشطة العلمية قرابة خمسة قرون.
ولا مرية في أن أكثر العلماء تأثيرًا في التاريخ الإسلامي، هو الإمام الغزالي (بهوية “العالم”)، بينما أن أكثر الصوفية تأثيرًا هو محيي الدين ابن عربي (بهوية “العارف”). وإذا حاولنا أن نعدد في هذا المقال جميع أبطال حلقات “العلم” و”العرفان” فقد يتطلب ذلك منا عديدًا من الصفحات.
من أواخر حلقات التراث العلمي القديم
إنني شخصيًّا أعتبر الأستاذ فتح الله كولن واحدًا من أواخر حلقات التقاليد العلمية الأصيلة المنحدرة على طول التاريخ الإسلامي. ولا مرية في أن الأستاذ شخصية علمية تضلعت في معظم التخصصات الإسلامية الكلاسيكية، ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بهوية الداعية بالمعنى العام، وشخصية القيادة الاجتماعية. وحاز على مساحة واسعة من القبول والتأثير بحيث لم يتيسر ذلك لأي عالم في التاريخ الإسلامي.
ومع أنه بخطابته القوية والمخلصة، وبقريحته العلمية والعرفانية الواسعة، أثّر في جماهير تتشكل من شرائح مختلفة جدًّا، إلا أنه -للأسف- لم يشتهر -بنفس المستوى- بسلطته العلمية ومقدرته الفكرية واطلاعه على المدارس الفلسفية العصرية الحديثة. والسبب في ذلك يرجع إلى شخصيته المتواضعة، بالإضافة إلى كثرة الحديث عنه في وسائل الرأي العام من خلال أنشطته الدعوية والتربوية والإرشادية المكثفة.
وجدير بالذكر أن جزءًا مهمًّا من مؤلفاته تشكلت من حلقات الدرس التي كان يلقيها على تلامذته، ومن الأجوبة على ما وُجّه إليه من أسئلة، وتفريغ أشرطة الوعظ التي ألقاها على الجماهير. بالإضافة إلى مؤلفات تشكلت مما كتبه من المقالات الرئيسية التي كتبها في المجلات العلمية والأدبية.
لكن سلسلة الكتب المسماة بـ”التلال الزمردية”، من كتبه الفريدة التي تميزت على سائرها في باب ما كتب في علم التصوف. فلو كانت هذه السلسلة مؤلفة قبل خمسة قرون -مثلاً- لكُتب عليها عشرات من الشروح. بمعنى أنها من طراز المتون الأصيلة التي كان من العادة أن يُكتَب عليها الشروح. ومن الممكن للمتخصص في هذا الباب والذي له باع في هذا العلم، أن يتلمس من خلال هذه السلسلة مدى سعة قريحة الأستاذ العلمية، وقدرته على التركيب والتحليل، وخلفيته الفقهية والأصولية والكلامية والمنطقية. ومن يمعن النظر في هذا الكتاب فسيلاحظ أن المؤلف جمع وألف بين شتى الأنظمة المعرفية الإسلامية التي هي ثلاثية (البيان-البرهان-العرفان) في نظام معرفي متكامل.
والأمر الذي يميزه عن النصوص الصوفية التقليدية، هو أن المؤلف لا يحصر المفاهيم العرفانية في المجال العرفاني فقط، بل يعرِّفها ويؤصلها من منظور الواقع الاجتماعي والأخلاقي للفرد المسلم. وهناك أمر آخر وهو أن الحبكة الفكرية للكتاب تلمّح -نوعًا ما- إلى انتقاد ضمني للعقل الإسلامي التقليدي. بمعنى أن العقل الإسلامي بتفرّقه في الماضي إلى ثلاثة أنظمة مرجعية مختلفة، أدى بالمجتمع الإسلامي إلى تفكك فكري وسياسي واجتماعي.
ولا يزال هذا التفكك موجودًا في عصرنا هذا، بحيث إن ذلك التفكك الذهني والفكري والسياسي والمجتمعي، ظل يغذي انقسامات لا تزال تتوسع أفقيًّا في المجتمعات الإسلامية. فكتاب “التلال الزمردية” يقدم -بطريقة غير مباشرة- إطارًا منهجيًّا يجمع بين ما في النظام المعرفي الإسلامي من مختلف الأسس المرجعية والمنهجية. فالأستاذ بما طوره في هذا الكتاب من نظرية المعرفة المتكاملة، حاول أن يعالج ما تعاني منه المجتمعات الإسلامية من انحراف أخلاقي وتفكك فكري وقلبي واجتماعي.
شخصية الأستاذ ورؤيته الحضارية
ومن جانب آخر، إن كتب الأستاذ فتح الله كولن ومؤلفاته قد تعطي تصورًا عنه نوعًا ما، ولكن لا يمكن فهم شخصيته باعتباره عالمًا ومفكرًا حق الفهم إلا بالتعرف عليه عن كثب وبطريقة مباشرة. وإني -باعتباري من الذين جالسوه بشكل أو بآخر وتابعوا دروسه، ووجهوا إليه الأسئلة، وراقبوه عن قرب- أستطيع القول: إن الأستاذ يتمتع بقريحة علمية تجمع بين هذه التوجهات العلمية الإسلامية الثلاثة. ومحتوى كلامه محمَّل دائمًا بالرجوع إلى هذه المراجع الثلاثة. فمثلاً، حتى إنه حينما يناقش موضوعًا يتعلق بمجال الفقه والأصول فقط، لا يترك الموضوع حبيس ساحة واحدة فقط كشأن الأسلوب الأكاديمي، بل يظل يبحث عن الآثار الاجتماعية والثقافية لمضمون ذلك الموضوع.
إنني شخصيًّا أعتبر الأستاذ فتح الله كولن واحدًا من أواخر حلقات التقاليد العلمية الأصيلة المنحدرة على طول التاريخ الإسلامي. ولا مرية في أن الأستاذ شخصية علمية تضلعت في معظم التخصصات الإسلامية الكلاسيكية، ولكنه في الوقت نفسه يتمتع بهوية الداعية بالمعنى العام، وشخصية القيادة الاجتماعية. وحاز على مساحة واسعة من القبول والتأثير بحيث لم يتيسر ذلك لأي عالم في التاريخ الإسلامي.
فتراه يناقش ويدخل في تفاصيل النتائج الأخلاقية والفكرية والمعرفية التي عسى أن تتمخض عما تناوله من المبدإ الفقهي أو الأصولي. علاوة على ذلك، فإن الأستاذ -من منظور أوسع- يظل مرتبطًا في جميع ما يتناوله من المواضيع بـ”رؤية حضارية” يحمل همّها. فالأدوات الفكرية والفلسفية والعقدية في خطابه، مرتبطة بـالجذور المعرفية لهذه المراجع الثلاثة لنظام المعرفة الإسلامية. وعلى الأخص فالشبكة المفاهيمية للمقالات الرئيسية التي كتبها، تؤكد دائمًا على إنشاء رؤية حضارية ذات محتوى شامل ومحيط.
حتى لو لم تعجبكم أفكاره وأساليبه
وأخيرًا، ينبغي أن أعود فأؤكد أن الأستاذ فتح الله كولن مثال حي لنموذج “العالِم” الأصيل الذي ظل على مر عصور عديدة ينظم “رؤية العالَم” لدى المجتمعات الإسلامية، فأحدث فيها تحولاً فكريًّا وثقافيًّا، ورصد كل هذه التحولات من حيث نتائجها الاجتماعية والأخلاقية. وهو بشخصيته العلمية والروحية الكاريزمية، وبأسلوب حياته البسيطة المتواضعة والزاهدة يعتبَر من أواخر حلقات التقاليد العلمية الإسلامية العريقة.
وسواء عرف الناس قدره أم لم يعرفوا، فإني أعتقد جازمًا بأنه لم يستحق ما وُجّه إليه من إهانات من قِبل مَن أشربوا في قلوبهم اللهث وراء عرض الدنيا ونزوة المناصب، والذين ليس لهم حظ من الثقافة والعلم إلا قليل، فيكيلون له من فحش الكلام والمسبّات، والهمز واللمز، والسخف والإزعاج ما لا يقبله الإنصاف والضمير.
وأعتقد جازمًا أن الذين يظلمون رجلاً عظيمًا يندرج ضمن سلسلة الذهب التي كوّنت لنا تراثًا علميًّا هائلاً، في سبيل بعض المكاسب الدنيوية العابرة، سيحاسَبون على ذلك عاجلاً أو آجلاً. صحيح أن الإنسان قد ينسى ما يقوم به الأعداء، ولكن غدر الأصدقاء وخذلانهم من البشاعة بحيث يهتز له العرش. فقد لا تعجبكم أفكاره وأساليبه، ولكم أن تنتقدوه حينذاك في حدود الإنصاف والمبادئ العلمية، بل لكم أن لا تبالوا بما يقوله ولا تلقوا له بالاً. ولكن إذا كان الأسلوب واللغة بعيدًا عن الأخلاق واللياقة، وكان منحطًّا عن مستوى الأدب والإنصاف، فهذا ليس له إلا تفسير واحد وهو أن هناك تعفنًا في الأخلاق وانهيارًا في الشخصية. وهذا النمط من الأسلوب المستبد، أفسد الخطاب السياسي الإسلامي أيضًا، وأفلته من ضوابطه وهدم جدران الإنصاف والأخلاق المحيطة بالنقد والانتقاد.
لقد كان في تركيا حواجز أخلاقية تحمي اللغة والأسلوب من الشطط، ولم تكن هذه الحواجز مدمرة إلى هذا الحد حتى في الأوساط العلمانية. ولكنها -للأسف- تهدّمت بشكل فظيع على يد الإسلاميين. نسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
– الترجمة عن التركية: أ. أجير أشيوك
- المصدر: مجلة حراء، العدد: ٤٢
Leave a Reply