في تركيا تجربة فريدة من نوعها، تتمثل في سلسلة المدارس التي فتحت بتشجيع من الأستاذ محمد فتح الله كولن، والتي تعد مهمة لنظام التعليم التركي من ناحيتين؛ الناحية الاجتماعية، وناحية النوعية الجيدة للتعليم. لقد نفثت هذه المدارس، كما يقول الباحث التركي محمد أنس أركنه، الحركة والحيوية في نظام التعليم في تركيا، وكانت ولا تزال عاملاً فاعلاً في زيادة الاهتمام بنظام التعليم، سواء في الأوساط المؤيدة لهذه المدارس أو المعارضة لها. وعندما تبيّن نجاح هذه المدارس، التي تبلغ اليوم المئات داخل تركيا وخارجها، في إعداد الطلاب للجامعات، وظهر نجاحُها الباهر في المباريات العلمية العالمية، وانعكست أخبار هذه النجاحات في وسائل الإعلام ووصلت إلى أسماع الرأي العام، توجه العديد من الأوساط إلى ساحة التعليم، إلى درجة أنه لم يحدث مثل هذا الاهتمام المتزايد بالتعليم في تركيا في العهود السابقة، حتى لقد أصبح من المعتاد الآن وجود برامج خاصة للتعليم في وسائل الإعلام، وخصصت الجرائد صفحات لموضوع التعليم وأخباره، وزاد إقبال العديد من الأوساط على التعليم، بعد أن كانت لا تربطها به أي علاقة. ونما نتيجة لذلك كله قطاع التعليم وأصبح من القطاعات الخاصة المهمة.
وفي دراسة علمية منهجية متقنة مثيرة للانتباه، اطّلعت عليها أخيرًا، يبرز الباحث محمد أنس أركنه، أن هذا الاهتمام البالغ والمتزايد بالتعليم في تركيا، قد تم بواسطة المدارس التي شجع على فتحها فتح الله كولن، وبفضل النجاحات التي حققتها. وانعكست هذه الحركة الاجتماعية على مستوى التعليم في تركيا، ورفعت من مستواها. وبينما عدّت بعضُ الأوساط هذه المدارسَ كنذر خطر على المستقبل، نظرت إليها أوساط أخرى بأنها نذر خير، وعدتها أوساط أخرى نشاطات تستهدف الربح. وسواء أكانت الدوافع أيديولوجية أو سياسية أو ربحية، فقد زاد الإقبال اجتماعيًّا على إنشاء المدارس، ويعد هذا طبعًا تطورًا إيجابيًّا في البلد.
زرتُ إحدى هذه المدارس، خلال زيارتي الأخيرة لإسطنبول، حيث شاهدت على الطبيعة، صورة حية للتجربة التركية الرائدة في التأسيس لتعليم بالغ الجودة، يأخذ بأحدث المناهج التربوية والطرق التعليمية، ويقتبس من التجارب الناجحة الراقية في الدول المتقدمة في هذا المجال الحيوي. المدرسة التي زرتُها تحمل اسم “مدرسة الفاتح”، وهي مؤسسة تعليمية متكاملة، تضم جميع مراحل التعليم، من رياض الأطفال، إلى التعليم الثانوي في شعبته العلمية. وتدرس العلوم في هذه المدرسة باللغة الانجليزية، ويختار التلاميذ المنتسبون إليها، من خلال مباراة يشارك فيها الآلاف، من الصفوة الأولى المتقدمة في الدراسة، والتي أظهرت قدرات عالية في استيعاب المواد العلمية. ومما يذكر عن هذه المدرسة التي وجدتُها آية في النظام والنظافة وفي الفن المعماري الرائع وفي تكامل الأدوار، أن ثلث التلاميذ الأتراك الذين يشاركون في المسابقات “الأولمبيات” العلمية العالمية، هم من أبناء هذه المدرسة، إذ يشارك ثلاثون تلميذًا من مجموع المدارس في تركيا في هذه المسابقات، يكون من بينهم عشرة من مدرسة الفاتح، والباقي من مدارس أخرى تعتمد المنهج نفسه وتسير في هذا الاتجاه.
ولكن ما هو الجديد الذي تتميّز به هذه المدارس التي أصبحت ظاهرة تعليمية علمية ثقافية اجتماعية مثيرة للاهتمام؟ منذ سنوات، وأنا أحرص على الإجابة عن هذا السؤال. وقبل أيام قليلة فرغتُ من قراءة كتاب صدرت ترجمته العربية بقلم الأستاذ محمّد أنَس أَرْكَنَه وبترجمة الأستاذ أورخان محمد علي رحمه الله تحت عنوان “فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية” الصادر عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة، فخرجت بمعلومات وافية عن هذه التجربة غير المسبوقة. ووجدت المؤلف يقول: “لقد جلب فتح الله كولن مفهوم التضحية إلى نظام التعليم، لأن التعليم سياق طويل المدى وصعب، فهو يستلزم تضحية جدية وتحملاً وصبرًا على الآلام والمشاكل. والتضحية كانت أهمّ عامل في نجاح هذه المدارس. فهناك الآلاف من الذين هرعوا إلى خدمة التعليم بكل شوق وبكل رغبة، وأدّوا هذه الخدمة ناذرين أنفسهم لخدمة الإنسانية، وراضين بالعيش بكل تقشف وزهد. كان مثل هذا الأمر قد غاب تمامًا عن نظام التعليم في تركيا من زمن بعيد” (الصفحة:289) .
وهذا الكلام لا بد له من شرح بالنسبة للقارئ غير التركي. ولذلك أتابع النقل عن المؤلف الذي يشرح أبعاد الفلسفة من وراء هذه المدارس، فيقول : “لقد كان من الصعب جذب المربّين والمعلمين إلى المناطق الفقيرة. ومع أنه تم وضع نظام مضاعفة الرواتب في بعض هذه المناطق الفقيرة، إلا أنه لم ينفع كثيرًا، وبقي ميل هؤلاء ورغبتهم في البقاء في جو المدنية في المدن الكبيرة. ولكن هذه الصعوبة لم تكن موجودة في هذه المدارس، بل تم إرسال المربّين والمعلمين إلى أرجاء الدنيا، وإلى مناطق بدائية محرومة من العديد من الحاجات العصرية، بل أُرسلوا حتى إلى مناطق تحتدم فيها المعارك، وإلى مناطق خطيرة لا يتوفر فيها عنصر الأمان.. ومع كل هذه المخاطر فقد هرع المربّون إلى هذه المناطق متوكلين على الله ومسلمين أمورهم ومستقبلهم له. كأن هؤلاء الذين توكلوا هذا التوكل يبرهنون عمليًّا على مدى حاجة نظام التعليم إلى التضحية والفداء”.
ولا شك أن صانع هذه التضحية ونذرِ النفس لخدمة الإنسانية، هو فتح الله كولن. ولكن ما الذي جعل هذا الرجل الذي سبق أن وصفتُه في مقال سابق بـ”الرجل الظاهرة”، وهو عالم دين وخريج مدرسة دينية، مدفوعًا إلى ولوج ساحة صعبة ومتعبة، وذات نفَس طويل مثل ساحة التعليم؟ ما الذي دعا شخصًا حساسًا مثله يتعرض يوميًّا لأزمات قلبية وأزمات مرض السكر، إلى ولوج هذا الطريق الطويل المتعب؟! هكذا يتساءل المؤلف، ثم يستطرد: “هناك من يسرد هذه الأسئلة بغيظ فيقول: ماذا يعمل شخص متديّن في ساحة التعليم؟ فإن كانت مهنته هي الوعظ، فلْيعمل في ساحة الوعظ. ولماذا يقوم شخص مختصّ في العلوم الإسلامية بالولوج إلى ساحة التعليم والتربية وهي ساحة علمانية؟ كانت هذه الأسئلة المطروحة حول شخصيته وحول مشروعه في التعليم والتربية، متداولة كثيرًا طوال أعوام التسْعينيّات في القرن الماضي من قِبل وسائل الإعلام التركية، ومن قِبل أناس عديدين ينتسبون إلى قطاعات مختلفة. وهي أسئلة أجاب عليها في العديد من اللقاءات الصحَفية التي أجريت معه”.
قام فتح الله كولن طوال سنوات عديدة سواء في مواعظه أم في مجالسه أم في مقالاته العديدة التي نشرها بالتطرق بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى مشاكل التعليم. ويكاد يكون هو الشخص الوحيد، كما يقول المؤلف، الذي تناول في تركيا هذا الموضوع تناولاً حركيًّا وأوصله إلى الجماهير الواسعة. فلا نعرف أحدًا آخر قام بشرح أهمية التعليم حتى في مواعظه للجماهير الذين كانوا يحضرون للجامع لسماع مواعظه وهم من عامة الناس ومن الكسبة وأصحاب الحرف. لأن موضوع التعليم كان منحصرًا في التاريخ القريب، في أوساط المثقفين والمفكرين والساسة، ولم يكن في استطاعة جماهير الناس الاشتراك في النقاشات الدائرة حوله، لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر، لأن الاقتناع السائد كان أن نظام التعليم موضوع مهم جدًّا وخاص جدًّا إلى درجة لا يمكن معها السماح لجماهير الشعب لبيان الرأي حوله. ولم يدُر بخلدهم أبدًا أن من الممكن أن يقوم عامة الناس بالتبرّع من أموالهم للتعليم دون انتظار أي مقابل. وبتعبير آخر: لم تكن الجماهير الواسعة تشغل أي مكان في المشاريع الاجتماعية والثقافية والسياسية لهؤلاء المثقّفين والساسة، فهم كانوا ينظرون إلى المجتمع بأنه عبارة عن جماهير جاهلة لا دور لها سوى تطبيق الأوامر الآتية لهم من فوق. وما قام به فتح الله كولن كما هو واضح هو هدم هذه النظرة، لأن هذه النظرة هي التي جعلت التعليم والسياسة والدولة غريبة عن الشعب التركي وأنشأت كادرًا نخبويًّا، وولدت هذه النظرة. ولكن فتح الله كولن كان يرى أن الشعب التركي الذي قاد معركة الاستقلال في جوّ من الفقر والحرمان، قادر على الاشتراك في حل أهمّ مشاكل البلد، وأنه يستطيع الاستعانة به في هذا الموضوع. لذا كانت محاولته هذه فريدة في بابها لا نجد لها مثيلاًً في تاريخنا القريب.
يقول المؤلف في تحليل عميق لأبعاد هذه التجربة، إن فتح الله كولن يرى أن مشكلة التعليم والتربية ليست موجودة في تركيا فقط، بل هي موجودة وبشكل حاد وجذري، في المدَنية المعاصرة. وبلغ من اهتمامه بضرورة التعليم والتربية، حتى كاد أن يجعلها من أسس الإيمان. لأن من أهم أسباب القلَق والضياع في المجتمعات الغربية، في رأيه الذي عبّر عنه في مؤلفاته وأحاديثه الصحافية، تمزق وحدة العقل والقلب في الفكر العلمي وفي النظام التعليمي. وما لم تحقق الوحدة في النظام التعليمي والتربوي، وتؤسس العلاقة الفطرية والطبيعية بين الإنسان والكون والله، كما يرى فتح الله كولن، فلا يوجد أي أمل ولا أي فرصة للخروج من هذا القلق والضياع.
ويرى هذا المفكر المجدّد الذي يكاد يكون غير معروف على نطاق واسع في العالم العربي للأسف، أنه منذ عدة عصور أبعدت الفلسفة الوضعية نظام التفكير الحديث ونظم التعليم والتربية، وجميع العلاقات الإنسانية والاجتماعية والفكرية، عن جميع المقدسات، وأبعدتها عن الدين. ونتجت عن هذا جميع مظاهر الأزمات الأخلاقية والعمومية التي تعاني منها المجتمعات الحالية. لذا فإن من الأمور الجديدة التي قدّمها فتح الله كولن في موضوع نظام التعليم والتربية، هي هذه النظرة الشاملة للعلاقة بين الإنسان والكون والله. أي السعي من أجل وحدة العقل والقلب.
ومع انطلاق هذه المدارس من هذا المنطلق، استطاعت تجاوز هذه الفلسفة الوضعية التي تعد من أهم مشاكل نظام التعليم والتربية. ومع أن هذه المدارس دون شك لا تركز على العلوم الدينية، لكنها تضع وحدة القلب والعقل في مركز وفي وسط نظامها التعليمي ومنظومتها العلمية والفكرية. وبتعبير آخر: فهي تسعى إلى أنموذج إنسان ومجتمع يحترم تاريخه وتقاليده وجذوره الإيمانية وهويته الاجتماعية، مع فكر علمي حديث، ومنفتح على كل جديد، يثق بنفسه وبمستقبله. لذا لم تكن هذه المدارس بأطرها النشطة الموفقة والمعاصرة ناجحة في تركيا فقط بل في كل بلد عملت فيه. وهي بلدان كثيرة تكاد تغطي قارات العالم.
لقد رأيت هذا الحلم الجميل وقد تحقق في “جامعة الفاتح”، إحدى كبريات الجامعات التركية التي ينتمي طلابها إلى أربع وسبعين جنسية. وهي من الجامعات الراقية، تقع في موقع جميل وسط الحدائق الغناء، وتضم طلاب النخبة في مختلف التخصصات. ويرأس مجلس إدارتها الأستاذ مصطفى أوزجان، الذي يعدّ من أقرب تلامذة الأستاذ فتح الله كولن إليه. هذه الجامعة هي مصنع للعقول المفكرة المنتجة ومحضن للإبداع والتجديد في حقول العلم والمعرفة. تناولت غدائي في المطعم الجامعي وسط الطلاب وموظفي الإدارة. وكان معنا مدير العلاقات العامة. وكانت ترافقني زوجتي وهي من أسرة التعليم. وانتابني شعور بالفخر والاعتزاز لوجودي في جامعة الصفوة التي توازي الجامعات العالمية الراقية، ووسط الطلاب من جنسيات عديدة.
إن الرؤية المستقبلية للأستاذ فتح الله كولن إلى مدارس الغد وجامعات المستقبل، تتجسد في جامعة الفاتح، كما تتمثل في مدرسة الفاتح، وفي المئات من المدارس التي تمتد عبر مناطق العالم. حقًّا إنها تجربة فريدة مثيرة للاهتمام ذات أفق مستقبلي، تستحق الدراسة والتأمل من لدن صناع القرار السياسي التعليمي في العالم الإسلامي.
المصدر: جريدة “العلَم” المغربية، 13 أبريل 2010.
Leave a Reply