إن زيارة فتح الله كولن للبابا يوحنا بولس الثاني في عام 1997م مثلت خطوة مهمة في اتجاه العلاقات الإسلامية المسيحية وبخاصة في تركيا، ولكن وفي نفس الوقت أدت هذه الزيارة إلى بروز جميع المعارضين لوجهة نظر كولن والمستنكرين لها. لقد تزامنت زيارة كولن مع وقت أصبح فيه حوار الأديان ضرورة لدرء الصراع بين الشرق والغرب. وبالرغم من أن فكرة “صمويل هنتينجتون”[1] حول “صراع الحضارات” المزعوم كانت تزداد قوة إلا أن كولن رأى أن هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهد لإقامة الحوار.

بين العلمانيين والإسلاميين

بسبب هذه المقابلة تلقى كولن ورفاقه دعمًا شعبيًّا واسعًا في بلده تركيا، غير أنه انتُقِد بشدة من قبل مجموعتين: العلمانيين المتشددين ومجموعة صغيرة من الإسلاميين المتشددين، إلا أن المجموعتين اختلفتا في طريقة وأسباب انتقادهم لكولن.

أما نقد العلمانيين المتشددين لكولن فقد تركز على الرأي القائل بضرورة التفويض المطلق من قِبل الدولة[2]، وحيث إن الدولة لم تقم بتفويض كولن فلم يكن له الحق في أن يتكلم مع شخص مثل “البابا يوحنا بولس الثاني” من تلقاء نفسه. وقد نتج هذا التفكير عن رغبة الحكومة في السيطرة على جميع أنواع المبادرات الشخصية، ولذلك ترى هذه المجموعة من العلمانيين أنه كان ينبغي لـكولن الحصول على تصريح حكومي للقاء الزعماء الدينيين البارزين الأجانب، حتى ولو من أجل تعزيز حوار الأديان.

وقد كان رد فعل الإسلاميين المتطرفين بعد زيارة كولن مختلفا؛ فقد اعتبروا زيارة كولن نوعًا من التذلل، إذ إنهم يرون أن المسلم لا يليق به أن يذهب لزيارة غير المسلم، كما اعتقدوا أيضًا أن ذهاب مثل هذا القائد الإسلامي الديني البارز لزيارة قائد ديني كاثوليكي يمكن أن يتسبب إلى حد ما في تنصر بعض المسلمين.

إن الخوف من حوار الأديان وأنه قد يؤدي إلى اعتناق المسلمين أديانا أخرى غير صحيح، وهو ينبع -في رأي كولن- من ضعف ثقتنا بقوة الإسلام.

الحوار ضرورة حتمية

ولكن هذه -من وجهة نظر كولن- ليست صورة الإسلام الصحيحة؛ حيث إن الإسلام قد ساند مسألة الحوار مع أصحاب الديانات الأخرى وطبّقه منذ بداية ظهوره. ومن المهم أن يتخلص الناس من هذه الصورة؛ لأن هذا الخوف من حوار الأديان، وادعاء أنه قد يتسبب في اعتناق المسلمين للأديان الأخرى؛ غير صحيح على الإطلاق، وهذا الموقف ينبع -في رأي كولن- من ضعف الثقة بالإسلام[3]. يقول كولن:

“إن الإنسانية تمر الآن بعصر المعرفة والعلوم، وإن العلوم سوف تحكم العالم على نطاق أوسع في المستقبل، ولذلك فإن معتنقي الدين الإسلامي -بمبادئه التي يدعمها العقل والعلم- ينبغي ألا يتشككوا أو يجدوا أي صعوبة في محاورة معتنقي الأديان الأخرى”. وهو يرى أيضًا أن الحوار ليس مجرد جهد إضافي وتكميلي، بل هو أمر مُحتّم. ويعتقد كولن أن هذا الحوار هو أحد واجبات المسلمين في الأرض من أجل جعل عالمنا أكثر سلامًا وأمنًا[4].

كولن يرى أن الحوار ليس ترفا أو جهدا إضافيا، بل هو أحد واجبات المسلمين في الأرض لجعلها أكثر أمنًا وسلاما.

لكن هاتين المجموعتين اللتين تُعارضان كولن هما في الواقع مجموعتان هامشيتان تضمان نسبة ضئيلة فقط من المجتمع التركي، أما الأغلبية فقد دعمت لقاء كولن بالبابا، والذي كان له نتائج إيجابية، إحداها جاءت في هيئة مؤتمر للأديان المختلفة تنظمه إحدى منظمات حوار الأديان وهي وقف الصحفيين والكتاب في تركيا، وقد عقد هذا المؤتمر الذي سُمي بـ”ندوة إبراهيم عليه السلام” في جنوب شرق تركيا في مدينة صغيرة تدعى “أُورْفَا” يُعتقد أنها مكان ولادة النبي إبراهيم عليه السلام. كما أثمرت هذه الزيارة أيضًا فكرة تأسيس جامعة لحوار الأديان بالمدينة نفسها وما زالت زيارة كولن للبابا تأتي بثمارها في الحوار بين المجموعات المختلفة، وقد دعت منظمة استلهمت أفكار كولن بـ”شيكاغو” حوالي ثلاثين ممثلًا للجماعات الدينية المخلتفة إلى “تركيا” لحضور مؤتمر حول حوار الأديان. وكان من ثمار هذه الزيارة أيضًا أن ممثل الفاتيكان في تركيا لعب دورًا فعالًا من أجل تطوير العلاقات بين المسلمين والمسيحيين.

ويرى كولن وضوح الحاجة لإقامة حوار إسلامي مسيحي لإظهار حقيقة العلاقة بين العلم والدين في الكتب السماوية، فقد ظل العلم عدوا للدين في الغرب لعدة قرون، وعانت المسيحية الكثير من جراء ذلك. ومن خلال الحوار الإسلامي المسيحي يكون بإمكان كلتا الملتين إظهار حقيقة العلاقة مرة أخرى بين الدين والعلم. يقول كولن: “إذا لم يكن هناك سبب آخر لتعزيز الحوار الإسلامي المسيحي فإن هذا السبب يعد كافيا لإقامة هذا الحوار؛ وذلك لما ينطوي عليه من أهمية كبرى”[5].

كولن يرى أن نشاطاته ليست قومية وليست محدودة داخل تركيا، بل هي عالمية ولصالح البشرية كلها.

المسلمون والنقد الذاتي

ويدعو كولن المسلمين إلى القيام بالنقد الذاتي، ويبين أن عليهم ألّا يحوِّلوا الإسلام إلى أيديولوجية؛ حيث إن ذلك قد دفع بالإسلام إلى الحلبة السياسية؛ مما منع المسلمين من الدخول في حوار مع معتنقي الديانات الأخرى. وفي هذا الصدد يقول كولن: “إن الأيديولوجيات تُفرّق ولا تجمع، هذه حقيقة اجتماعية وتاريخية”[6].

ويرى كولن أن الإسلام لا بد وأن يُنظر إليه على أنه دين متمثل في العقل والقلب والحياة اليومية، ولا ينبغي أن يُتخذ وسيلة للموالاة الحزبية الأنانية والكراهية الشخصية أو القومية ومشاعر العداء. ويضع كولن فكرته عن حوار الأديان في محور هذه الآية القرآنية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات: 49/13).

فهو يرى أن الإسلام يفرض على المسلمين احترام أتباع الأديان السماوية إلى جانب الإيمان بأصول أديانهم وأنبيائهم. فالمسلم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت ذاته يؤمن بإبراهيم وموسى وداود وعيسى والأنبياء الآخرين عليهم السلام. فإن عدم الإيمان بالرسل المذكورين في القرآن يكفي لجعل الشخص خارج دائرة الإسلام.

كولن وموقفه من الأقليات

ومن العوامل التي تسهم في مصداقية كولن أيضًا وتشهد له بموضوعيته وصراحته، علاقاتُه الجيدة بقيادات الأقليات في تركيا، ويكفي ذكر مثالين فقط لإعطاء فكرة عن جهوده من أجل بناء سلام بين الشعوب.

أولًا: من المعروف أن وضع اليونانيين في تركيا يتأثر بالسياسيين اليونانيين والأتراك بشكل يومي، ولما شرع كولن في نشاطاته الحوارية في أواخر الثمانينات أصبح أملًا وضامنًا لليونانيين في تركيا. والأقليات اليهودية والمسيحية كانت تدعم كولن في مبادرته هذه بقوة. وأقام أيضًا علاقات جيدة مع البطريرك اليوناني الأرثوذكسي “بارثولوميوث”.

ثانيًا: على الرغم من المعارضة الشديدة عمل كولن على تأسيس برنامج تعليمي في أرمينيا، وحث بعض رجال الأعمال الأتراك على بناء مدرسة ثانوية في “إريفان” عاصمة “أرمينيا” لخدمة جيل الشباب في البلاد، كما أقامت مجموعة أخرى من رجال الأعمال الأتراك مدرسة ثانوية في موسكو بناء على نصيحة كولن، واليوم يتم القيام بمبادرة مشابهة لتأسيس مدرسة ثانوية في “اليونان”.

تبدو جهود كولن اليوم حيث تنتشر الكراهية والتنبؤات حول صدام بين الحضارات بالغة الأهمية للإنسانية كافة.

عالمية الإسلام والحوار

وتوضح جهود كولن هذه رغبته في إقامة جسور فيما بين الشعوب والثقافات المختلفة من أجل تقليل حدّة العداوة. ويعتقد كولن أن الذين تلقوا علما جيدا من الأتراك هم الذين سيكون لديهم القدرة على المشاركة الكاملة في تقدم الإنسانية. وهو مع ذلك يرى أن نشاطاته ليست قومية؛ بل هي من أجل خير البشرية كلها، فلا ينبغي الاعتقاد بأنها محدودة داخل تركيا. فكولن يبحث إذًا عن حوار بين الحضارات.

ويعتقد كولن أن كل البشر عبيد لله تعالى، بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية، وأن الإسلام يهتم بالبشرية كلها على السواء، فــ”الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ”[7]. وإنَّ رَفْضَ الإسلامِ للأفضلية على أساس اللون أو القومية أو الجنس أو المكان أو المهنة لهو من أكبر الدلائل على عالميته. حيث يقول نبي الإسلام: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى[8][9].

ويرى كولن أيضًا أن الميل نحو التحزب كامن في الطبيعة البشرية، ولذلك ينبغي أن يكون الهدف هو إزالة الجانب المضر من هذا الميل، بل تحويله إلى النفع، فبدون وجود قناة إيجابية للتنفيس عن ذلك الميل داخل البشر سيتطور في اتجاه سلبي. وإذا تم تحفيز هذا الوضع بأمراض مختلفة، مثل الجهل والسلوك الهمجي والتطرف فستتصارع المجتمعات بشدة ودون توقف. وبالمقابل كلما انتشر العلم والعرفان والتسامح كان المجتمع أقرب للوصول إلى “خط السلام” في اتجاه التفاهم والتصالح الاجتماعي[10].

وفي الختام نستطيع أن نزعم أنه وعلى الرغم من النقد الذي وجهه المتشددون إلى كولن وجهوده من أجل الحوار، إلا أن المبادئ القرآنية توفر أساسًا قويًّا لمنهجه تجاه الحوار مع أهل الكتاب ومعتنقي الأديان الأخرى. ويرى كولن -الذي يتميز بالتقوى والورع في حياته الشخصية- أن هذا عنصر أساس في الفكر الإسلامي. وفي وقت تنتشر فيه الكراهية ويُتنبأ بحدوث صِدام بين الحضارات تبدو جهود كولن ذات أهمية بالغة للإنسانية المعاصرة.

[1]       صمويل فلبس هنتينجتون: صراع الحضارات وإعادة صنع النظام الدولي، (نيويورك: تتش ستون، 1997م).

[2]       انظر مجلة “الحياة الجديدة (Yeni Hayat)”، نجيب هابليميت أوغلو، عدد 52، بـ[اللغة التركية].

[3]  سلجوق جامجي وقدرت أونال: “جو التسامح والحوار، ص. 37.

[4]       المصدر السابق، ص. 38.

[5]       المصدر السابق، ص. 31. انظر أفكار كولن عن الموضوع في مقال “عثمان بكار” في هذا الكتاب.

[6]       انظر تفاصيل رأي كولن حول تلك النقطة في المصدر السابق ص. 23-26.

[7]       الطبراني: المعجم الكبير، (10/86 ).

[8]       مسند الإمام الأحمد، 38/474؛ الطبراني: المعجم الكبير، (18/12 ).

[9]       سلجوق جامجي وقدرت أونال: “جو التسامح والحوار، ص. 32.

[10]      المصدر السابق، ص. 72- 73.

المصدر: زكي ساري توبراك، السلام والتسامح في فكر كولن، كتاب مشترك، دار النيل للطباعة والنشر، ٢٠١٤، القاهرة، الطبعة الأولى، ص: ٢٥-٣١

ملاحظة: عنوان المقال وعناوينه الجانبية من تصرف المحرر.