التقيت الدكتور سليمان عشراتيأكثر من مرة، وسمعته متكلمًا، واستمتعت بكتاباته عن النورسيرحمه الله تعالى، وقد دهمني أسلوبه الشيق في الكتابة، وقدرته المذهلة على الغوص في الشخصيات التي يكتب عنها. وأستطيع أن أقرر مطمئنًا من خلال ما قرأت لهأنه يمتلك روحًا فنيًّا مرهفًا، ونزوعًا تشكيليًّا. فكتاباته تشكيلات في لوحات فكرية، أو فكرية في لوحات تشكيلية. وهو لمَّاح شديد اللمح، دقيق النظر، واسع الاستيعاب ثريّ اللغة، خصب الثقافة، قوي العارضة، الفكر عنده بناء وتشييد، والأفكار صروح، والمفكرون معماريون، والزمان والمكان مواد بناء.

والدكتور عشراتييلج عالم فتح اللهالفكري والروحي مستحضرًا بالتأكيد مفاهيمه المعمارية في التعامل مع فكر الرجل، فيكثر من الإشارة إلى البيئة التي نشأ فيها كولنوعاش في كنفها، وهي بيئة ثرية بصروحها المعمارية التي شيدها العثمانيون من حبات قلوبهم وأرواحهم، وسقوها من رحيق فنونهم ومعارفهم وجماليات وجدانهم مما كان لها أثر كبير على تكوينات فكره وتشكيل وجدانه، وإثراء خياله، فكل كلمة خطها قلم كولنما هي إلا لبنة من لبنات الصرح المعماري لفكره السامق. وفي صدد ذلك يقول عشراتي لقد قامت فلسفة الأستاذ كولنعلى الإيمان بأن عمل المفكر عمل بنائي بالأساس“. ويقول كذلك إن الإيمان العميق يمكّن المادةَ الجسدَمن أن تتقمص الروح ويمكّن الروحَ الفكرةَمن أن تتقمص المادة، وبذلك تستحيل الفكرة يدًا تبني، وظهرًا ينقل، وجارفة تحفر، وجموعًا تنجز، وهيئات تتابع وتموّن. هذا بعض ما تمثل به الأستاذ كولندور رافعة القرآن في تحقيق الفرد الفاعل، والمجتمع الناهض. فالحضارة أولها فكر، وآخرها علم، وما بينهما كفاح وإرادة وعزم.

فمن خصائص فكر كولنكما يرى عشراتيقابليته الفذة على التحول السريع من طاقة فكرية مشعة في الذهن إلى صروح كتلوية ومؤسساتية فوق أرض الواقع، ومن أجل هذه الخصيصة المتفردة صار فكره معتمدًا في عملية التحول الحضاري الذي وضع كولنخطوطه العامة في كتابيه القيمين ونحن نبني حضارتناوونحن نقيم صرح الروح“.فالحضارات في رأي كولنإنما تخوض صراعاتها من أجل قضية واحدة هي الرغبة في التأكيد على الذات، وفي الوقت نفسه محاوَلةٌ مجهِدةٌ تؤديها روح الأمة لتحتفظ باستقلاليتها وتفرّدها عن الآخرين. وهذه التجليات الحضارية والروحية تعتمد بالأساس على قدرات المسلم على تغيير نفسه وتجديدها وإدراكه أبعاد الفكرة التي تقول بانتماء الإنسان إلى نظام كوني عظيم. ومن هنا يقف كولنبالضد من المحاولات المحمومة التي تريد استلاب شخصية المسلم وتذويب استقلاليته، ومن أجل هذا يقول عشراتي: “لايزالكولنيعلن في كتاباته بأنه يمثل حلقة ضمن سلسلة ذهبية من الأسلاف المباركين انبثوا عبر العهود والمراحل، وعاشوا متفرغين للكدح والتنسك والدعوة إلى الله، وإرساء أسس الإحسان وخدمة الأمة“.

إن صخب الحضارات وضجيجها وارتفاع أصواتها كثيرًا ما يعمل على إخفاء الإنسان على نفسه، وجعله غارقًا في يم ما تفرزه هذه الحضارات من توافه ومن قشريات وصدفيات، أما حضارة الإسلام كما يرى كولنفهي حضارة تعتمد الإنسان أسًّا مهمًا من أسس وجودها ونفسه هي المقصودة بالأساس للارتقاء بها في مراقي التهذيب والتقريب من خالق الإنسان وبارئ الوجود.

فالحضارة التي لا توفر لإنسانها وسائل الكفاح الروحي الارتقائي من النسبي إلى المطلق، ومن النهائي إلى اللانهائي، حضارة عرجاء كثيرة التعثر والسقوط، وهذه هي الحضارة التي لا يرغب كولنبامتداد سلطانها إلى عالم الإسلام.

ويمضي الدكتور عشراتي في تحليل فكر كولنحيث يقول: “ولما كان كولنإنساني الرؤية، ذا فلسفة دعوية كونية، فقد أرسى مسطرة منهجه على شعار اليسر والتيسير الذي يراه جوهر العقيدة الإسلامية ومميزها، وطابعها الأصيل الذي إذا ما حادت عنه تعطلت الدعوة، وتأجل موعد تلاقي الأمم مع الدين الذي شاء الله أن يكون دين البشرية قاطبة“.

ولئن كان العالم اليوم غير مهيأ لاستيعاب متطلبات الحضارة الروحية العالمية التي يرسم كولنمعالمها من خلال كتاباته، وهذا قد يصح إلى حد ما عندما نغفل عن طبيعة الإنسان ذي الذكاء المتجدد، وذي القابلية على التجربة والانتقال من طور إلى طور. فإنه إذا ما حاول أن يلم شتات نفسه، ويوحد ذاته، فإنه سيكون سريع الاستجابة لمتطلبات هذه الحضارة التي تتوافق مع الفطرة التي فطره الله عليها. فـكولنوفي كل كتاباته يراهن على الإنسان، ويراهن على قدراته المذهلة على تغيير نفسه من النقيض إلى النقيض، ويراهن على إرادته اللامحدودة التي تشكل مغزاه الوجودي. فهذه الإرادة قهارة جبارة، تعينه على التغيير والتبديل، وتذليل الصعاب وإزالة العقبات والوصول إلى الغايات.

وتتجلى هذه الإرادة الخارقة في عمل من أهم الأعمال الحضارية الفكرية، وكما يقول عشراتي“: “إن استصدار حراء العربية اللسان في تركيا جاء تتويجًا لمراحل مريرة من النضال والصبر خاضها أبناء الأمة الأجلاء هناك، وبذلوا أعمارهم لأجل كسب النصر في معركة استرداد الهوية الروحية والانتماء الحضاري. لقد أبى التغريبيون إلا أن يجهزوا على الحرف العربي في تركيافجاءت اليقظة التي أثارها كولنليعيد الأمر إلى نصابه، فكان إصدار مجلة حراءإشارة معبرة وإعلانًا فصيحًا على أن الفجر أشرق من جديد“.

والحضارة التي يرى عشراتيأن كولنيرسم خريطة الطريق للوصول إليها، حضارة لن تخفق أبدًا في أخذ العالم كله في روحها، وفي سعة عقلها، لأنها علوية المصادر، ربانية الإمداد، فقدراتها على الاستيعاب غير محدودة، ورغبتها بالامتداد والتوسع لن تتوقف، وإفساح المجال أمام الذات وتجلياتها وإبداعاتها والتفوق على نفسها مما تشجع عليه وترغب به، وكما سبق للإنسانية أن ائتمنت حضارة الإسلام على نفسها قرونًا عديدة فهي كذلك مستعدة اليوم أن تفعل الشيء نفسه عند قيام هذه الحضارة وبالشروط التعبوية نفسها.

فحضارة الإسلام لا تساوم الإنسان على شراء نفسه، ولا تتودد إليه بتبرير سقطاطه، والإغضاء عن انحداراته، وتكريس استمرارية ضعفه، وكأن حضارة الغرب تقول له بلسان الحال لا عليك إن أنت شرعت بالانحدار، لأنك إنما تفعل ذلك استجابة للجانب الحيواني فيك“. إنها حضارة متفهمة إلى حد بعيد لجوانب الضعف الغريزي للإنسان، ولم تلتفت إلى جوانب القوى الهائلة التي يمتلكها لاستخدامها في الارتقاء والترقي من حال الضعف الدركي إلى حال القوة الارتقائي كما تفعل حضارة الإسلام. لاجدال في أننا نخطو نحو فهم القوةالإنسانية، وإن كانت حتى هذا اليوم خطوات بطيئة إلا أنها في الاتجاه الصحيح. لقد نبهنا كولنكما يقول عشراتيإلى هذه القوة، وقال إنها موجودة في دواخل الإنسان، لكنها في الأعماق البعيدة من هذه الدواخل. فالإنسان من غير هذه القوى يشعر بحراجة حياته وربما تمنى أن لم يكن موجودًا على الإطلاق، وهذا مما يمرضه ويجعله خائفًا من وجوده نفسه.

فالتفات كولنإلى هذه القوة، والإشارة إليها، وحث الإنسان على الذهاب وراءها للكشف عنها واستخراجها إلى عالم الشهودواستخدامها في بناء قواه النفسية وقواه الحضارية، أمر في غاية الأهمية، لأنه عمل من صميم ما يحث عليه الدين ويرغب به الإسلام. فالإسلام دينًا وحضارةًيتخذ من هذه القوى قاعدة يبني عليها صروحه الفكرية والحضارية والأخلاقية.

أديب إبراهيم الدباغ

مقدمة الكتاب