لفهم كل من أهمية حياة فتح الله كولن و تعاليمه و عمق الخوف و الاتهامات الموجهة إليه من قبل النقاد فمن الضروري وضعه في السياق التاريخي التركي خاصة مع ارتباطه بمسألة معقدة ألا وهي الدين و السياسة، فلم يحدث على مر التاريخ التركي أن تم اكتمال الفصل بين الإسلام و الدولة، إلا في الجمهورية التي أنشأها مصطفى كمال أتاتورك في 1923، حيث كانت العلمانية واحدة من ست ركائز أساسية للدولة مبنية على النموذج الفرنسي للدولة المسيطرة عل الدين، و في هذا الفصل سأوضح التغييرات الكبيرة التي حدثت في تركيا على مدار المائة عام الماضية لتحديد دور الإسلام في سياسات الدولة.
• الإمبراطورية العثمانية
في معظم دول الإمبراطورية العثمانية ( 1300 – 1922 تقريبا) كانت هناك علاقة وثيقة و تكافلية بين السلاطين ( الحكام السياسيين) و الخلفاء ( القواد الإسلاميين) و اتجه الإسلام لطلب الحماية من الحكام الذين غالبا ما استغلوا الإسلام لتأكيد شرعيتهم السياسية، و لذلك نشأت علاقة معقدة بين الإسلام و الدولة.
حكمت الإمبراطورية العثمانية أيضا بالقانون الإسلامي ” الشريعة” و التي لم تكن تعطي حقوقا متساوية لغير المسلمين، فقيادة السلطات الرسمية الدينية ( العلماء) وصلت إلى ابعد من الشؤون الدينية و سيطرت على الأنظمة التعليمية و بعض الأنظمة القضائية في الإمبراطورية، و أدار العلماء المدارس الدينية أو المدارس الإسلامية التي تعلم فيها الموظفون ذوو الرواتب المنخفضة المشتغلون في البيروقراطية العثمانية.
كانت الإصلاحات العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر تهدف إلى المحافظة على الإمبراطورية في الوقت الذي كانت فيه هزائم الجيش تضعف السلاطين، و في نفس الوقت شكلت السلطات الدينية قلب المعارضة للإصلاحات العثمانية، خاصة تلك التي اتجهت لتجاهل الشريعة في جهود التحديث و منح المساواة لكل المواطنين، و بالرغم من معارضة العلماء قام الحكام العثمانيون بصنع نظام تعليم أوروبي به معلمون أوروبيون جنبا إلى جنب مع محاكم جديدة خارج نظام الشريعة، و في عام 1850 أصبح القانون التجاري أول قانون يشيد خارج نفوذ القادة الدينيين، و في نفس الوقت تم إنتاج جيل جديد من الشباب الخريجين من المدارس بالنظام الأوروبي الجديد و ابعثوا إلى أوربا لاستكمال تعليمهم العالي و أصبحوا ما سمي ” العثمانيون الشباب” الذين يطالبون بإصلاحات أكبر و حققوها بواسطة الحصول على المؤسسة الملكية الدستورية و أول دستور عثماني، و في خلال عام لاحق قام السلطان عبد الحميد الثاني بحل البرلمان و عطل العمل بالدستور، فتحول ” العثمانيون الشباب” للعمل متخفين و تطوروا و ظهروا في بدايات القرن العشرين في صورة جماعة ” الأتراك الشباب” الذين عادوا للظهور في شكل ” جمعية الاتحاد و الترقي” لتوجيه تركيا إلى عصر الجمهورية.
• الإسلام و الدولة في بدايات تركيا الحديثة.
و في بداية 1913 بدأت جمعية الاتحاد و الترقي بالقيام بإصلاحات جدية لتمهيد الطريق لهجر الشريعة نهائيا و أخضعت المحاكم الدينية لسلطات المحاكم العلمانية، و في 1915 وضعت المحاكم الشريعة تحت اختصاص وزارة العدل و استبعد العلماء ووضع الإسلام تحت سيطرة الدولة و تم نقل ملكية العقارات التي تملكها المؤسسات الدينية إلى وزارة المالية، و ف عام 1924 ألغيت الخلافة و أصبح مجلس إدارة الشؤون الدينية مكتب حكومي لرعاية الشؤون الدينية و خضت إدارة المدارس الدينية لوزارة التعليم، و ألغي التقويم الشمسي القمري الإسلامي إلا لاستخدامه للشؤون الدينية، و هذا الطريق مهد للعلمانية التي وضعها مؤسس جمهورية تركيا الجديدة مصطفى كمال أتاتورك ( 1881 – 1938).
و في 1923 نظم الأتراك بقيادة أتاتورك مقاومة ضد غزو القوات اليونانية المدعومة بالقوى الغربية و فازوا بالسيادة على تراقيا الشرقية و كل الأناضول و تحولت الأمة إلى جمهورية تركيا، و كان الهدف الأساسي لأتاتورك صياغة مسار مختلف جدا عن مثيله في الإمبراطورية العثمانية، خاصة تطبيق العلمانية و إدارة الدولة القومية بدون تأثير الإسلام في السياسة، و فضلت نخبة الجمهورية الحديثة، مع أتاتورك كمتحدث و قائد، الحداثة الكاملة التي رأوا فيها مهربا من التخلف و أعربوا عن رفضهم و عدم ثقتهم في كل الأشياء المرتبطة بالنظام القديم و الطرق التقليدية في الحياة، و بخاصة الدين و المؤسسات الدينية التي تم اعتبارها مضادة للحضارة المعاصرة.
و سعى أتاتورك و أتباع الكمالية إلى خلق دولة تركية قوية تقوم بشكل واضح على العرقية القومية، تحل محل الإمبراطورة العثمانية متعددة الأعراق و الأديان و ذات التوجه الإسلامي.
و لكونه سياسي بارع قدم أتاتورك إصلاحاته ببطء و استخدم الإسلام في البداية لتوحيد و حشد الناس خاصة ضد غزو الجيوش الأوروبية، و انتظر فلم يعلن قبل عام 1924 أن القومية التركية بدلا من الإسلام هي العامل الوحيد لتوحيد الأتراك ، و استخدمت الدولة المدارس العسكرية و الإعلام لدمج الهوية القومية التركية و الانفصال عن الإسلام و الإرث العثماني. و لإنجاز ذلك و الحد من تأثير الإسلام فلقد قام بإغلاق تكايا الدراويش و منع الطرق الصوفية من ممارسة شعائرها و طقوسها و حظر ملابسها و اعتبر الطربوش كغطاء للرأس للمتخلفين و الحجاب كطريقة لإخضاع المرأة. و تم تغيير لغة نداء الصلاة ( الآذان) من العربية إلى التركية و ترجم القرآن أيضا و طبع بالحروف اللاتينية، و لكي تكون الدولة أكثر غربية و حداثة استعاض بالحروف الهجائية اللاتينية عن العربية، و اعتمد التقويم الميلادي بدلا من الإسلامي و تم الترويج لمساواة المرأة، و في عام 1934 منحت المرأة حق التصويت في تركيا.
و في 1928 أزيل الإسلام من الدستور باعتباره الدين الرسمي لدولة تركيا، و برغم بقاء الإسلام جزءا لا يتجزأ من الثقافة التركية إلا أن الدور الرئيسي له في السياسة قد انتهى، و في 1938 حلت مبادئ العلمانية محل الإسلام في الدستور.
• علمانية أتاتورك
بين 1925 و 1928 سن البرلمان الكمالي القوي عددا من القوانين لعلمنة الحياة العامة، و كان أتاتورك يؤمن أنه على تركيا ترك الماضي خلفها و اللحاق بالمثال الذي تمثله أوروبا، و لذلك دعا للقضاء على جميع العقبات التي تقف أمام خلق دولة قومية علمانية غربية، و بعد تحقيق الاستقلال القومي نفذت الجمهورية حكما علمانيا صارما ينفي أي دور للإسلام في تشكيل النظام السياسي الجديد.
النموذج العلماني الذي قدمه أتاتورك للجمهورية التركية كان نظاما علمانيا على غرار أوروبا و فرنسا و بخاصة العلمانية الفرنسية التي وسعت قوة الدولة و قيدت الدين في المجال الشخصي الخاص، و هي شكل من أشكال العلمانية التي تطالب بإقصاء المعتقدات و الممارسات الدينية من الحياة العامة، و تتوقع أن تستخدم الدولة قوتها لتحقيق ذلك الإقصاء، و تلك العلمانية مضادة للدين و تبحث عن التحكيم في الدين أو إقصاءه، و ذلك غير نموذج علمانية الأنجلو أمريكان الذي يسعى لحماية الدين من تدخلات الدولة و يشجع الشبكات الاجتماعية المبنية على الإيمان للاندماج في المجتمع المدني، و العلمانية التركية مبنية على فكرة تحويل المجتمع من خلال قوة الدولة في إقصاء الدين من المجال العام.
وفي الحقيقة ففي نظام العلمانية الفرنسية ذلك يكون استخدام الخطاب الديني من قبل أي فرد أو حزب في النقاش العام و حتى في البرلمان في حالة تركيا مبررا لمنع هذا الفرد أو ذاك الحزب.
وأصبحت العلمانية المبدأ الأساسي لسعي الكماليين لبناء الدولة القومية، بينما انحصر الدين في المسائل الخاصة و تحكمت به الدولة، و في المؤتمر الرابع للحزب الجمهوري الشعبي في 1935 دون مصطفى كمال ( المعروف بأتاتورك) أفكاره و أهدافه في ( الكمالية) و تشكلت من ست مبادئ لتوجيه الحزب و الأمة و هي : القومية، العلمانية، الجمهورية، الدولانية، الإصلاحية، الشعبوية و تلك المبادئ كان مصدرها الأيدلوجيات المهيمنة في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى التحديث باعتباره هو التغريب، و قضت أيديولوجيات و ممارسة الكمالية على مصادر الصراع الناجمة عن اختلاف الطبقة و العرق و الدين عن طريق خلق مجتمع ( تركي) قومي لا طبقي يخلو من أي إشارة أو ممارسة دينية في المجال العام، و علاوة على ذلك مع التأثير القوي للفلسفة الوضعية و العلمانية الفرنسية على القادة الجدد كانت الجهة الشرعية الكمالية الوحيدة للتغيير هي الدولة نفسها، فالدولة و الأمة كان ينظر إليها كشيء واحد، و استبعدت جميع الأديان و بخاصة الإسلام من المجال العام، و كان أي شكل من الاضطراب المدني أو الاحتجاج الشعبي يعد مصدر قلق و شك من قبل الدولة.
ووضعت علمانية الكماليين الثقة المطلقة في العلم و الفلسفة الوضعية و تلك المبادئ أصبح لها الأولوية في إعادة هيكلة المجتمع، و بالتالي منعت تلك السياسة تأثير الدين في مجالات التعليم و الاقتصاد و العائلة و أسلوب اللباس و الحياة اليومية و السياسة، و العلمانية بهذا السياق تعني الإفراط في اختراق الدولة في الحياة اليومية و استبعاد الاختلافات العرقية و الدينية، و أنشأت الجمهورية التركية مديرية الشؤون الدينية لإدارة و ضبط احتياجات و شؤون الناس الدينية في الحياة العامة، و بذلك منعت الشبكات الدينية القائمة على المجتمع المدني، و في عام 1937 دمجت تلك المبادئ في الدستور كمبادئ أساسية للدولة و النظام و كانت و لا زالت الأيديولوجيات الناتجة عن هذا المبادئ تعرف ( بالكمالية).
و أصبحت الكمالية هي أيدلوجيا القضاء على مصادر الصراع الطبقية و العرقية و الدينية عن طريق السعي لخلق اللاطبقية التركية و المجتمع العلماني المتجانس، و لذلك كان الخوف من الاختلاف هو المبدأ التوجيهي للدولة الكمالية و فضلا عن ذلك رأى الكماليون أن التغيير له شرعية فقط عندما تنفذه الدولة بنفسها، و لذلك اعتبر أي شكل من أشكال التحديث من أسفل إلى أعلى للمجتمع المدني مصدر شك و قلق خاصة عندما يدفعه الاهتمام الديني الذي يعد كتهديد للدولة العلمانية.
كانت مبادئ العلمانية مبنية على النموذج الفرنسي للعلمانية الذي يضع الدين تحت سيطرة الدولة و يزيل أي تعبير عن الدين من الحياة العامة، و في عام 1851 وقعت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا تحت حكم نابليون بونابرت ميثاق يضع سلطة الدولة فوق الكنيسة و طبقا لذلك الميثاق يوافق الفاتيكان على ترشيح الدولة الفرنسية الأساقفة و يعين جميع الكهنة المعنيين و يتقاضون رواتبهم من الدولة، و بالرغم من أن العلمانية التركية مبنية على النموذج الفرنسي إلا أنها ذهبت أبعد من ذلك و أنشأت سيطرة الدولة الكاملة على الدين ليس فقط بتعين الأئمة كموظفين حكوميين و لكن بتحديد الدولة محتوى خطب الجمعة التي يلقونها، و ذلك التحكم ما زال موجودا اليوم في تركيا المعاصرة.
والعلمانية في السياق الكمالي تعني تغلغل الدولة في الحياة اليومية و منح الاختلافات العرقية و الدينية و الإقليمية، و قال كل من يافوز و اسبوزيتو : ” و على عكس الأهداف المرجوة منه، فلقد ساعد المشروع الكمالي العلماني القومي في بناء إسلام معارض و أيدلوجي، لذلك أصبح الحفاظ على الدين يشكل العلاقة الجدلية في كيان الايدولوجيا الكمالية” و الخوف من الاختلاف خاصة الديني أصبح المبدأ الموجه للدولة الكمالية و يعد تهديدا للدولة.
سيطر النظام العلماني الفرنسي على السياسات التركية خلال سنوات حزب الشعب الجمهوري ( 1933-1950) حيث حكم حزب واحد البلاد و كانت الفلسفة الكامنة وراء ذلك أن الدولة تعلم ماهو أفضل لمصلحة الناس و أن حزب الشعب الجمهوري كان يحمي الإسلام من تأثير اللغات و الثقافات الأجنبية.
• نظام التعدد الحزبي في تركيا
كان تحول تركيا إلى نظام التعدد الحزبي في عام 1946- عندما تأسس و تشكل الحزب الديمقراطي – نقطة تحول في التاريخ السياسي التركي بما في ذلك دور الإسلام ف الدولة التركية، و في ذلك الوقت كان الإسلام تحت سيطرة الدولة و لكنه ظل مؤثرا في القوى الاجتماعية و الأخلاقية في تركيا، و انتقد الحزب الديمقراطي سياسة الحزب الجمهوري الشعبي في السيطرة التامة على الإسلام و لتهدئة الحزب الديمقراطي بدأ رئيس الوزراء في تخفيف حدة السياسات تجاه الإسلام بما في ذلك من إضافة مواد عن الإسلام في المناهج التعليمية، و عندما انتخب الحزب الديمقراطي للسلطة في 1950 استمر في منهج متشابه من العلمانية بالرغم من أنه سمح لعودة الآذان باللغة العربية و أزال الموانع التي تحظر ممارسة و تدريس الدين و بناء مساجد جديدة و لكنه مع ذلك عارض الإسلام السياسي و أي تحديات للطبيعة العلمانية للدولة.
أيد الحزب الديمقراطي التغيير في قانون العقوبات التركي الذي قدمته الإدارة السابقة و المادة الشهرة 163 التي تنص على أن يعاقب أي تحرك يهدف إلى تغيير النظام الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي و القضائي إذا اعتمد هذا التحرك ولو جزئا على المبادئ و المعتقدات الدينية، و عززت هذه المادة سيطرة الدولة على الدين، و أكدت على أنه لن يكون باستطاعة أي حركة إسلامية تحدي تلك السيطرة، و نفذ الحزب المادة 163 إلى أبعد من ذلك في عام 1943 من خلال تطبيق عقوبات على أي شخص أو مجموعة من شأنها استخدام الدين لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، و لقد وسع ذلك القانون سيطرة الدولة على الدين و أعطى الدولة القدرة على إسكات أي معارضة مبنية على التعليم الديني.
و أطاح انقلاب عسكري عام 1940 بالحزب الديمقراطي و أصبح حزب العدالة خليفته، و أراد نجم الدين أربكان الترشح لمنصب الرئاسة تحت مظلة الحزب الديمقراطي و لكن زعيم الحزب سليمان ديميريل رفض. و قد انتخب أربكان – الذي أصبح من أكبر الشخصيات السياسية و الفكرية في التاريخ التركي- في مجلس النواب عام 1949، و غالبا ما يقال ” إنه يعيد تعريف دور الإسلام في السياسة التركية”، و كان هدف أربكان هو توحيد الجماعات الإسلامية تحت قيادته السياسية من خلال خلق تغيير في النظام عن طريق العملية الانتخابية، و بسبب ميوله و تعليمه الإسلامي و طبقا للمادة 143 منع من العمل السياسي لمدة خمس سنوات، و في أواخر الستينات أصبحت تركيا مثل باقي العالم الإسلامي مهددة بالاشتراكية و كان الإسلام هو البديل لوقف صعود الاشتراكية، حتى إن الولايات المتحدة قامت بمساعدة ” الحزام الأخضر الإسلامي” الذي تضمن تركيا و إيران و باكستان و أفغانستان و أندونيسيا و ماليزيا و كل الدول الإسلامية كجزء من سياسة الاحتواء في الحرب الباردة بوقف المد الاشتراكي، و أصبح ينظر إلى الإسلام كعلاج للاشتراكية، و اكتشف العالم الإسلامي أن للإسلام دورا جديدا في السياسة، و كان أربكان من أكبر المتحدثين بصعود أهمية الإسلام في السياسة العالمية.
و قال أربكان باستمرار إنه ليس ضد العلمانية و لكن ضد الطريقة التي تطبق بها العلمانية في تركيا، و أراد إعادة تعريف العلمانية لتسمح بالممارسة الحرة للدين و نادى بتغيير المادة الثانية في الدستور التركي التي تعرف طبيعة علمانية الدولة و التي يمكن استخدامها لمهاجمة الدين من قبل الدولة.
و في انتخابات 1945 حصل على السلطة حزب العدالة الذي يعد امتدادا للحزب الديمقراطي السابق مع ديميريل كرئيس للوزراء، و كان ديميريل متعاطفا مع ممارسة الشعائر الإسلامية و يحضر صلاة الجمعة، و في الانتخابات اللاحقة خسر حزب العدالة أمام حزب الشعب مع أجاويد رئسا للوزراء، و استمر أجاويد قائلا بأن الناس يحتاجون للدين و يمكن للدين أن يكون وقود التطور.
و أتى انقلاب عسكر في عام 1980 بالوطن الأم المنتخب حديثا إلى السلطة تحت قيادة تورغوت أوزال الذي شدد على الأخلاق و التعليم الإسلامي كقوة ضد الاشتراكية، و دعم أزوال أيدلوجيا تركيا الإسلامية المركبة التي تجمع بين القيم الإسلامية و القومية و التركية. و تعتبر الإسلام مصدرا للأخلاق و لكن مع رفض الإسلام السياسي.
و قدمت تلك الفلسفة أيضا الإسلام باعتباره متلائما مع القومية و الديمقراطية الكمالية و الرأسمالية. و تحت إدارة أوزال. انتقلت تركيا إلى النظام الاقتصادي الرأسمالي وبدأ هو بتقديم الإصلاحات الديمقراطية، كما تمت إزالة المادة سيئة السمعة 143 من قانون العقوبات كجزء من عملية التحول الديمقراطي، و كذلك سمح تحرير الاقتصاد و طول فترة أوزال الديمقراطي، و كذلك سمح تحرير الاقتصاد و طول فترة أوزال بالسماح بإنشاء طبقة من منظمي المشاريع الحيوية و خلق فرص لوجود صحف و قنوات تليفزيونية مستقلة لا تقمعها النخب السياسية، و لقد جمع الوطن الأم بقيادة أوزال بين برنامج الاقتصاد الموجه عالميا و القيم الاجتماعية المحافظة.
و أصبحت السياسة الاقتصادية – تحت حكم الرئيس أوزال- القوة الدافعة في السياسة الخارجية التركية، و شدد أوزال على برنامج موجه للتصدير الذي فتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي و سمح لمهارات تنظيم المشاريع لرجال الأعمال أن تزدهر، و بعد ذلك فتح انهيار الاتحاد السوفيتي فرصا اقتصادية جديدة لتركيا في الدول المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفيتي السابق خاصة ف أهم المجالات ألا وهو الطاقة.
و قال أوزال إن القيود المفروضة على حرية الوعي تولد التعصب و ليس العكس، و في سعيه لمكافحة الشيوعية طلب تدريس الإسلام في التعليم الإلزامي في المدارس ، و ظهر أعضاء البرلمان و مجلس الوزراء في المساجد، و سمح بالحجاب علنا بناء على الحقوق المدنية للمواطنين و التي هي مضمونة في الدستور، و قال رافضو الحجاب إن أتاتورك جعله أشهر رمز للنظام الإسلامي و أن السماح به علنا تهديد مباشر موجه ضد علمانية الدولة المضمونة في الدستور .
مررت حكومة أوزال قانونا يسمح للطالبات الجامعيات بارتداء الحجاب و لكن المحكمة الدستورية رفضت هذا القرار و مع ذلك استمر العديد من الطالبات الجامعيات بارتداء الحجاب، و بقيت قضية الحجاب مصدرا أساسيا للصراع بين المجموعات المحافظة و العلمانية و الراديكالية في تركا، و بينما اعتبر العلمانيون الراديكاليون ارتداء الحجاب ضد العلمانية و ضد الكمالية، فقد اعتبر العلمانيون الليبراليون و المحافظون ارتداءه حقا أساسيا من حقوق الإنسان.
عكست قضية الحجاب أهم آثار السياسات الليبرالية الجديدة لأوزال التي مدت الإسلام إلى المجال العام، و أدى ذلك إلى تعاظم المجال الديني و توسع الشبكات الدينية في الاقتصاد ووسائل الإعلام و الأعمال الخيرية، فعلى سبيل المثال فإن تحرير الإذاعة مكن الأصوات الإسلامية مثل حركة كولن من التعبير عن نفسها على مختلف قنوات الراديو و التليفزيون و الصحف و المجلات، و تشكلت تلك الأماكن الجديدة تحت قيادة أوزال و خدمت تمكين المجموعات الإسلامية في تركيا و التي من ضمنها تلم المستوحاة من كولن.
ومع الليبرالية و التنوع الاقتصادي في تركيا و تم دمج الجماعات العرقية و الدينية في الحياة العامة و اكتسبت نفوذا و تأثيرا غير رسمي، و هيكلها الرئيسي كان داخل المدارس الدينية و اجتماعات شبكات الحلقات التي تتشارك في المحادثات و القراءات. و أحد مخرجات تلك الحلقات تشكيل فرص اتصالية جديدة و جمهور معارض يمكن من خلاله الترويج لكون المرء مسلما متدينا، و بهذه الطريقة تم إنشاء وعي ديني جديد جنبا إلى جنب مع الشعور بالمسؤولية الاجتماعية، و كان لتلك الحلقات القرائية تأثير كبير على الحياة السياسية و الاجتماعية لذلك امتدت الممارسات الدينية إلى مجالات اجتماعية أخرى تمنح الناس العلاقات و الشبكات و الفرص لبناء جمعيات أهلية.
بينما كان أربكان ممنوعا من السياسة لمدة عشر سنوات أسس أنصاره حزب الرفاه و انتخب الحزب في برلمان عام 1991، و بعد خمس سنوات انتخب أربكان كرئيس وزراء لتركيا، و كان أربكان نفسه يمارس علانية شعائر المسلمين وقد دافع طويلا عن وجود دور قوي للإسلام في الساحة السياسية. و مع انتخابه توسع النقاش حول دور الدين في السياسة و معنى ” الإسلام السياسي” في الوجود الجمهوري، و أشاد بإيران في مقاومة الغرب و تعهد بخروج تركيا من الناتو ( حلف شمال الأطلنطي) و إنشاء ناتو إسلامي و أمم متحدة إسلامية و نسخة إسلامية من الإتحاد الأوروبي و عملة إسلامية، بالإضافة إلى ذلك كان لحزب الرفاه رؤية تفصيلية للديمقراطية في تركيا من خلال استخدام الخطاب الديني و القيم التقليدية من الأخلاق الإسلامية، و قد أشاد بهذا الخطاب المجتمع التركي المحافظ و عارضه بشدة العلمانيون الذين يخشون قيام دولة إسلامية، و قام أربكان بعدد من الزيارات الجدلية للدولة الإسلامية مما جذب انتقاد العلمانيين.
و في عام 1998 بدأت لجنة عسكرية رفيعة المستوى تعرف بالمجموعة الغربية العاملة” التحقيق في حزب الرفاه، وكانت النتيجة تصريح صدر من مجلس الأمن القومي الذي يرى نفسه وصيا على الإصلاحات الكمالية و خاصة العلمانية، و فيه ينص على أنه ” تسعى مجموعات مدمرة و انفصالية إلى إضعاف ديمقراطيته و النظام القانوني بإحداث ضبابية في التمييز بين العلمانية و غر العلمانية” و كنتيجة لصدور تقرير ” للمجموعة الغربية العاملة، أجريت حكومة أربكان على تقديم استقالتها فيما يعرف ” بانقلاب ما بعد الحداثة” و منع أربكان مع بعض القيادات السياسية في الحزب من السلطة لمدة خمس سنوات وحل الحزب.
استعرض مجلس الأمن القومي خطة من 18 نقطة و يجب الموافقة عليها قبل دعم أي حكومة جديدة، و هدفت تلك الخطة للحد من تأثير الإسلام ف تركيا و تضمن مقترحات تفرض حظرا على المجتمعات الإيمانية و المنظمات الدينية و تطهير المناصب الحكومية من الشخصيات ” الرجعية” و تشديد القيود المفروضة على الملابس التي تحمل رمزية سياسة مثل حجاب النساء و تطهير ضباط الجيش ممن له أنشطة و تعاطف إسلامي، و قال بعض المحللين إنه منذ الانقلاب العسكر عام 1980 لم يكن هناك شيء حاسم في الحياة التركية مثل تلك الأفعال التي قام بها مجلس الأمن القومي في فبرار عام 1998 لأن الجيش أكد سيطرته على الحياة السياسية في تركيا، و في عام 1998 أغلقت المحكمة الدستورية حزب الرفاه بسبب أفعاله ضد مبادئ الجمهورية العلمانية، و شكل أعضاء من الحزب المطاح حزب يخلفه وهو ” حزب الفضيلة” الذي أصبح فيما بعد أكبر حزب في البرلمان.
و في عام 1998 شكل مسعود يلماز – رئيس الوطن الأم- حكومة جديدة و أصبح رئيس وزراء تركيا ودفع قدما ” عملية 28 فبراير” التي هدفت إلى الحد من تأثير الإسلام في الحياة العامة، ووضع قيودا للقبول في مدارس الأئمة و الخطباء و تعليمات لوزير التعليم لفرض قوانين مع الحجاب من المدارس و الجامعات و الأماكن العامة، و احتجزت الشرطة 20 من قيادات رجال الأعمال المسلمين بناء على اتهامات لهم بتوفيرهم تمويل للأنشطة الإسلامية” وطالب رئيس هيئة الادعاء بإغلاق جمعية ” موصياد” وهي جمعية رجال الأعمال و الصناعيين المستقلين لديها ميول دينية.
و في خضم التحقيقات حول الفساد السياسي و العلاقات مع الجريمة المنظمة ” المافيا” انهارت حكومة يلماز في 1998 و أصبح أجاويد – رئيس حزب اليسار الديمقراطي – رئيسا للوزراء، و كانت حكومته فعالة ف بدء الإصلاحات الاقتصادية الضرورية و إصدار تشريعات حقوق الإنسان و تقريب تركيا من القبول بالاتحاد الأوروبي، و أدى عدد من الصدمات الاقتصادية إلى انتخابات جديدة في عام 2002 ووصل للسلطة حزب التنمية و العدالة المحافظ دينيا الذي أسسه رجب طيب أردوغان مع نسبة تصويتية 34% ، و في عام 2007 فاز حزب التنمية و العدالة مع نسبة تصويتية أكبر من السابقة بلغت 36% و انتخب عبد الله جول كرئيس و أردوغان كرئيس للوزراء.
يصف حزب التنمية و العدالة نفسه كحزب معتدل و محافظ و موالي للغرب و يدعو لاقتصاد السوق الحر و عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، و اعتبرت بعض المطبوعات المؤثرة كمجلة ” لإكونومست” حكومة حزب التنمية و العدالة أكثر الحكومات نجاحا في تركيا على مدى عدة عقود، و قيم فولز نائب الرئيس السابق لمجلس الاستخبارات القومي بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن تركيا أنتجت حركيتين إسلاميتين ديناميكيتين كان لهما أهمية كبيرة ليس فقط في تركيا و لكن في الإسلام المعاصر عموما وهما : حزب التنمية و العدالة السياسي، و الحركة المجتمعية غير السياسية الكبرى لفتح الله كولن، و تعهد حزب التنمية و العدالة باحترام المعتقدات الدينية و دعم القيم الأخلاقية و لكن في سياق دولة علمانية، و كانت العلمانية تعني لدى الحزب عدم تدخل الدولة في الدين. و بالنسبة لحزب التنمية و العدالة يظل الدين أهم المؤسسات الإنسانية لتشكيل الأخلاق و النظام الاجتماعي و لكن المؤسسات الدينية يمكن أن تستمر بشكل أفضل في مناخ من الحرية الدينية.
و غالبا ما اتهم النقاد الحزب بإخفاء أجندة إسلامية، و أكد أردوغان أن حزب التنمية و العدالة ليس حزبا سياسيا ذا محور ديني، بل هو يدفع نحو الإصلاحات الاقتصادية و الديمقراطية بالإضافة إلى التأكيد على القيم الأخلاقية، رأى أردوغان تلطيف صورة الحزب الإسلامية ببناء تحالفات واسعة المدى مع أحزاب يمين الوسط و دعم تركيا في محاولاتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، و بالرغم من تصريحات الحزب إلا أنه قام بالعديد من التغييرات التي يمكن أن تفسر على أنها غير علمانية أو أن جذورها إسلامية، و لقد اتهم الحزب بوضع أشخاص رافضين للعلمانية في مكاتب الحكومة و منح عقود حكومية لشركات و أفراد توجههم ديني، و في عام 2007 مرر حزب العدالة و التنمية قانونا لرفع حظر الحجاب في كل الجامعات، ز انتقدت الأحزاب العلمانية تلك الأفعال. و في عام 2007 أدت تلك الانتقادات إلى تقديم لوائح اتهام للمحكمة الدستورية في تركيا تنادي بغلق حزب التنمية و العدالة، و كان المبرر أن الحزب أصبح ” مرتعا للأنشطة المعادية للعلمانية”، و من هنا فهو مخالف للدستور التركي، و في 30 يوليو عام 2008 أصدرت المحكمة الدستورية حكمها وهو إسقاط توجيه الاتهام إلى حل حزب التنمية بفارق صوت ( 5 أصوات موافقة و ستة أصوات معارضة).
و كما يوضح هذا المختصر التاريخي فإن القضايا المتعلقة بمسألة العلاقة بين الإسلام و الدولة سيطرت على السياسة التركية منذ ولادة الجمهورية التركية في عام 1923 و حتى قبل ذلك في العقود الأخيرة في الإمبراطورية العثمانية، و استمرت السيطرة على الشؤون الانتخابية و التشريعية والقضائية في ذلك البلد فلا توجد قضية أخرى جدلية و قوية في المشهد السياسي التركي مثل هذه.
و في هذا السياق التاريخي التركي تعلم و تدرب وطور فتح الله كولن أفكاره الدينية، و كان إماما وواعظا مشهورا، و أنشأ حركة صارت دولية الآن و تزدهر عالميا و تواجه انتقادات من العلمانيين الذين يخافون من أن كولن يحشد أتباعه بهدف إنشاء دولة إسلامية في نهاية المطاف.

مقدمة الكتاب