إننا نمرُّ بفترة من الفوضى يحيط بها كثير من الأكاذيب والافتراءات؛ بعض الدوائر السياسية يرى أن من حقه الافتراء على الناس، والبعض الآخَر يقضي يومه في اختلاق الأكاذيب، ولكن هذه الأكاذيب والافتراءات ستُحدِث جروحًا كبيرة في كل شريحة من شرائح المجتمع، وإنّ للشعور بالغضب حد أقصى يجب أن نبقى بعيدين عنه، لكن للأسف، اختفت جُلُّ قِيَمنا الأخلاقية.
يمكن بسهولة أن يتعرض شخص أو مجموعة أشخاص، في دقيقة واحدة، للإهانة، بعدما كانوا يُمدَحون قبل قليل بأجمل الأوصاف، وهكذا فالناس لا يتصرفون بحِسٍّ من العدل والاعتبار، فعندما تختلّ الموازين يوصَف الناس إما بـ”الأبطال” وإما بـ”الخونة”، إن ممارسة تقديس الناس أو شتمهم تشبه إلى حدّ كبير بعض الطقوس البدائية، وتخلق شعورًا بعدم الارتياح داخل المجتمع، كما أنها تهدِّد استقرار السلام، ويُعرَّف “تحريض عموم الناس على الكراهية والعداء” بأنه “جريمة يعاقب عليها القانون”، وهذا جهدٌ من جانب النظام القانوني لضمان السلم الاجتماعي، فإن تجارِبَ مريرة جدًّا واجهت العالَم دفعت القانون الدولي إلى إيلاء جرائم الكراهية أهمية كبيرة، حتى نتمكن من منع التمييز والاغتراب أو شيطنة مجموعة معيَّنة.
هذا المقال إذًا يحاول رصد بعض الجوانب الاجتماعية والأخلاقية لهذه المسألة، ويبدو أن التشكيك أو التشهير وإهانة الناس يصبح سهلًا عندما لا تكون المعايير صارمة، يكفي أن ننظر إلى بعض الأمثلة حتى نفهم كيف يُكرَه بعض الناس إلى حدّ البُغض بسبب قيمهم ومعاييرهم الشخصية.
فـ”أَرْطُغْرُلْ غُونَايْ (Ertuğrul Günay)”، الذي شغل منصب وزير الثقافة في حكومة حزب العدالة والتنمية لمدة ستّ سنوات، كان في ما مضى يحظى باحترام كبير من قِبَل أعضاء حزب العدالة والتنمية، وقد أُجبرَ على الاستقالة من حزب العدالة والتنمية عندما انتقد بعض تصرُّفات الحكومة، وبعد ذلك كان ضحية عديد من الانتقادات الجارحة من أنصار حزب العدالة والتنمية.
أما وزير الداخلية السابق “إدريس نعيم شَاهِينْ (Şahin)”، الذي كان لفترة طويلة أحد المقربين من رئيس الوزراء “رجب طيب أَرْدُوغَانْ”، وكان أحد مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وعمل بجدٍّ وتفانٍ لسنوات من أجل إنجاح الحزب، فقد علم عموم الناس أن “شَاهِينْ” لم يكُن مرتاحًا لهيمنة حفنة من الأوليغاركية تضمّ سياسيين وبيروقراطيين ذوي نوايا غير واضحة، على حزب العدالة والتنمية، خصوصًا بعد تحقيقات الفساد التي انطلقت في 17 ديسمبر 2013م، وزير الداخلية السابق هذا، الذي كان شخصية محترمة إلى حدّ كبير من طَرَف حزب العدالة والتنمية، أصبح الآن متهَمًا بالخيانة.
“أَرْدُوغَانْ بَيْرَقْدَارْ (Erdoğan Bayraktar)”، وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق ورئيس إدارة تنمية الإسكان بتركيا، هو أيضًا كان قريبًا من أَرْدُوغَانْ وصديقًا قديمًا له، استقال من حزب العدالة والتنمية ومن منصبيه وزيرًا ونائبًا برلمانيًّا، بسبب تعرُّضه لضغوط من أجل تقديم استقالته، تحت ذريعة إنقاذ الحكومة، وأضاف أن معظم التعديلات التي طرأت على خطط البناء التي أُثيرت في تحقيقات الفساد جاءت بناءً على أوامر أَرْدُوغَانْ، منذ ذلك الحين، تَعرَّض لانتقادات عنيفة بكلمات نابية لا تُقال حتى في قتال الشوارع.
الأمر نفسه ينطبق على “هَاكَانْ شُوكُورْ (Hakan Şükür)”، نجم كرة القدم الدولي السابق الذي كان يُعتبر “أيقونة” تركية في العالَم، فعندما استقال “هاكان” من الحزب احتجاجًا على مخطَّط الحكومة لإغلاق المعاهد الأهلية للتحضير الجامعي في تركيا، تَعرَّض لهجوم بأقذع الشتائم.
وفي بعض الحالات تُعكَس الأمور، فعندما يبدأ مَن انتقدوا حزب العدالة والتنمية وأَرْدُوغَانْ بانتقادات لاذعة، في التراجُع عن ذلك، ويستبدلون به المدح والثناء على رئيس الوزراء والحزب، يرحَّب بهم ويُصفَّق لكلماتهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، وهذه عيِّنة منها:
“سوف نقضي على هذه الحركة (يعني حزب العدالة والتنمية) التي تتميز بفسادٍ عميق الجذور، فالشيء الوحيد الذي فعلوه هو الإساءة إلى مشاعر الناس الدينية” (29 مارس 2009م)، هذه كلمات زعيم الحزب الديمقراطي السابق “سليمان صُويْلُو (Soylu)”، الذي غيَّر مواقفه تمامًا عندما انضمَّ إلى حزب العدالة والتنمية، وقد قال مؤخَّرًا إن “أَرْدُوغَانْ هو رئيس الوزراء الأبدي!” وأعقب ذلك سيلان من التصفيق الحماسي.
أما “نُعْمَانْ كُورْتُولْمُوشْ (Numan Kurtulmuş)”، الزعيم السابق لكل من “حزب السعادة (SP)” و”حزب صوت الشعب (HAS)”، فقد انتقد ذات مرة حزب العدالة والتنمية قائلًا: “نحن لن نتبنَّى أبدًا القيم المادية”، وقد أزعج تعليقه هذا كبار المسؤولين التنفيذيين في حزب العدالة والتنمية، ثم أضاف على انتقاداته تلك قوله: “على عكس حزب العدالة والتنمية، نحن لن نتصرف بطريقة الفراعنة، ولن يكون بيننا لصوص”، وقال أيضًا: “على عكس أَرْدُوغَانْ، فنحن لن نتعقب آثار الولايات المتحدة وإسرائيل”، وبالنظر إلى ردود أفعال الحزب على تصريحات “كُورْتُولْمُوشْ” هذه، فقد يظن المرء أن لعنة حزب العدالة والتنمية ستتبعه إلى الأبد، غير أن “كُورْتُولْمُوشْ” الآن هو نائب رئيس حزب العدالة والتنمية، ويحظى باحترام وإشادة وتصفيق أعضاء الحزب!
إنني لا أريد الإشارة إلى سلوك بعض المؤسسات الإعلامية، لكثرة الأمثلة السيئة التي يتعذّر ذكرها جميعًا هنا، من بينها، شخص أُقِيلَ من منصبه بسبب انتقاده المبادرة الكردية، فأصبح عضوًا في لجنة الحكماء التي أُنشئَت لتعزيز وشرح عملية التسوية مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي للجمهور! وقد استُبعِدَ هذا الشخص لأنه انتقد الفساد، كما أن الحكومة استعملته درعًا واقية بعد إطلاق تحقيقات الفساد في 17 ديسمبر 2013م، وتوجَد أمثلة أخرى، كمن دعم بقوة قضية الإغلاق المرفوعة ضد حزب العدالة والتنمية، لكنه أصبح بعد ذلك من مؤيدي حزب العدالة والتنمية الكبار، كأولئك الذين وجَّهوا يومًا انتقادات لاذعة ضدّ حزب العدالة والتنمية، لكنهم يحاولون الآن أن يجعلوا لأنفسهم مكانًا داخل الحزب من خلال مدح الحكومة بعبارات متملقة مُضجِرة.
إنني لا أنوي إطالة النقاش، فقد تجاوز بعض الناس حدوده، مشيدًا كان أو منتقدًا، فإذا كنت تدعمهم فأنت الأفضل، ولكن عند انتقادك لهم فعشرات من التسميات -بما في ذلك الخيانة- موجودة لتصنيفك ظُلمًا، كما أنه لم يعُد غريبا التلفُّظ بمثل هذه الكلمات غير اللائقة، التي قد تمهِّد الطريق لصراع اجتماعي إذا تغلغلت إلى مستويات أخرى من المجتمع، قد يدعم الناس حزبًا ما ثم يتوقفون عن ذلك الدعم، والعكس بالعكس، أو قد يستمرون أحيانًا في تقديم الدعم مع انتقادهم هذا الحزب على أفعاله حول بعض القضايا، هذه حقيقة من حقائق السياسة، كما أنها تنطبق أيضًا على اختيارات الناس في حيواتهم، المهمّ حقًّا أنه لضمان السلم الاجتماعي يجب إدخال قواعد ومعايير الديمقراطية التعدُّدية في نظامنا السياسي، ورسم الطريق الصحيح لبلادنا، من خلال الاستفادة من النقد البنَّاء، أما الخطابات القاسية والمتعصبة فلا تؤدِّي إلا إلى الصراع الاجتماعي والإضرار بشرعية السياسة.
إذا كانت الكلمات التي لم تُقَل بعدُ جارحة جدًّا.. فماذا عن كل تلك التي قيلت بالفعل؟
إنني عادةً لا أحب الظهور في البرامج التليفزيونية، فذلك يوتر أعصابي قليلًا، كما أنني أخشى قول شيء خاطئ فأُشعِر الناس بالحرج أو الضيق، لكن على الرغم من هذا لا يمكنني تحت ضغط وإصرار زملائي أن أتغاضى عن قول شيء حول القضايا التي تراكمت مؤخَّرًا، وقد حدث هذا بالفعل، وشاركت في برنامج متين يكار على قناة “سَامَانْيُولُو (Samanyolu)” الإخبارية.
لقد حاولتُ التعبير عن ردود الأفعال الشعبية، وحاولت أن أشرح أن الضمائر الحية لا يمكن أن تقبل الظُّلم الذي عومل به مؤخَّرًا فتح الله كولن، في الواقع لقد فشلتُ في التعبير بشكل صحيح عن الاستياء الناجم عن هذه الهجمات ضدّ السيد كولن ومحبيه، فهناك حقًّا استياء كبير جدًّا! وقد أصيب كثيرون بخيبة أمل كبيرة وأُهِينُوا بكلمات كـ”العصابة”، و”الكهف”، والدولة الموازية… هؤلاء الناس اللطفاء لا يستحقُّون مثل هذه الكلمات القاسية.
وبالفعل فاتِّهامات الحكومة لحركة الخدمة وتسميتها بـ”حشاشي العصر الحديث” -في إشارة إلى جماعة “الحشاشين” الذين كانوا في القرن الثاني عشر في كل من بلاد فارس والشام سفاحين يقتلون الناس وهم في حالة سُكْر (ويسمَّون كذلك بـ”القتلة”) -لا تتطابق مع الحقائق التاريخية، إن هي إلا محاولاتٌ لتشويه سمعة “الخدمة”، ولك أن تتيقن أن هذه الافتراءات لن تنال من شرف الخدمة، لأن الخدمة وأفرادها مرُّوا بآلاف الاختبارات ولم يثبت عنهم قَطّ تورُّطهم في أعمال غير قانونية.
وقد سبق وقلت، في إطار محاولتي توضيح خطأ التشبيه بـ”الحشاشين”، إن استعارة حوادث تاريخية بمنطق نَسْخِيّ أمرٌ غير صحيح، وشرحت كيف أن من هم في الوسط السياسي قد تزعجهم الديناميكية المجتمعية، وبيَّنتُ كيف أن هذا الأمر تَسبَّب في خلافات كثيرة على مرّ التاريخ، ثم أضَفْتُ أن بعض المُغرِضين حاولوا زرع بذور الشقاق بين الإداريين والعلماء.
ومن الأمثلة على هذا، يزيد الأول الخليفة الأموي الثاني الذي أمر بقتل الحسين بن علي، حفيد النبي محمد ، وقتل آله وأتباعه في مذبحة “كربلاء”، وقد شرحتُ كيف استفزَّ يزيدَ الأولَ بعضُ المُغرِضين، وكيف حُرِّض على ارتكاب مثل هذه الجريمة الكبرى التي نقضت كل إنجازاته قبلها، كنت حينها أتحدَّث عن المغرضين الأكثر مَلَكِيَّة من الملك، الذين يثيرون الكراهية بين الإخوة.
وعلى الرغم من كل هذا، فقد أخذ بعض الناس كلامي على محمل الخطأ، وظنُّوا أنني أحاول من خلال سردي هذا المثال منع واقعة كربلاء جديدة من الحدوث، كأني شبَّهتُ رئيس الوزراء بيزيد الأول! وهذا مؤسف جدًّا، لأنني لم أشبِّه أحدًا بيزيد الأول، لقد كان هدفي هو درء نار الفتنة التي أوقدها بعض المغرضين ونفخوا فيها، وقد أدَّى هؤلاء المغرضون واجبهم وشنُّوا حملة سوداء عن طريق تأويل وتعميم كلمات غير مباشرة، وهذا هو بالضبط ما يفعله صانع الأذى.
وبين هذا وذاك، يبقى الأبرياء في حيرة من أمرهم، يسألون أي الفريقين أحقّ، وقد يؤذيهم هذا، إن استياء هؤلاء الأبرياء يؤلمني حقًّا، وإذا كانت الكلمات غير المباشرة تُلحِق أذًى كبيرًا، فما حال الكلمات المباشرة: العصابة، “الكهوف”، “المنظمات الإجرامية”، وأسوَؤُها “الحشاشون”؟! فماذا عسانا أن نفعل بهذا يا رب؟!
دعونا نرَ ما قاله رئيس الوزراء خلال اجتماع الجمعية العمومية العادية الرابعة للاتحاد التركي لرجال الأعمال والصناعيين “تُوسْكُونْ (TUSKON)” في مارس من عام 2012م:
“إنكم لم تُدعَموا من قِبَل قُوَى الظلام، ولم تُدعَموا من قِبَل المافيا والعصابات وأنظمة المجلس العسكري، ولم تُدعموا مِن قِبَل المصرفيين في جَلَطا، إنكم لم تستغلُّوا موارد خزينة الدولة أو البنوك العمومية، ولم تتصرفوا وَفْقَ أيديولوجية ما، كما أنكم لم تستسلموا للضغوط وحواجز الطريق، إنكم فقط وثقتم بالناس، لأنكم فقط اعتمدتم على الناس، إنكم عظماء، وتجعلون هذا البلد عظيمًا“.
“إن هؤلاء لا يتورّعون عن استغلال “الهوية الإسلامية” إلى أقصى حدودها، كما أنهم يستعملون “كلّ الطرق والوسائل المشروعة” في سبيل الدفاع عن أخطائهم وكَيلِ الاتهامات للآخرين، إن هذا المنهج لا يتوافق إطلاقًا وروح الإسلام، إن الكذب رأس كل خطيئة، وقد يُخرج المؤمن من الملّة في نهاية المطاف ويحوّله إلى شيء آخر، وعندها من الممكن أن يرتكب أفظع الجرائم، حفظنا الله وإياكم“.