كُتبت هذه المقالة دون انتظار الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم الأحد 30 مارس 2014م، ولا ريب في أنه كان من الممكن الانتظار بضع ساعات لكتابة مقالة وفق النتائج.

وفي الواقع، ثمة عديد من الكتّاب يفضلون وينتهجون هذه الطريقة؛ لأن ثمة منطقًا في هذا، بيد أن تحديد الحق والعدل وتوزيعهما حسب نتائج الانتخابات في دولة لم تكتمل فيها بعدُ عملية إرساء وترسيخ الديمقراطية والقانون، غالبًا ما يؤدي بنا إلى الاتجاه غير الصحيح، وما دمنا نواجه مشكلات اصطفت كالجبال الشاهقات، فهذا يعني أن ثمة مسائل ينبغي طرحها وبقوةٍ بغض النظر عن نتائج الانتخابات.

نعم، قد يكون مهمًّا جدًّا معرفة الفائز في الانتخابات؛ إلا أن الأهم من ذلك هو ما سيفعله الفائز وما يتوجب عليه عمله، ومن المؤسف حقًا أن نقول إن تركيا تُدار بسياسة خاطئة، لا سيما في السنوات الأخيرة، جعلتها غيرَ مستقرة ومضطربة على الصعيد المحلي، وسيئةَ السمعة وغيرَ مرغوب فيها على الصعيد الدولي.

ولعل أحد أهم الأسباب التي جعلت تركيا غير مستقرة داخليًا هو لهجة خطاب الحزب الحاكم، الذي يدعو إلى التمييز والطائفية اتجاه كل معارضيه، والذي أدى إلى أن يعمّ التوتر جميع أنحاء البلاد بسبب هذا الأسلوب المرفوض في الخطاب، وإساءة الأدب ضد كل من عارض أيًّا من سياساته مستغلًا إمكانيات الدولة، لا سيما الإعلام الموالي له، وشنّ هجومًا على الليبراليين والديمقراطيين واليساريين واليمنيين والمتدينين والعلويين والأكراد والجماعات والحركات الدينية، والنظر للجميع بعدوانية، وخلق أجواء الكراهية والضغينة بين الناس.

إن فئة من الشعب لم تكن تحب وتؤيد رؤساء الجمهورية السابقين؛ إلا أن المجتمع لم يشهد شرخًا وانقسامًا مثل الذي نراه اليوم، وا أسفاه على ما آل إليه شعبنا بسبب التفرقة والكراهية!

نرى أن محبي أدوغان ارتدوا أكفانهم ويؤازرونه بحماسة وبلا وعي أو تفكير، وأصبحت على أبصارهم غشاوة ولا يرون أية أخطاء له، أو بالأحرى باتوا يقدسون هذه الأخطاء، وهم لا يعلمون أنهم بذلك يضرونه أكثر مما ينفعونه.

ولا شك في أن العامل الرئيس الذي يدمر زعيمًا ما هو التفاف المتملقين حوله بدلًا من قائلي الحق، وأما كارهوه فيتجاهلون صفة رئاسة الوزراء التي يحملها أَرْدُوغَانْ ويكرهونه، ولا يعيرون بالًا حتى لأعماله الإيجابية، وماذا ستربح تركيا إذا كان رئيس جمهوريتها يستخدم نفس المنطق الذي كان يستخدمه وهو رئيس الوزراء؟ لا شيء أبدًا، وإذا صعد أَرْدُوغَانْ قصر “تشانْكَايَا (Çankaya)” واستمر في استخدام لغته الداعية للتمييز والترهيب، عندها ستنقسم هذه الدولة، وستدمر روحًا وجسدًا، ولعل هؤلاء المداهنين يدركون ذلك أو لا يكترثون له، وللأسف ثمة توتر خانق نتيجة للضغوطات على جميع طبقات المجتمع، وربما يمكنك الفوز في الصناديق بهذا الاستقطاب، إلا أنك ستضع تركيا على شفير الانهيار.

وأيّا كان مَن صعد قصر الرئاسة؛ فأول عمل مُكلف به قبل أن يشرق ضوء الشمس هو معانقة كل أفراد هذه الدولة الذين يعيشون على أرضها والتعامل معهم معاملة واحدة بالتساوي دون النظر إلى دينهم وعرقهم ومذهبهم وهويتهم واختياراتهم السياسية ورؤاهم الفكرية؛ إذ إنّ قصر “تشانْكَايَا” ليس مقرًا لتفتيت وتمييز البعض عن الآخر، إنما مصدر لتوحيد الشعب بجميع أطيافه، وعليه أن يرى الصورة بشكل أوضح بكامل فسيفسائها؛ لأنه لا يمكن له أن يقوم بخُدع سياسية من هذا المنصب أو يحيك المؤمرات ضد فئة من الشعب أو يبث العداء بين الناس أو يضع الدستور والقوانين تحت إمرته وطوعه، أيّا كان الرئيس فإن لم تتسع زاوية نظره من فوق أعلى منصب سياسي في الدولة، ولم يعانق الشعب على اختلاف مشاربه وتوجهاته السياسية والدينية والعرقية؛ فلن يدوم طويلًا في منصبه بلا شك.

قلنا في معرض حديثنا إن تركيا فقدت اعتبارها وسمعتها على الصعيد الدولي، بالله عليكم هل يمكن زعْم شيء آخر غير ذلك! لم نعد نرى اليوم الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” يرد على اتصالات أَرْدُوغَانْ، وأسباب ودواعي هذا معلومة للجميع، لدرجة أن الاتحاد الأوروبي الذي كان يصفق لجميع الخطوات المتخذة في سبيل الديمقراطية حتى الأمس القريب، يعطي اليوم رسائل تحذر بانصياع تركيا للفوضوية في الانتهاكات القانونية واللاديمقراطية.

أيّا كان مَن صعد قصر الرئاسة؛ فأول عمل مُكلف به قبل أن يشرق ضوء الشمس هو معانقة كل أفراد هذه الدولة الذين يعيشون على أرضها والتعامل معهم معاملة واحدة بالتساوي دون النظر إلى دينهم وعرقهم ومذهبهم وهويتهم واختياراتهم السياسية ورؤاهم الفكرية.

هذا فضلًا عن أن سياسة تركيا نحو سوريا قد أفلست؛ إذ كانت تظن أن الأسد سيسقط في ظرف أسبوع واحد، بيد أنه يدخل الآن عامه الخامس وقد خرج منتصرًا في الانتخابات الماضية، زد على ذلك فإنه يسعى لإحداث بلبلة وفوضى في الداخل التركي بالتعاون مع حلفائه المؤيدين له، وعلى رأسهم روسيا وإيران، حتى إن فكرة النموذج التركي التي كانت تراود المصريين باءت بفشل ذريع؛ إذ إن الحكومة التركية التي شجعت “محمد مرسي” عجزت عن مساعدته ولو بأقل القليل، وقطعت جميع علاقاتها بمصر وآلت إلى سياسة عقيمة ليس لها القدرة على الإنتاج، هذا فضلًا عن أن “السيسي” فاز بنتائج كاسحة، وبات الساسة الأتراك عاجزين عن الحديث ولو بكلمة بشأن فلسطين وغزة، مع أننا كنا ننتظر من الحكومة أفعالًا لا أقوالًا، لا سيما في الفترة الراهنة التي تعصف بها، واقتحمت عناصر داعش الإرهابية القنصلية التركية في مدينة “الموصل”، وها نحن لا نزال حتى اليوم لم نتلق أية أخبار عن الرهائن الدبلوماسيين البالغ عددهم 49 دبلوماسيًّا احتجزتهم، وقد مضى حتى الآن 62 يومًا.[1]

لقد تغيرت حسابات تركيا بعدما آلت إلى مواقف تُرثى عليها، وأضحت دولة غير مرغوب فيها داخليًا وخارجيًّا، وقد تكون الانتخابات مناسبة لإزالة الشوائب التي تعتليها أو لاستعادة عافيتها وصلب قوامها ومراجعة حساباتها، ويكفيها فقط أن تدرك مدى خطورة الموقف الذي آلت إليه.

ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول في هذه الأيام المظلمة التي عُلِّق فيها القانون وأُضفي على العشوائية صفة القرارات الديمقراطية واستُقطب فيها الشعب بتعنت: ستخسر! ستخسر حتى وإن كنت أنت الفائز، وأمامك طريق واحد للتخلص من هذه العاقبة الحزينة؛ ترك الظلم، والعودة إلى الحق والعدل، والعدول عن الكبر والاستبداد وتَقَبُّل حقيقة أن كل فرد على هذه الأرض متساو مع غيره في الحقوق والواجبات.

كانوا بالأمس يقولون إن الدولة الكافرة لا بد أن تنهار، في حين أنهم أصبحوا اليوم يتصرفون بفتاوى تجيز قتل الأخ حسبما تقتضيه تقاليد الدولة، وكان هؤلاء الإسلاميون يقولون البارحة إنهممستضعفون، لكن مع الأسف فإن أكثر وصف يليق بهم اليوم هو أنهممستكبرون، فالكبر الذي يبثونه عبر شاشات التليفزيون يبدأ من قمة الهرم لديهم، ويستمر إلى القاعدة بنفس الطريقة الخطابية“.

 

[1]  أطلق سراح الرهائن الأتراك التسعة والأربعين في تاريخ 20 سبتمبر 2014م. (المحرر)

فهرس الكتاب