بدأت الأوضاع في تركيا تتبدل، حيث سيودّع الرئيس “عبد الله كُولْ” منصبه فعليًّا بعد يومين، بعد سبع سنوات أمضاها في قصر “تشانكايا (Çankaya)” الجمهوري بالعاصمة “أنقرة”.
إن أبواب حزب العدالة والتنمية موصدة في الوقت الراهن أمام “عبد الله كُولْ”، مؤسس الحزب، الذي يرغب في العودة إلى صفوف الحزب، ولقد انتخب “رجب طيب أَرْدُوغَانْ”، الذي يتزعم الحزب الحاكم منذ 12 عامًا، ليخلف “كُولْ” في منصب رئيس الجمهورية، ومن ثم تنازل “أَرْدُوغَانْ” عن رئاسة الحزب إلى وزير الخارجية “أحمد داود أُوغْلُو”، وبما أن الحزب لن يقدم مرشحًا آخر في المؤتمر العام، فإنه من المؤكد أن “داود أُوغْلُو” سيتولّى رئاسة الوزراء والحزب، ومن المقرر أن يشكّل رئيس الوزراء الجديد مجلس وزراء جديد، ليخوض بهذه الحكومة الانتخابات البرلمانية بعد 10 أشهر (يونيو / حزيران 2015م).
لقد حققت حكومة حزب العدالة والتنمية العديد من الإنجازات المهمة للغاية على مدار 12 عامًا؛ إذ بادرت إلى إجراء إصلاحات في سبيل تحقيق عملية التحول الديمقراطي حتى عام 2010م، الأمر الذي زاد تركيا اعتبارًا على المستوى الدولي، حتى أن البعض اعتبرها “دولة نموذجية يحتذى بها”، بيد أن الحكومة التركية بدأت تشعر بالتعب والإنهاك، كما هو حال كل الحكومات، وهو أمر طبيعي في عالم السياسة، فمهما كان مستوى نجاحكم، فإن مجموعة من الأحداث والإجراءات تهزّ كيان الحكومات وتزلزله.
إن حكومة حزب العدالة والتنمية خاضت اختبارات صعبة للغاية خلال السنوات القليلة الماضية، وتعرضت لانتقادات لاذعة منذ الاستفتاء الشعبي الذي أجري عام 2010م، وتسبب تعاطي الدولة مع أحداث “تقسيم ( Gezi parkı)” في صدور ردود أفعال غاضبة كبيرة في الداخل والخارج، وعلّقت الدولة العمل بالدستور والقوانين عندما تلقت اتهامات من النوع الثقيل مثل الفساد والرشوة خلال مراحل العملية التي بدأت يوم 17 ديسمبر / كانون الأول 2013م، أما حرية الإعلام فقد دُمرت تمامًا في السنوات الأخيرة، كما تعرضت طبقات مجتمعية مختلفة لضغوط لم تشهدها من قبل، لقد انحرف الأسلوب، وألغيت الخطابات الديمقراطية منذ زمن بعيد، وحل مكانها طريق تصادمي وتمييزي واستقطابي، وتحولت ادعاءات “الكيان الموازي” التي يكررونها ليل نهار منذ ثمانية أشهر إلى حالة من الجنون، وتسببت ادعاءات “مطاردة الساحرات” في تشكيل شبكة عريضة من المخبرين، ليظهر عدد كبير من المظلومين الأبرياء.
لقد تعرض أتباع الطائفة العلوية لكثير من الإساءات والمضايقات في إطار حالة الاستقطاب هذه، العلمانيون، الليبراليون، الديمقراطيون، الجماعات، الجمعيات… أُسيءَ لكل شخص لم يقدم فروض الولاء والطاعة لحزب العدالة والتنمية.
هناك –للأسف– كثيرون يشعرون بالضيق والحزن اليوم في ظل الظروف الراهنة، وهذه الحالة من الغضب العارم ليست منتشرة بين المعارضة فحسب، بل انتشرت أيضًا بين الأوساط التي تدعم الحكومة وتدعم أَرْدُوغَانْ سياسيًا، وثمة بعض أنصار الحزب والموالين له يستخدمون لغة عدائية وحادة من شأنها أن تتسبب في حدوث انزعاج في قاعدة الحزب الشعبية، فيحصل الجميع من صحف وسياسيين ومثقفين على نصيبه من خطاباتهم العدائية، وإن الحدة التي يتصرف بها الحزب الحاكم في التعامل مع من لا يفكرون مثله، وحتى أولئك الذي يفكرون مثله لكن لم يمنحوه أصواتهم في الانتخابات، يعمّق جراح الانقسام والصراع.
المشهد السياسي في تركيا يعرف حاليًا تأسيس توازن جديد، تتغير المناصب، حيث يمتلك الأشخاص الجدد الذين سيتولون هذه المناصب فرصة للتخلص من تعب السنين، لذا يجب على كل صاحب مسؤولية أن يفتح صفحة جديدة، وأن يضع حدًّا لسير الأحداث السيئة في تركيا، رئيس جمهورية جديد، رئيس وزراء جديد، حكومة جديدة، كوادر حزبية جديدة… يستطيع الجميع أن يبدؤوا مرحلة جديدة في ظل “إحساس من الجدية يليق لمنصبه”، أو بالأحرى ينبغي للجميع بدء هذه المرحلة، ذلك أن الصراعات أنهكت تركيا التي ضحت بحل مشاكلها الرئيسة في سبيل القضايا المصطنعة، هذا فضلًا عن فقدها لاعتبارها الدولي للأسف، ويشترط لتحقيق هذا أن تُصالح الدولة الشعب بكل أطيافه وتسير نحو الأفق ذاته من خلال قاسم ديمقراطي يسع الجميع، والتفكير فيما هو عكس ذلك يعني أن نرضى بأن تتضرر تركيا على مرأى ومسمع من الجميع.
أعلم أن السياسة في تركيا مبنيّة أساسًا على التوترات، وإن بادرتم بالقول: “علينا أن نفتح صفحة جديدة”، سيخرج عليكم بعض المتحذلقين ليوجهوا إليكم سؤالًا من قبيل: “هل خفتم؟” بأكثر نغمات الصوت تهورًا لديهم ، فهؤلاء هم عديمو الأفق الذين يجدون المدد والعون في التوتر السائد، وعليه، وجب أن نقول إن فتح صفحة جديدة لا ينبع من خوف أو ما شابه، بل ينبع من حبّ وطننا تركيا.
بقي أن نقول إن هناك من لم يخف وينحني أمام محاولات التخويف والتهديد والوعيد، ولا يجب أن ننسى أن هناك سعيا في كل الحقب في سبيل “استئصال شأفة” البعض في هذا البلد، إلا أنه ينبغي لنا أن نتذكر أن الدولة لا يمكنها أبدًا القضاء على أي حقيقة اجتماعية.
إن المشهد الحالي في تركيا واضح للعيان، فكل من لم يمنح صوته لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات يشعر بالقلق والانزعاج من وتيرة الأحداث، ويجب أن يُزال التوتر الاجتماعي بسهولة، كما يلزم عدم تكرار الأحداث المؤلمة التي عشناها مرات عديدة في الماضي.
لا شك في أن الجميع يعلم أن المنطق السليم سائد بين قاعدة حزب العدالة والتنمية، غير أن الجميع يعرف كذلك أن الساحة يزداد فيها المتملقون أو الملكيون أكثر من الملوك، وإن اللغة التحريضية التي تستخدمها هذه الفئة لا تضر حزب العدالة والتنمية، بل تضر وحدة تركيا واستقرارها، وإن هذا الأسلوب المحرض والمدمر يغفَل عنه البعض اليوم بسبب نزوة محددة، لكن لا شك في أن السلام المجتمعي سيدفع فاتورته غالية جدًّا.
يجب على تركيا أن تنقذ نفسها في أسرع وقت ممكن من هذا الاستقطاب الذي لا يمكن بأي حال مواصلته في المستقبل، وينبغي لكل مسؤول، في الوقت الذي تؤسس فيه الموازنات من جديد، أن يتذكر الوحدة الاجتماعية والحقوق والحريات الأساسية، وإلا فإن تركيا ستفقد الفرص التاريخية في الداخل والخارج، لتجد نفسها تلعب في دوري الهواة.. حفظنا الله…
هذا التمييز سيضركم
عمدت إدارة حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى تطبيق إجراءات تمييزية إزاء العديد من الصحف والقنوات التلفزيونية في مؤتمر الحزب الأخير، ولم تسمح لبعض الصحفيين بدخول قاعة المؤتمر، وكانت الحكومات العسكرية، لا سيما حكومة انقلاب 28 فبراير / شباط 1997م، تتبع هذه الطريقة نفسها في التعامل مع وسائل الإعلام، فهل أصبح لجوء الحزب الحاكم اليوم لهذه الطريقة شيئًا مناسبًا وعاديًا؟ وماذا يسمي من يرددون عبارة “تركيا الجديدة”، ليل نهار، هذا الإجراء؟ فهذه هي “تركيا القديمة جدًّا” بعينها!
عندما كنا نشهد مثل هذه الإجراءات التعسفية في الماضي، كانت الأصوات المعارضة تتعالى من كل فئة من فئات المجتمع، لا سيما الطبقة المحافظة، وكان العسكر يردون على هذه الانتقادات بقولهم: “إن هذه الإجراءات تطبَّق في العديد من دول العالم”، نعم، هذا صحيح، فإجراء التمييز بين الصحفيين يطبَّق في عدد من الدول الديمقراطية، لكن أحدًا لا يمكن أن يصادف تطبيقًا غير منطقي كالذي يطبَّق في تركيا اليوم.
إن الغرض من تطبيق عملية التمييز هو ضمان مشاركة المراسلين من أصحاب الخبرة في الاجتماعات التي تتطلب خبرة خاصة في مواضيع النقاش، فعلى سبيل المثال يسمح فقط بمشاركة الإعلاميين ذوي الخبرة في المجال العسكري في المؤتمرات والاجتماعات ذات الصلة بهذا المجال حتى يستطيعوا تغطية المؤتمر بشكل كامل والاهتمام بجميع التفاصيل الكبيرة والصغيرة، ولهذا السبب تجدون مراسلين متخصصين في المجال العسكري والدفاعي في الصحف والقنوات التليفزيونية، ولا يمكن تطبيق إجراء التمييز على المجموعات الإعلامية جملة واحدة بسبب معتقداتها أو أيديولوجياتها أو مواقفها السياسية، وإذا حدث شيء كهذا، فلا يمكن أن نطلق وصف الديمقراطية على إدارة هذا البلد…
هل تعلمون ما هو أكثر الجوانب غرابة وإيلاما في هذا الأمر بالنسبة لتركيا؟ هو سكوت بعض زملائنا من الإعلاميين على هذه الواقعة على الرغم من تعرضهم للتمييز قبل ذلك، انظروا إلى ما كتبه وقاله في الماضي أولئك الذين يُحدثون جلبة اليوم بسؤالهم “لماذا دُعي فلان للمشاركة في ذلك البرنامج في القصر الجمهوري؟“، وحينها ستفهمون كيف أن هذه الوضعية أليمة للغاية.
كان بعض الإعلاميين من زملائنا يصولون ويجولون بأصواتهم العالية وأقلامهم القوية في الصحف والقنوات التليفزيونية في وقت من الأوقات، لكنهم اليوم يصمتون وكأنهم ابتلعوا ألسنتهم في مواجهة لجوء الحكومة الحالية إلى الإجراءات غير الديمقراطية ذاتها التي كانت تطبَّق في الماضي، وهو ما يوضح لنا عيانًا بيانًا المعنى الحقيقي لمصطلح “تركيا الجديدة” التي يتحدثون عنها، ألا يستطيع أحدكم أن يكتب جملة مفيدة واحدة فيما يتعلق بحرية الإعلام! بالله عليكم، هل أُسِرتم إلى هذا الحد!
ثمة جانب مضحك آخر لهذه القضية: إن البرنامج التليفزيوني الذي قلتَ أنك طبقت عليه التمييز، يُبث في الواقع مباشرة في العديد من القنوات، فما هو الذي تحظره إذًا؟ فلا يمكن فرض حظر مضحك كهذا على برامج تبث مباشرة في أي دولة في العالم، فهذا هو خسوف العقل بالضبط، آمل ألا يكملوا السير في طريق المحظورات هذا.
لقد ثبت بالتجربة أن الظلم الذي يمارسه البعض تحت مسمى التمييز يضر بصاحب الحظر، وليس بالمؤسسة الإعلامية، وإذا كان ثمة عار، فلا يلحق بالمظلومين، بل بالظالمين المتكبرين، ويعرف جيدًا أصحاب المواقف المشرفة فيما يتعلق بالحقوق والحريات الأساسية في تركيا، وكذلك أولئك الذين ينظرون للوضع من خارج تركيا ويؤمنون بذلك، يعرفون أن ما يحدث هو تناقض فاضح وأن هناك جريمة تمييز ترتكَب، ويا له من شيء محزن أن يقع من عارضوا عمليات التمييز في الماضي واعتبروها إجراء معاديا للديمقراطية، في الخطأ نفسه وباستعمال الحجج ذاتها، فهل هناك من يدافع عن عكس هذه الوضعية؟
“إن الذين يهاجمون رؤساء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية وهيئة أركان الجيش يرتكبون خطأً تاريخيًّا، لأننا جميعًا نحتاج إلى القانون، ولا سيما أولئك الذين يُزاولون العمل السياسي، وهل يذكر التاريخ مثالًا واحدًا على دولة سعدت وتقدمت بالظلم والجور؟“.