ذُكر مصطلح “أهل الكتاب” في القرآن أربعًا وعشرين مرة إشارة إلى اليهود والنصارى على وجه التحديد، لكن سياق هذه الآيات القرآنية وسباقها يختلفان؛ فبعضها يمدح أهل الكتاب لإيمانهم بالآخرة وأعمالهم الصالحة كما في (سورة آل عمران: 3/113)، والبعض الآخر يعنفهم لأنهم ضلوا عن سبيل الله U كما في (سورة آل عمران: 3/99)، وثمة مجموعة أخرى من الآيات تدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين كما في (سورة آل عمران: 3/64)، في حين أن مجموعة أخرى تشير إلى وجود علاقة حميمة بين المسلمين والمسيحيين كما في (سورة المائدة: 5/82). وقد ظلت العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) موضوعًا للنقاش بين المسلمين لقرون طويلة. واستندت نظرة الإسلام المتعلقة بعلاقات المسلمين بأهل الكتاب مباشرة لتلك الآية الشهيرة في القرآن الكريم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ (سورة آل عمران: 3/64).

وتعد هذه الآية التي نزلت في السنة التاسعة من الهجرة (629م) من أعظم الدعوات العالمية الشاملة للتعايش معًا في عهد النبي محمد .

وقد خَصصت كتب الفقه الإسلامية فصولًا لشرح الوضع الفقهي لأهل الكتاب في الإسلام، وقَدّمت الدولة العثمانية نموذجًا رائعًا لمفهوم التسامح الإسلامي مع الرعايا غير المسلمين وبخاصة أهل الكتاب. وقد زادت أهمية هذه القضية في عالمنا الحديث بسبب الحاجة الماسة للحوار والتفاهم بين الأديان، ونحن نهدف من خلال هذا المقال إلى توضيحِ أفكارِ عالِم ديني تركي معاصر وهو فتح الله كولن (المولود عام 1938م)، حيث إن أفكاره تعد من الأهمية بمكان فيما يتعلق بالحوار الإسلامي المسيحي في عالمنا الحديث.

وكُولَن معروف بأنه أحد روّاد الحوار بين الأديان منذ أوائل الثمانينات من القرن العشرين، فقد وضع الحجر الأساس لفهم إسلامي لحوار الأديان[1]. ومن أجل إدراك أهمية هذا الإنجاز ينبغي أن نفهم ونستوعب المنظور الذي ينطلق منه كولن في هذا الموضوع.

ولذلك فإن هدف هذا المقال هو:

أولًا: تقديم هذا المفكر الإسلامي العظيم للقارئ الغربي.

ثانيًا: عرض أفكاره -بشيء من التفصيل- حول تلاقي الأديان الرئيسة في العصر الحديث وبخاصة الحوار الإسلامي المسيحي.

واعظ مفكر

خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي كانت أعداد غفيرة ومتزايدة من الجماهير تتجمّع في أيام الجُمع في مساجد “أَدِرْنَه” و”إزمير” و”إسطنبول” للاستماع إلى واعظ شاب متجول يتمتع بموهبة القدرة على التحدث عن قيم الإسلام الأساسية من خلال أسلوب خطاب عصري متميز يعي أهمية العلم والثقافة التي توفرها المدارس والجامعات التي كان يرتادها الكثير من جمهوره.

وقد حظي كولن نفسه بتعليم إسلامي تراثي جيد، فقد ولد في 10 نوفمبر 1938م بمحافظة أرضروم شرق الأناضول؛ إنه تبنى الهويةَ التركية الجديدة في عنفوان شبابه وكان يبحث عن طرق لتطبيق أسلوب حياة صحابة الرسول على المجتمع الحديث. وممن لعب دورًا كبيرًا في تكوّن خطه الفكري هذا والدُه الذي كان على علاقة وثيقة بالطرق الصوفية في أرضروم، إلى جانب التصور الديني لتلاميذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِي (1876-1960م) الذين اتسعت دائرة دعوتهم في منتصف القرن العشرين. والحقيقة أن كولن قبيل العشرين من عمره بدأ يقرأ بشكل منتظم أعمالَ النورسي، وهذه التجربة تنطوي على أهمية كبرى لا يستهان بها في تطوير أفكاره الشخصية.

وبينما كانت والدة كولن السيدة رفيعة مُدَرِّستَه الأولى في القرآن إلا أنه -وبجانب المدرسة الابتدائية- كان يتردَّد على الشيخ محمد لُطْفِي أفندي الذي ينتمي إلى الطريقة القادرية الصوفية. من الواضح أنه كان مصدر إلهام للشاب كولن مع أننا لا نعرف الكثير عن حياته، فقد أحيا فيه رغبةَ نذر حياته كلها للعيش وفقًا للقيم الإسلامية.

وكان لأبيه “رَامِزْ أَفَنْدِي”، أثر كبير في ابنه؛ فهو مدرِّسه الأول للغة العربية والذي أعطاه مدخلًا واسعًا إلى عالم الصحابة والسلف الصالحين في الإسلام. فبالإضافة إلى أفكار الشخصيات الدينية من السلف أمثال الحسن البصري (ت. 728م)، والحارث المحاسبي (ت. 857م)، وأبي حامد الغزالي (ت. 1111م)، وجلال الدين الرومي (ت. 1276م)، أقبل كولن على قراءة مؤلفات كاتبَين هنديين وهما: أحمد الفاروقي السرهندي (1564-1624م) وشاه ولي الله الدهلوي (1703- 1762م)، كما قرأ أيضًا بعض كتب الأدب الكلاسيكي الغربي مثل أعمال “فيكتور هوجو”، و”ويليام شكسبير” و”أونري دي بالزاك”.

ولقد كانت أعمال أحمد السرهندي من الأهمية بمكان عند كولن؛ وذلك بسبب تأكيده على الالتزام بالإسلام في ضوء روح الحقيقة المحمدية. وكان السرهندي نقشبنديًّا، كما أن عددًا كبيرًا من رسالاته وكتاباته الأخرى اهتمت بتجديد التعليم الروحي لهذه الطريقة من خلال تأكيده على أولوية اتّباع سنة النبي [2].

والحقيقة أن كولن ظل يدرِّس كتب هؤلاء العلماء المسلمين البارزين لوقت طويل-مثل “المكتوبات” وهو من أهم الكتب لأحمد السرهندي- للطلاب الذين كانوا يحضرون حلقته التعليمية. فالسرهندي لم يتخل عن التصوف ولكنه وجد طريقة لتجديده ليناسب عصره، وهذه هي البصيرة التي أثارت اهتمام كولن، فلم يتبع كولن وتلاميذه أفكار السرهندي خطوة بخطوة، وإنما استلهموا منه أن التزام السنة وإحياءها هو الأساس في أي ارتقاء روحي.

وثمة فكرة أخرى في هذا الصدد تناولها السرهندي بالبحث في كتاباته وهي مفهوم “الخليلية”[3].

وقد شرح يوهانان فريدمان هذه الفكرة الأساسية للسرهندي فيقول:

“إن المعلم الهندي تحدث عن أهمية ارتباط المسلم بأخيه بعلاقة روحية “الخلة” كارتباط سيدنا محمد بخليل الله إبراهيم…”.

وأضاف يوهانان فريدمان قائلًا:

“هذه الخليلية التي هي أسمى معاني الحب هي العامل الرئيس في خلق عالم الخلة ووجوده المستمر، تلك الخلة كانت في الحقيقة تعود إلى إبراهيم خليل الله، وعندما وصل إلى هذه المكانة الرفيعة فقد أصبح إمامًا للجميع، ولهذا أُمِرَ سيدنا محمد باتّباع ملته”[4].

وبعد ذلك أصبحت هذه الفكرة مصدر إلهام لكثير من القادة الروحانيين أمثال النورسي وكولن ليعقدوا علاقة ما مع كل من يتبع دين إبراهيم حتى ولو مع من هم خارج الأمة الإسلامية من “أهل الكتاب”.

أما شاه ولي الله الدهلوي فيمكن القول بأن كولن استفاد منه في دور التصوف الإسلامي التقليدي في العالم الحديث؛ إذ أصر شاه وليّ الله على أنه ينبغي للمفكرين الإسلاميين مزج الدروس المستفادة من شيوخ الصوفية القدامى بالأصول الإسلامية، وقال:

“إن المتصوفة الذين يجهلون القرآن والسنة، وكذلك العلماء غير المهتمين بالجانب الروحي، كلا الفريقين قاطع طريق ولص لهذا الدين”[5].

وكانت كتب النورسي تُقرأ أيضًا بشكل واسع في الأوساط التي نشأ فيها كولن، فقد انتشرت أعماله -وبخاصة رسائل النور- انتشارًا واسعًا في أواسط القرن العشرين، حتى إنها أصبحت المادة الإسلامية الأكثر قراءة في البلاد في تركيا بعد صحيحي البخاري ومسلم. وقد بدأ كولن بقراءة رسائل النور في ستينات القرن العشرين عندما التقى لأول مرة بتلاميذ النورسي في بلده أرضروم، والذين كانوا يشكلون العمود الفقري لحركة النور الناشئة في ذلك الوقت. وبالرغم من أن كولن لم يكن مرتبطًا عضويًّا بهذه الحركة -ولم يكن بالفعل تابعًا للنورسي من كل النواحي- إلا أنه بدأ يقتبس الكثير من أفكار النورسي في خطبه ومواعظه عندما أصبح خطيبًا وواعظًا في مدينة “أَدِرْنَـه” في أوائل الستينات من القرن العشرين.

 

الإسلام والحوار مع الأديان العالمية

لقد بادرت بعض الشخصيات الإسلامية البارزة في تركيا الحديثة لبناء علاقات مع أتباع الديانات المختلفة في إطار فكرة التسامح والحوار. وقد أثمر نظام “المِلل” العثماني تجاربَ رائعة لعلاقات أكثر تناغمًا بين الأديان المختلفة؛ فلم تكن الدولة العثمانية تتكون من المسلمين فحسب، بل من العديد من المجموعات المسيحية واليهودية وحتى من بعض الديانة الزردشتية (المجوسية) أيضًا. وقبل ظهور الأفكار القومية العصرية نجح المسلمون والمسيحيون واليهود في التعايش داخل مناخ سلمي ومثمر في العصر العثماني أكثر مما كان الوضع بعد ذلك في مرحلة متأخرة من القرن العشرين. ونستطيع أن نزعم أن هذا التراث من الاعتراف المتبادل فيما بين أفراد المجتمعات ذات الديانات المختلفة يرجع -ولو جزئيًّا- إلى تعاليم بعض العلماء الروحانيين الأتراك مثل: أحمد يَسَوِي (ت. 1166م) ويونس أَمْرَه (ت. 1321م) والحاج بَيرام الولي (القرن 15 الميلادي)، وآق شمس الدين (القرن 15 الميلادي)، الذي كان شيخًا لمحمد الثاني (محمد الفاتح). وقد تحلى جميع أرباب القلوب هؤلاء في تلك المرحلة المبكرة جدًّا بروح وأفكار التسامح بين الأديان، وإلى حد ما، الحوار بين الأديان.

ويُعد كولن أحد الممثلين المعاصرين لهذا التقليد الروحي، فعند دراسة فكره بتعمق يتضح أنه أحد علماء المسلمين القلائل في عصرنا هذا والذين يدعون إلى الحوار والتسامح بين الجماعات المسلمة المختلفة -التي تختلف فيما بينها في عدة جوانب مهمة- وبين أصحاب الديانات الأخرى.

وعند التأمل في أفكار كولن حول حوار الأديان نلاحظ أنه يؤصّل لفكرة التسامح في ضوء المبادئ الإسلامية الرئيسة، متخذًا “البسملة” نقطة انطلاق؛ لما فيها من تكرار لاسمي الله “الرحمن” و”الرحيم”، فإن الله تعالى يريد أن يُعلّم المسلمين بتلك العبارة -إلى جانب حِكَمها الأخرى- أن يكونوا رحماء في علاقاتهم مع الآخرين من الناس وحتى مع الطبيعة. ويرى كولن أنه ينبغي التفكر كثيرًا والوقوف طويلًا على حكمة تكرار هذه العبارة مائة وأربع عشرة مرة في القرآن.

ويقول كولن في إحدى مقالاته:

“إن الرحمة هي الخميرة الأولى للوجود، وبدونها يصبح كل شيء في فوضى، وكلُّ شيء إنما جاء إلى الوجود بالرحمة؛ ويبقى في الوجود بالرحمة، وبالرحمة يكون كل شيء في نظام”.

“…فكل شيء في الوجود يفكر في الرحمة وينطق بالرحمة ويبشر بالرحمة، وبذلك يمكن النظر إلى الكون على أنه سيمفونية من الرحمة.
كل الأصوات والأنفاس على اختلافها وتعددها، وكل الأنغام الزوجية والفردية تترنم بالرحمة في إيقاع بحيث يكون من المستحيل ألا يدركها المرء أو لا يشعر بالرحمة الواسعة التي تحيط بكل شيء.

فيا ويح الأرواح التعسة التي لا تستطيع رؤية ذلك…

…إن الإنسان -بوصفه إنسانًا- مسؤول عن إبداء الرحمة بشكل مركز تجاه المجتمع الذي يعيش فيه وتجاه الإنسانية وحتى نحو جميع ذوي الأرواح، وكلما كان رحيمًا أصبح أكثر رُقيًّا، وكلما لجأ إلى الشر والظلم والقسوة كان حقيرًا وعارًا على الإنسانية”[6].

ويمكننا فهم تصور كولن عن نوعية الرحمة التي يقصدها هنا بشكل أفضل من خلال ما ذَكره في مقابلة أجراها معه الصحفي التركي “أيوب جَانْ”، فمن هذه المقابلة يتضح أن مفهوم الرحمة عند كولن يتسع ليبدأ من تأثره الشديد وتألّمه لضحايا الأسلحة الكيماوية المساكين في شمال العراق، ويمتدّ ليشمل رهافة حسّه التي تجعله يحترم حياة مخلوق ضئيل كالحشرة مثلًا؛ لأن التربية التي تلقّاها والمعارف التي حصّلها ترشِد إلى أن كل مخلوق مهما كانت ضآلته فإنه يسبّح ربّه سبحانه بلغته الخاصة به، ومن ثمّ فإنه يستحق الرحمة والتقدير الملائمين.

ونستطيع أن نقول: إن ثمة تشابهًا بين الموروث الروحي عن الطبيعة وبين منهج كولن الحديث؛ فعلى سبيل المثال يقال: إنه كان قد طُلب من “يونس أَمْرَه” ومن بعض المريدين الآخرين إحضار باقة من الزهور لمرشدهم وشيخهم؛ حيث أراد الشيخ أن يعين خليفة له، ولهذا فقد رأى أن يختبر مجموعة من تلامذته المرشحين لهذا المنصب. وفي المساء حضر الجميع وفي يد كل واحد منهم باقة من الزهور ما عدا “يونس أَمْرَه”، فقد جاء خالي اليدين، وعندما سأله الشيخ لماذا لم يأتِ بالزهور قال: “إنه كلما كان ينوي قطف زهرة كان يسمع تسبيحها؛ ولهذا فلم يستطع قطف أيّ زهرة”.

تلك القصة المعروفة ترسم صورة توضيحية رائعة للفهم الروحي للطبيعة الذي يميز المرشدين الربانيين كما يميز كولن أيضًا.

وبعد أن وضحنا كيف تتماشى نظرة كولن للرحمة مع أفكار التصوف الأصيل، يمكن لنا الآن التركيز على مفهوم “الحُبّ” الذي اتضح لنا من خلال كتاباته؛ ففي حديثه عن الحب في التقليد الروحي يركز كولن اهتمامه على أحد أسماء الله الحسنى وهو “الودود” كما تناوله الفكر الروحي، يقول كولن -ما معناه-: إنه يتوقع من المسلمين أن يعكسوا هذه الصفة في حياتهم وأن يصبحوا أمة مُحِبّة، كما كان سعيد النورسي الذي جعل الحب شعار فلسفته الخاصة. يقول كولن:

“لا سلاح أقوى في الكون من الحب”[7].

يتضح فهم كولن للحب من خلال عباراته التالية:

“الحب هو العنصر الأساس في كل كائن موجود، وهو نور مشع وقوة هائلة تستطيع مقاومة أي عدو والتغلب عليه. الحب يسمو بكل روح تتشربه ويُعِدّها للعوالم الأخرى، وهذه الأرواح التي ذاقت الخلود وشعرت به تضحِّي بأنفسها لغرس ما تلقته في الأرواح الأخرى وغمرها به. ولأجله تتحمل جميع أنواع الصعاب حتى النهاية، تموت وتحيا مرارًا في هذا الطريق؛ وتلهج ألسنتها بـالحب عند الموت، وتشهق بالحب عند البعث”[8].

من الواضح إذًا أن مفهومَي: الرحمة والحب مبدآن أساسيان في أفكار كولن. وبالإضافة إلى ذلك فهو يدعو بصوت قوي إلى التسامح والصفح والتواضع، وهذه قيم إسلامية أخلاقية أساسية مرتبطة ومعتمدة على بعضها البعض. وفي إحدى المقالات تحدث كولن عن التسامح حيث يقول:

“إن هؤلاء الذين يغلقون طريق التسامح ليسوا سوى أشخاص وحشيين فقدوا آدميتهم…

…ونعتقد أن العفو والصفح والتسامح ستضمد الجراح وترأب الصدع طالما هذا السلاح السماوي في أيدي من يفهمون لغته وإلا فمعالجتنا الخاطئة ستنتج العديد من التعقيدات الجديدة وتربكنا”[9].

يجد كولن جذور هذه الأفكار في سنة نبي الإسلام نفسه ويستشهد بحديث يقول فيه : “وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ[10]. وأسس كولن لحوار الأديان من هدي هذا الحديث الذي يعد محورًا للأخلاق الإسلامية وفي رأيه أن الحوار سيكون النتيجة الطبيعية لتطبيق الأخلاق الإسلامية؛ أما الشخص الذي يؤمن بأفضليته على غيره فلن يرغب في الحوار، وفي المقابل فإن المتواضع الحق يملك القدرة على تسوية الخلافات بالحوار مع الآخرين.

فتح الله كولن والحوار بين الأديان

تُعد تركيا ذات أهمية كبيرة من وجهة نظر الفاتيكان، ولذلك وبعد أن تولى البابا يوحنا بولس الثاني البابوية عام 1979م قام بزيارة تركيا، وكانت تلك هي الزيارة الأولى له لبلد أجنبي، أما زيارة فتح الله كولن للبابا يوحنا بولس الثاني في عام 1997م فهي تمثل خطوة مهمة في اتجاه العلاقات الإسلامية المسيحية وبخاصة في تركيا، ولكن وفي نفس الوقت أدت هذه الزيارة أيضًا إلى إبراز جميع آراء المعارضين لوجهة نظر كولن. لقد تزامنت زيارة كولن مع وقت أصبح فيه حوار الأديان ضرورة لدرء الصراع، وبالرغم من أن فكرة “صمويل هنتينجتون”[11] حول “صراع الحضارات” المزعوم كانت تزداد قوة إلا أن كولن رأى أن هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهد لإقامة الحوار.

بسبب هذه المقابلة تلقى كولن ورفاقه دعمًا شعبيًّا واسعًا في بلده تركيا، غير أنه انتُقِد بشدة من قبل مجموعتين: العلمانيين المتشددين ومجموعة صغيرة من الإسلاميين المتشددين، إلا أن المجموعتين اختلفتا في طريقة وأسباب انتقادهم لكولن.

أما نقد العلمانيين المتشددين لكولن فقد تركز على الرأي القائل بضرورة التفويض المطلق من قِبل الدولة[12]، وحيث إن الدولة لم تقم بتفويض كولن فلم يكن له الحق في أن يتكلم مع شخص مثل “البابا يوحنا بولس الثاني” من تلقاء نفسه. وقد نتج هذا التفكير عن رغبة الحكومة في السيطرة على جميع أنواع المبادرات الشخصية ولذلك ترى هذه المجموعة من العلمانيين أنه كان ينبغي لـكولن الحصول على تصريح حكومي للقاء الزعماء الدينيين البارزين الأجانب، حتى ولو من أجل تعزيز حوار الأديان.

وقد كان رد فعل الإسلاميين المتطرفين بعد زيارة كولن مختلفا؛ فقد اعتبروا زيارة كولن نوعًا من التذلل، إذ إنهم يرون أن المسلم لا يليق به أن يذهب لزيارة غير المسلم، كما اعتقدوا أيضًا أن ذهاب مثل هذا القائد الإسلامي الديني البارز لزيارة قائد ديني كاثوليكي يمكن أن يتسبب إلى حد ما في تنصر بعض المسلمين.

ولكن هذه -من وجهة نظر كولن- ليست صورة الإسلام الصحيحة؛ حيث إن الإسلام قد ساند مسألة الحوار مع أصحاب الديانات الأخرى وطبّقه منذ بداية ظهوره. ومن المهم أن يتخلص الناس من هذه الصورة؛ لأن هذا الخوف من حوار الأديان، وادعاء أنه قد يتسبب في اعتناق المسلمين للأديان الأخرى؛ غير صحيح على الإطلاق، وهذا الموقف ينبع -في رأي كولن- من ضعف الثقة بالإسلام[13]. يقول كولن:

“إن الإنسانية تمر الآن بعصر المعرفة والعلوم، وإن العلوم سوف تحكم العالم على نطاق أوسع في المستقبل، ولذلك فإن معتنقي الدين الإسلامي -بمبادئه التي يدعمها العقل والعلم- ينبغي ألا يتشككوا أو يجدوا أي صعوبة في محاورة معتنقي الأديان الأخرى”.

وهو يرى أيضًا أن الحوار ليس مجرد جهد إضافي وتكميلي، بل هو أمر مُحتّم. ويعتقد كولن أن هذا الحوار هو أحد واجبات المسلمين في الأرض من أجل جعل عالمنا أكثر سلامًا وأمنًا[14].

لكن هاتين المجموعتين اللتين تُعارضان كولن هما في الواقع مجموعتان هامشيتان تضمان نسبة ضئيلة فقط من المجتمع التركي، أما الأغلبية فقد دعمت لقاء كولن بالبابا، والذي كان له نتائج إيجابية، إحداها جاءت في هيئة مؤتمر للأديان المختلفة تنظمه إحدى منظمات حوار الأديان وهي وقف الصحفيين والكتاب في تركيا، وقد عقد هذا المؤتمر الذي سُمي بـ”ندوة إبراهيم ” في جنوب شرق تركيا في مدينة صغيرة تدعى “أُورْفَا” يُعتقد أنها مكان ولادة النبي إبراهيم. كما أثمرت هذه الزيارة أيضًا فكرة تأسيس جامعة لحوار الأديان بالمدينة نفسها وما زالت زيارة كولن للبابا تأتي بثمارها في الحوار بين المجموعات المختلفة، وقد دعت منظمة استلهمت أفكار كولن بـ”شيكاغو” حوالي ثلاثين ممثلًا للجماعات الدينية المخلتفة إلى “تركيا” لحضور مؤتمر حول حوار الأديان. وكان من ثمار هذه الزيارة أيضًا أن ممثل الفاتيكان في تركيا لعب دورًا فعالًا من أجل تطوير العلاقات بين المسلمين والمسيحيين.

ويرى كولن وضوح الحاجة لإقامة حوار إسلامي مسيحي لإظهار حقيقة العلاقة بين العلم والدين في الكتب السماوية، فقد ظل العلم عدوا للدين في الغرب لعدة قرون، وعانت المسيحية الكثير من جراء ذلك. ومن خلال الحوار الإسلامي المسيحي يكون بإمكان كلتا الملتين إظهار حقيقة العلاقة مرة أخرى بين الدين والعلم. يقول كولن:

“إذا لم يكن هناك سبب آخر لتعزيز الحوار الإسلامي المسيحي فإن هذا السبب يعد كافيا لإقامة هذا الحوار؛ وذلك لما ينطوي عليه من أهمية كبرى”[15].

ويدعو كولن المسلمين إلى القيام بالنقد الذاتي، ويبين أن عليهم ألّا يحوِّلوا الإسلام إلى أيديولوجية؛ حيث إن ذلك قد دفع بالإسلام إلى الحلبة السياسية؛ مما منع المسلمين من الدخول في حوار مع معتنقي الديانات الأخرى. وفي هذا الصدد يقول كولن:

“إن الأيديولوجيات تُفرّق ولا تجمع، هذه حقيقة اجتماعية وتاريخية”[16].

ويرى كولن أن الإسلام لا بد وأن يُنظر إليه على أنه دين متمثل في العقل والقلب والحياة اليومية، ولا ينبغي أن يُتخذ وسيلة للموالاة الحزبية الأنانية والكراهية الشخصية أو القومية ومشاعر العداء.

وبالرجوع إلى حدث تاريخي وقع في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز يؤكد كولن أن مرجعية المسلمين لا بد وأن تكون مبنيّةً على أساس المبادئ الإسلامية. إن الولاة الأمويين كانوا يأخذون الجزية من رعاياهم من غير المسلمين وحتى من الذين اعتنقوا الإسلام بدعوى أنهم اعتنقوا الإسلام لكي لا يدفعوا الجزية. وعندما تولى عمر بن عبد العزيز الحُكم ألغى هذا التطبيق، وعزل الجرَّاحَ بنَ عبد الله الحكميَّ عن إمرة خراسان لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارًا منها، فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدَّوا الجزية، فكتب إليه عمر: “إن الله إنما بَعث محمدًا داعيًا، ولم يبعثه جابيًا”[17]. وفي إشارة إلى الحديث النبوي الذي يقول: “يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا[18]، ويضع كولن فكرته عن حوار الأديان في محور هذه الآية القرآنية:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات: 49/13). ونلاحظ في كتابات كولن أنه يتناول الأسس الدينية للحوار ويلفت النظر إلى الجوانب المتاحة للحوار مع النصارى في الإسلام.

فهو يرى أن الإسلام يفرض على المسلمين احترام أتباع الأديان السماوية إلى جانب الإيمان بأصول أديانهم وأنبيائهم. فالمسلم يؤمن بمحمد وفي الوقت ذاته يؤمن بإبراهيم وموسى وداود وعيسى والأنبياء الآخرين . فإن عدم الإيمان بالرسل المذكورين في القرآن يكفي لجعل الشخص خارج دائرة الإسلام.

ومن العوامل التي تسهم في مصداقية كولن أيضًا وتشهد له بموضوعيته وصراحته، علاقاتُه الجيدة بقيادات الأقليات في تركيا، ويكفي ذكر مثالين فقط لإعطاء فكرة عن جهوده من أجل بناء سلام بين الشعوب.

أولًا: من المعروف أن وضع اليونانيين في تركيا يتأثر بالسياسيين اليونانيين والأتراك بشكل يومي، ولما شرع كولن في نشاطاته الحوارية في أواخر الثمانينات أصبح أملًا وضامنًا لليونانيين في تركيا. والأقليات اليهودية والمسيحية كانت تدعم كولن في مبادرته هذه بقوة. وأقام أيضًا علاقات جيدة مع البطريرك اليوناني الأرثوذكسي “بارثولوميوث”.

ثانيًا: على الرغم من المعارضة الشديدة عمل كولن على تأسيس برنامج تعليمي في أرمينيا، وحث بعض رجال الأعمال الأتراك على بناء مدرسة ثانوية في “إريفان” عاصمة “أرمينيا” لخدمة جيل الشباب في البلاد، كما أقامت مجموعة أخرى من رجال الأعمال الأتراك مدرسة ثانوية في موسكو بناء على نصيحة كولن، واليوم يتم القيام بمبادرة مشابهة لتأسيس مدرسة ثانوية في “اليونان”. وتوضح جهود كولن هذه رغبته في إقامة جسور فيما بين الشعوب والثقافات المختلفة من أجل تقليل حدّة العداوة. ويعتقد كولن أن الذين تلقوا علما جيدا من الأتراك هم الذين سيكون لديهم القدرة على المشاركة الكاملة في تقدم الإنسانية. وهو مع ذلك يرى أن نشاطاته ليست قومية؛ بل هي من أجل خير البشرية كلها، فلا ينبغي الاعتقاد بأنها محدودة داخل تركيا. فكولن يبحث إذًا عن حوار بين الحضارات.

ويعتقد كولن أن كل البشر عبيد لله تعالى، بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية، وأن الإسلام يهتم بالبشرية كلها على السواء، فــ”الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ[19]. وإنَّ رَفْضَ الإسلامِ للأفضلية على أساس اللون أو القومية أو الجنس أو المكان أو المهنة لهو من أكبر الدلائل على عالميته. حيث يقول نبي الإسلام: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى[20][21].

ويرى كولن أيضًا أن الميل نحو التحزب كامن في الطبيعة البشرية، ولذلك ينبغي أن يكون الهدف هو إزالة الجانب المضر من هذا الميل، بل تحويله إلى النفع، فبدون وجود قناة إيجابية للتنفيس عن ذلك الميل داخل البشر سيتطور في اتجاه سلبي. وإذا تم تحفيز هذا الوضع بأمراض مختلفة، مثل الجهل والسلوك الهمجي والتطرف فستتصارع المجتمعات بشدة ودون توقف. وبالمقابل كلما انتشر العلم والعرفان والتسامح كان المجتمع أقرب للوصول إلى “خط السلام” في اتجاه التفاهم والتصالح الاجتماعي[22].

وفي الختام نستطيع أن نزعم أنه وعلى الرغم من النقد الذي وجهه المتشددون إلى كولن وجهوده من أجل الحوار إلا أن المبادئ القرآنية توفر أساسًا قويًّا لمنهجه تجاه الحوار مع أهل الكتاب ومعتنقي الأديان الأخرى. ويرى كولن -الذي يتميز بالتقوى والورع في حياته الشخصية- أن هذا عنصر أساس في الفكر الإسلامي. وفي وقت تنتشر فيه الكراهية ويُتنبأ بحدوث صِدام بين الحضارات تبدو جهود كولن ذات أهمية بالغة للإنسانية الحديثة.

 

[1]     “سَلْجُوقْ جَامْجِي (Selçuk Camcı)” و”قدرت أُونَالْ (Kudret Ünal)”: “جو التسامح والحوار (Hoşgörü ve Diyalog İklimi)” في خطب وكتابات فتح الله كولن، (إزمير: “مركور ياينلاري (Merkür Yayınları)”، 1998م)، ص. 37، بـ[اللغة التركية].

[2]     انظر الشيخ أحمد السرهندي: فكره ومنزلته في عين الجيل الجديد، واي. فريدمان (مونتريال ولندن، 1971م)؛ وارث النبي: الشيخ أحمد السرهندي (1564- 1624م) صوفيا (ليدن: معهد هيت أوسترس، 1992م).

[3]     ينظر النُّورْسي إلى مفهوم الخلة على أنه طريقة التنفيذ في رسالته عن الإخلاص. انظر: بديع الزمان سعيد النُّورسي: رسائل النور، اللمعات، ص. 219-231، (دار النيل، 2011م).

[4]     الشيخ أحمد السرهندي: فريدمان، ص. 18-19.

[5]     من كتاب “الدين والفكر عند شاه ولي الله الدهلوي”، ص. 78.

[6]     فتح الله كولن: “العصر والجيل-1 (Çağ ve Nesil-1)”، “الرحمة”، ص. 67، (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية].

[7]     فتح الله كولن: “نحو الفردوس المفقودة (Yitirilmiş Cennete Doğru)” ، “الحُبّ”، ص. 106، (نيل ياينلاري (Nil Yayınları)، إسطنبول – 2012م) بـ[اللغة التركية]. قارن ذلك بمقولة النُّورسي: “نحن فدائيو المحبة وليس عندنا وقت للكراهية”. (بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، الخطبة الشامية، دار النيل، ص. 494).

[8]     فتح الله كولن: “نحو الفردوس المفقودة، “الحُبّ”، ص. 104.

[9]     فتح الله كولن: “العصر والجيل-1” ، “التسامح”، ص. 71.

[10]      صحيح مسلم، البر، 69.

[11]      صمويل فلبس هنتينجتون: صراع الحضارات وإعادة صنع النظام الدولي، (نيويورك: تتش ستون، 1997م).

[12]      انظر مجلة “الحياة الجديدة (Yeni Hayat)”، نجيب هابليميت أوغلو، عدد 52، بـ[اللغة التركية].

[13]  سلجوق جامجي وقدرت أونال: “جو التسامح والحوار، ص. 37.

[14]      المصدر السابق، ص. 38.

[15]      المصدر السابق، ص. 31. انظر أفكار كولن عن الموضوع في مقال “عثمان بكار” في هذا الكتاب.

[16]      انظر تفاصيل رأي كولن حول تلك النقطة في المصدر السابق ص. 23-26.

[17]      ابن كثير: البداية والنهاية، 9/188.

[18]      صحيح البخاري، العلم، 11؛ صحيح مسلم، الجهاد، 6.

[19]      الطبراني: المعجم الكبير، (10/86 ).

[20]      مسند الإمام الأحمد، 38/474؛ الطبراني: المعجم الكبير، (18/12 ).

[21]      سلجوق جامجي وقدرت أونال: “جو التسامح والحوار، ص. 32.

[22]      المصدر السابق، ص. 72- 73.

فهرس الكتاب

Leave a Reply

Your email address will not be published.