هل القويّ مُحقّ؟ أم المُحقّ قويّ؟ .. هذا نقاش قديم، ولقد بحث العالم الإسلامي، الذي عاش الظلم على مدار سنوات طويلة، عن إجابة لهذا السؤال، وفرض القرآن الكريم والسنة النبوية والتجارب التاريخية حكمًا قاطعًا على المسلمين، ألا وهو: “الأصل هو الحقّ، وليس القوة”، وإذا أصبحتم أقوياء تجدون أن الإسلام يحذركم من أن تظلموا ويدعوكم إلى العدل، وقد أدركت البلدان التي نعتبرها تحكم بأنظمة ديمقراطية هذه الحقيقة عن طريق التجارب المريرة، ومن ثم استحدثت القواعد والمؤسسات التي تراقب السلطة وتحقق التوازن داخل الدولة.
إن الأعداد (الكثرة) تخدع الإنسان في معظم الأحيان، وتجعله مدللًا ووقحًا وطاغية، ذلك أن الأصل هو تذكّر واستحضار الحق واستخدام القوة في إطار العدل، والقرآن الكريم يحذر مرات عديدة أولئك الذين أفقدتهم الأرقام صوابهم وحصروا الحق والعدل في دعم الأغلبية، ونجد سورة التكاثر تنبهنا إلى عاقبة الاستسلام والخضوع لجاذبية وقوة الكمّ والعدد، وعلى سبيل المثال يفسر أحد مؤلفات رئاسة الشؤون الدينية التركية هذه السورة على النحو التالي: “إن كلمة التكاثر الواردة في الآية الأولى من السورة تعني الدخول في منافسة من أجل تكثير الأشياء التي يتباهى ويلهو بها الإنسان، بحسب ظروف كل عصر، مثل المال والولد والمساعدين والخدم والحشم وغير ذلك، بشكل دائم وبحرص كبير، دون السعي لتحقيق هدف سام أو تحديد غاية لذلك، وبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق أكبر قدر من الكسب دون التفكير في أي مسؤولية معنوية أو أخلاقية”.
ويقول الله في أول آيتين من سورة التكاثر: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ (سُورَةُ التَّكَاثُرِ: 102/1-2)، وتشير الآيات إلى أناسٍ يعدون حتى أقاربهم الذين في القبور من أجل إظهار أنفسهم أقوياء ومحقين في سباقهم على “التكاثر”.
كما تطرقت الآيات للحديث عن العرب في الجاهلية؛ حيث تقول إنهم كانوا يعدّون أجدادهم وأولادهم وأموالهم وممتلكاتهم من أجل الفخر والتباهي، وتضيف معنى عميقًا على المعنى الأساسي: الافتخار بكثرة الأنصار .
لقد انفلت العالم وصار من الصعب السيطرة عليه، وللأسف دُمر توازن المسلمين المبني على أسس الإيمان والإسلام والإحسان، لا سيما وأن التيارات التي يطلق عليها مصطلح “الإسلام السياسي” أضفت على مصطلح “الإرادة الشعبية المنعكسة من صناديق الانتخابات” دلالة إيمانية، وبطبيعة الحال هناك مكانة معقولة وتوضيح مقبول لدعم الجماهير، غير أن حصر الحق والعدل في الأعداد يمكن أن يكون وسيلة لانحراف ظالم، والتاريخ مليء بكثير من الأمثلة على ذلك، هذا فضلًا عن أن ربط كل شيء بالدعم الشعبي يتضمن في داخله طرحًا مليئًا بالتناقضات، فعلى سبيل المثال، إذا اختزلتم المعيار الأساسي في الأصوات المكتسبَة، كيف يمكنكم أن تنجوا بأنفسكم من هذا النوع من الأسئلة؟: “كنتم قد حصلتم على أصوات قليلة للغاية في الماضي، فإذا كان معياركم هو كمية الأصوات المكتسبَة في الانتخابات، فهل كنتم “الباطل” بالأمس وأصبحتم “الحق” اليوم؟ وإذا تغيرت الموازين غدًا، فهل سترجعون إلى مقام “الباطل” مرة ثانية؟”، والسؤال الأصعب: “هناك الكثير من الزعماء والتنظيمات السياسية التي فازت في الانتخابات، فهل يمكن أن نعتبر أن حصولهم على نسبة عالية من أصوات الناخبين دليلا على أن السياسات التي ينتهجونها مبنية على الحق والعدل؟”
الموضوع الأصلي هو أن الأحزاب والجماعات والجمعيات ترغب في الانتشار، ويجب على الجميع في هذا الإطار ألا يصبحوا ضحايا لخمر القوة وسطوتها، ويناصروا الحق والعدل ويتجنبوا الانفصال عنهما والانحناء أمام الظلم الفاسد للأغلبية، لا سيما إذا كان لديكم تحدٍ مثل “تنشئة جيل جديد”، فعليكم أن تشغلوا أنفسكم بشكل أكبر بمسألة الكيف أو النوعية، ولا تنسوا: لم يوجد ما يسمى جماعة المنافقين في أول 15 عاما من ظهور الإسلام، ولم يكن ثمة مصطلح كهذا، وعندما تحول الإسلام عقب النصر في غزوة بدر إلى مركز قوة اجتماعية، بدأ المنافقون، ممن يظهرون ما لا يبطنون ويجعلون الكذب شغلهم الشاغل، في التظاهر وكأنهم مسلمون، وشهدت تلك الحقبة تسلل البعض ممن يبحثون عن مصلحة أو يحملون خوفًا بداخلهم إلى صفوف المسلمين، وقد كشف القرآن الكريم والنبي عن هؤلاء الأشخاص المفسدين مثيري الفتن، ويلفت ربنا انتباهنا إلى فساد أصحاب المنافع والخوافين حتى في أنقى حقب التاريخ، هذا ما يعني أن فتنة المجاهدين المزيفين ستستمر إلى يوم القيامة، وأن هذه الفئة ستكون قبلتها دائما متجهة إلى من بيده القوة، ولأن المنافق يقف إلى جانب القوي دومًا، فهو مجبر على أن يحجز لنفسه مكانًا في صفوف الظالمين.
إن السعي للتقدم والازدهار والتعاظم بصورة مفاجئة ودون الاتعاظ من الأخطاء التاريخية، واعتمادا على أجيال تلقت تعليمًا ناقصًا، واهتمت بالقشور وأهملت اللب؛ لن يصل بمن يقومون بهذا العمل إلى مرادهم أو تحقيق أهدافهم، كما لن يصل من عقدوا آمالهم على عباراتكم الذهبية إلى مآربهم، أما إذا كنتم تريدون تنشئة أجيال تكرّس حياتها لخدمة أمتها وتضحي بكل ما تملك في سبيل رفعة مجتمعها، فعليكم أولًا أن ترسوا أسس الحق والعدل، ذلك أنه لا يوجد جيل خيّر أخرجه الظالمون، ولا يمكن أن يكون!
لا بدّ من القانون
يتعرض الأبرياء للظلم منذ أشهر في تركيا، فيُعزَل جزء من موظفي الدولة من مناصبهم، وأما الجزء الآخر فينفى إلى أماكن بعيدة عن مقار إقامتهم، يتعرض رجال الأعمال لعمليات التصنيف حسب الانتماء بشكل فظّ، ويفد إلى شركاتهم موظفو الضرائب، ينشرون أكثر الأخبار والشائعات سفالةً من أجل هدم بنك من البنوك “بنك آسيا (Bank Asya)”وإشهار إفلاسه، ويعمدون إلى إغلاق المؤسسات التعليمية استنادًا إلى أسباب وحجج واهية، ويتعرض واحد من أفضل العلماء الذين أنجبتهم تركيا لأقذر الشتائم وأقذعها على الإطلاق، .. لم تشهد تركيا مناخًا كهذا منذ أن ظهرت على مسرح التاريخ.
لقد انتُهك القانون ولا يزال يُنتهك في تركيا، وهناك رغبة في إدانة بعض الأشخاص الأبرياء من خلال إجراءات تعسفية جائرة، وبطبيعة الحال، فإن الإجراءات المطلوب تنفيذها هي من النوع المخالف للقانون ومن قبيل الجرائم الثقيلة، وعندما تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية في تركيا، سيحاسب القانونُ كل من سولت له نفسه تنفيذ إجراءات مخالفة للقانون لإرضاء السلطة الحاكمة، ولا مفر من هذه المحاسبة على أية حال، وربما يلجأ من أصدروا الأوامر والتعليمات الشفهية إلى القضاء والإدارة في سبيل تنفيذ إجراءات تنتهك القانون مستقبلًا إلى الحيل والخداع من أجل الدفاع عن أنفسهم، لكن من نفذوا هذه التعليمات لن يجدوا مكانًا يهربون إليه، ذلك أن من أصدروا التعليمات الشفوية سيتركون شركاءهم في الجريمة بمفردهم يواجهون المجهول.
نشهد تنظيم حملات سحق لمن رفضوا تنفيذ المطالب غير القانونية، وكان رئيس المحكمة العليا “علي ألكان” قد أفاد، خلال مراسم افتتاح السنة القضائية، بأن القضاء يتعرض لضغوط، ليترك لنا وثيقة تاريخية، وإذا دققنا يومًا ما مسألة انتهاك السياسة لاستقلال القضاء وحياده، سيكون ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه ألكان حجّةً مهمة.
تحدث رئيس المحكمة الدستورية “هاشم كِيلِيتش (Haşim Kılıç)” بشكل واضح وصريح جدًّا في كلمته التي ألقاها خلال مراسم افتتاح السنة القضائية أيضًا، وأوضح بلهجة صريحة أن هناك حملة لتشويه بعض الأشخاص من خلال بلاغات، وأن هؤلاء الأشخاص يصنفون بحسب انتماءاتهم دون وثيقة أو دليل ملموس، وأنه لم يعر اهتمامًا لتقارير التصنيف بحسب الانتماءات التي جاءته، بل لم ينظر إليها أصلا؛ لأن عملية التصنيف بحسب الانتماءات جريمة دستورية يعاقب عليها القانون، وهذا ما لا يليق برئيس المحكمة الدستورية! ولا شك أن هجوم الموالين للحزب الحاكم بكل ما أوتوا من قوة على رئيس المحكمة الدستورية لهو دليل أليم على المرحلة التي وصلنا إليها، وهو انعكاس للطغيان والضلال.
وكان بعض الصحفيين قد وجهوا أسئلتهم إلى رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال “نجدت أوزَل (Özel)”، فأجابهم، وأظهر الموقف القانوني نفسه الذي أظهره رئيس المحكمة الدستورية، ليعطي درسًا في الديمقراطية لبعض “المدنيين”، وهل يمكن أن يكون هناك شيء طبيعي أكثر من طلب شخص يحمل صفة رئيس هيئة أركان الجيش أدلة ملموسة لتبرير صحة الادعاءات؟ وكان “رجب طيب أَرْدُوغَانْ” و”عبد الله كُولْ” وسائر أعضاء حزب العدالة والتنمية يعارضون فيما مضى الادعاءات المفتقدة إلى الأدلة، وتذكروا -إن تكرمتم- ما قاله مسؤولو الحزب بشأن الجنود الذين أقيلوا بقرارات مجلس الشورى العسكري الأعلى، وقد عبر رئيس هيئة أركان الجيش اليوم عن الفكرة نفسها، انظروا إلى هذه المفارقة: ففي الوقت الذي كان العسكر يصنفون الناس حسب انتماءاتهم والسياسيون يقاومونهم بالأمس، تطالب الكوادر السياسية نفسها اليوم بتنفيذ إجراءات منافية للقانون من خلال تصنيف الناس حسب انتماءاتهم دون أدلة أو براهين، فيما نرى العسكر يشددون على ضرورة اتباع القواعد القانونية العالمية.
إن الذين يهاجمون رؤساء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية وهيئة أركان الجيش يرتكبون خطأ تاريخيًّا، لأننا جميعًا نحتاج إلى القانون، ولا سيما أولئك الذين يزاولون العمل السياسي، وهل يذكر التاريخ مثالًا واحدًا على دولة سعدت وتقدمت بالظلم والجور؟ ويجب أن تعود تركيا إلى أبسط مبادئ القانون العالمي وتقلع عن “مطاردة الساحرات” التي عفا عليها الزمن، في ظل المرحلة الجديدة التي تشهدها بعد انتخاب رئيس جديد ورئيس وزراء جديد وحكومة جديدة.
بانوراما
تعتبر شخصية السياسي “برهان أوز فاتوره (Özfatura)” شخصية ذات خبرة كبيرة محبة للحق، وديمقراطية ومحافظة، وكان قد أفصح عن تحذيرات مهمة جدًّا جديرة بأن يسجلها التاريخ، قائلا إن الظلم الذي تعيشه تركيا حاليًا يفوق كثيرًا ما عاشته إبان انقلابي 1980م و1997م، ولأن أوز فاتوره يتمتع بعلاقات حميمة وقوية بجميع الفئات السياسية والمجتمعية تقريبًا، لقيت تصريحاته أصداء بين قاعدة حزب العدالة والتنمية، وصارت الأغلبية العظمى داخل الحزب تشتكي من الظلم الواقع، ولا شك في أنه من المفيد أن يأخذ من جاروا على الجميع وظلموهم بشكل أو بآخر التحذيرات الموجَّهة إليهم على محمل الجد، فالضمير الجمعي يغلي داخليًّا حتى وإن لم تلاحظ قمة الحزب هذا الغليان إلى الآن.
وكان السيد “بُولَنْت أَرِينْتش” قد صرح بقوله: “انتسبت إلى هذه الحركة منذ 30 عامًا، ولم أسمع من أفواه أتباعها أية كلمة ذات صلة بالفساد حتى حلول يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013م…” ، وفي الحقيقة، إن هذا الحُكم هو دليل براءة “حركة الخدمة”، وليس دليلًا على إدانتها، ذلك أن الناس لم يكونوا يعرفون السرقة أو الفساد حتى يتحدثوا، ولقد دُهش الجميع عندما كُشف النقاب عن مجموعة من الوثائق صبيحة يوم 17 ديسمبر، وفي الواقع، كان هناك من يعرفون كيف تورَّطوا في ممارسات الفساد والرشوة قبل الكشف عنها، وعلى سبيل المثال، كانت صحيفتا “يَنِي شَفَقْ” و”أَكْشَامْ” قد تحدثتا عن رجل الأعمال الإيراني “رضا ضراب” وشحنات الذهب قبل أشهر من الكشف عن فضيحة الفساد، حتى أنهما نشرتا أخبارًا رئيسية على صدر صفحاتهما تتناول هذه القضية.
ومثال آخر، أعد جهاز المخابرات الوطني تقريرًا قبل ثمانية أشهر، وحذر رئيس الوزراء أَرْدُوغَانْ، وأفاد بأن “ضراب” يدير أعمالًا منافية للقانون مع بعض الوزراء، وأن هذه الأعمال ربما تضر به شخصيًّا، فماذا نفعل؟ فكما قال السيد “أَرِينْتش” “كنا سُذّجًا جدًّا وخُدعنا…” وكان هناك بعض المطلعين على أمور السرقة والفساد والرشوة، فيا ليت السيد “أَرِينْتش” كان قد استمع إليهم.
“وفي الوقت الذي وَجّه فيه مسؤولو الحزب الحاكم في تركيا اتهاماتٍ للأبرياء من أبناء حركة الخدمة بالانتماء لما يسمى “الكيان الموازي“، نجدهم قد ابتلعوا ألسنتهم وصاروا خُرسًا أمام المزاعم التي اعترفت بصحتها أمريكا وألمانيا بشأن تنصتهما على تركيا، فلماذا إذن؟ وقد كانت تركيا قد تحدَّت هاتين الدولتين وغيرهما في الماضي، فلماذا تصمت الآن أمام هذه الفضيحة الكبيرة؟“.